الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
فسخ البيع بسبب عدم لزوم العقد
المبحث الأول
فسخ العقد بسبب وجود خيار في العقد
[م-646] إذا عرفنا الخيار في العقد: بأنه حق العاقد في فسخ العقد أو إمضائه لظهور مسوغ شرعي، أو بمقتضى اتفاق عقدي
(1)
.
فإننا نعرف بذلك الارتباط الوثيق بين الخيار والفسخ، فالخيار ما شرع إلا لأجل التحلل من رابطة العقد، فهو يحول العقد اللازم كعقد البيع إلى عقد جائز.
وقولنا: الخيار في العقد: بأنه حق العاقد في فسخ العقد أو إمضائه يعني ذلك أن الخيار راجع إلى إرادة العاقد.
والخيار بأنواعه المختلفة إنما شرع لدفع الضرر عن العاقد، وهذا الضرر تارة يكون متوقعًا، وتارة يكون واقعًا.
أما دفع الضرر المتوقع، فشرع الله له خيار المجلس وخيار الشرط، وذلك لدفع ضرر يتوقع العاقد حصوله، فيستدركه في مجلس العقد، أو في مدة الخيار، ويتخلص منه، وذلك أن العقد قد يقع بغتة من غير ترو ولا نظر في القيمة، فاقتضت محاسن الشريعة أن يجعل للعقد خيار يتروى فيه العاقدان، ويعيدان النظر، ويستدرك كل واحد منهما ما فاته بأن يفسخ العقد قبل لزومه.
(1)
الموسوعة الكويتية (20/ 41).
وإما لدفع ضرر واقع، كخيار العيب، والتدليس، والنجش وتلقي الركبان، والشفعة ونحوهما، فإن الإنسان بطبيعته البشرية - كما أخبر الله عنه- ظلوم جهول، فقد يتعرض أحد العاقدين من الآخر للغش والتدليس أو غيرهما من أنواع الظلم، فجعل الشرع للعاقد الذي وقع تحت تأثير الغش والتدليس أن يدفع عنه هذا الضرر بثبوت الخيار له في هذه الحالة، فيفسخ العقد، ويتحلل من لزوم العقد، فكان ثبوت الخيار من محاسن التشريع التي لا بد منها لدفع الضرر، والله أعلم.
فالغاية من مشروعية الخيار يرجع إلى سببين: إما التروي وجلب المصلحة، وإما تكملة النقص ودرء الضرر؛ لأن الخيار إما أن يكون من جهة العاقد، أو من جهة المعقود عليه.
فإن كان الخيار من جهة العاقد: فهو خيار التروي: ويقال له: خيار النظر والتفكر في الأمر والتبصر في إمضاء البيع أو رده، وله سببان: أحدهما: المجلس. والثاني: الشرط، وهذا القسم هو الذي ينصرف إليه بيع الخيار عند إطلاقه في عرف الفقهاء.
وإن كان من جهة المعقود عليه فهو خيار النقيصة: وهو ما موجبه ظهور عيب أو استحقاق، فيثبت بفوات أمر مظنون، نشأ الظن فيه من التزام شرعي، أو قضاء عرفي، أو تغرير فعلي. أو ظهور استحقاق في المبيع كتمه البائع
(1)
.
[م-647] فمثلًا خيار المجلس: يرى الشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
، والظاهرية
(1)
انظر مواهب الجليل (4/ 409)، منح الجليل (5/ 112).
(2)
روضة الطالبين (3/ 96)، شرح النووي على صحيح مسلم (10/ 173).
(3)
المبدع (4/ 63)، مسائل أحمد رواية صالح (2/ 254).
إلى أن كل واحد من العاقدين يملك فسخ العقد والرجوع عن البيع ما دام العاقدان في مجلس البيع لم يتفرقا بأبدانهما بمقتضى خيار المجلس.
وقيل: البيع لازم، ولا يملك أحد العاقدين الرجوع عن العقد إلا برضا صاحبه، ولا يشرع خيار المجلس، وهذا مذهب الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
.
وقد تكلمنا عن أدلة الأقوال في كتاب الخيار فأغنى عن إعادتها هنا.
[م-648] وأما خيار الشرط، وهو خيار يشترطه أحد العاقدين أو كلاهما، بموجبه يكون لمن له الخيار الحق في فسخ العقد في خلال مدة معينة، فإن لم ينقضه نفذ
(3)
.
وقد ذهب الأئمة الأربعة إلى القول بخيار الشرط، وأن من اشترط الخيار له
(1)
قال في الهداية (3/ 21): «وإذا حصل الإيجاب والقبول لزم البيع، ولا خيار لواحد منهما» ، وانظر شرح معاني الآثار للطحاوي (4/ 17)، البحر الرائق (5/ 284)، الدر المختار (4/ 528) مطبوع مع حاشية ابن عابدين، تبيين الحقائق (4/ 3)، بدائع الصنائع (5/ 228)، حاشية ابن عابدين (4/ 528).
(2)
نقل الحطاب في مواهب الجليل (4/ 410) قوله: «قال في الجواهر: ولا يثبت خيار المجلس بالعقد، ولا بالشرط» قال الحطاب تعليقًا: «يعني: أنه لا يثبت بمقتضى العقد كما يقول ابن حبيب والشافعي، ولا بالشرط إذا شرطاه، أو أحدهما، بل يؤدي إلى فساد العقد إذا شرطاه، والله أعلم» .
وقال ابن جزي في القوانين (ص: 180): «خيار المجلس باطل عند مالك، والفقهاء السبعة بالمدينة، وأبي حنيفة .. » ، وانظر مواهب الجليل (4/ 409) شرح الزرقاني للموطأ (3/ 406)، التاج والإكليل (4/ 228)، الفواكه الدواني (2/ 84)، الذخيرة (5/ 20)، التفريع لابن الجلاب (2/ 171)، المفهم (4/ 381).
(3)
مصادر الحق (4/ 199).
الحق في فسخ العقد بعد إبرامه
(1)
.
وقيل: لا يصح اشتراط الخيار للبائع، أو لهما، ويجوز اشتراطه للمشتري وحده، وهو قول ابن شبرمة، والثوري
(2)
.
وقيل: لا يصح اشتراط الخيار مطلقًا في عقد البيع إلا أن يقول أحدهما حين يبيع أو يبتاع: لا خلابة، ثم هو بالخيار ثلاثة أيام، وهذا اختيار ابن حزم
(3)
.
وقد تكلمنا عن أدلة الأقوال في كتاب الخيار فأغنى عن إعادتها هنا.
[م-649] وأما خيار العيب، فهو خيار متفق عليه بين أهل العلم.
قال ابن قدامة: «متى علم - يعني المشتري - بالمبيع عيبًا، لم يكن عالمًا به،
(1)
انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (5/ 174)، تبيين الحقائق (4/ 14)، العناية شرح الهداية (6/ 298 - 299)،فتح القدير (6/ 298)، البحر الرائق (6/ 2)، الفتاوى الهندية (3/ 38)، البناية للعيني (7/ 74).
وانظر في مذهب المالكية: الفواكه الدواني (2/ 82)، شرح ميارة (2/ 3)، الكافي لابن
…
عبد البر (ص: 343)، التلقين (2/ 363)، حاشية الدسوقي (3/ 91)، المعونة (2/ 1042)، الشرح الكبير (3/ 91)، مواهب الجليل (4/ 409)، بلغة السالك (3/ 79)، الاستذكار (21/ 97)، الذخيرة (5/ 23).
وانظر في مذهب الشافعية: الحاوي الكبير (5/ 65)، البيان في مذهب الإمام الشافعي (5/ 29)، مغني المحتاج (2/ 46)، نهاية المحتاج (4/ 11)، حواشي الشرواني (5/ 592)، المجموع (9/ 173) و (9/ 268).
وانظر في مذهب الحنابلة: الإنصاف (4/ 373)، الروض المربع (2/ 72)، الكافي (2/ 45)، المبدع (4/ 68)، المحرر في الفقه (1/ 262)، المغني (4/ 18).
(2)
انظر المحلى (7/ 265)، فتح القدير (6/ 302)، البحر الرائق (6/ 3).
(3)
أبطل ابن حزم اشتراط الخيار في البيع إلا بصيغة واحدة، أن يقول العاقد حين يبيع أو يبتاع: لا خلابة، ثم إن شاء رد بعيب أو بغير عيب، أو بخديعة أو بغير خديعة، وبغبن أو بغير غبن، وإن شاء أمسك، فإذا انقضت الليالي الثلاث بطل خياره، ولزم البيع، انظر المحلى (مسألة: 1443).
فله الخيار بين الإمساك والفسخ، سواء كان البائع علم العيب وكتمه، أو لم يعلم، لا نعلم بين أ هل العلم في هذا خلافًا»
(1)
.
وإنما اختلفوا فيما لو رغب المشتري إمساك السلعة، فهل له أن يطالب بالأرش دون رضا البائع، فالجمهور على أنه ليس للمشتري أن يطالب بأرش العيب بدون رضا البائع، وهو رواية عن أحمد اختارها ابن تيمية
(2)
.
واختار الحنابلة في المشهور من المذهب أن المشتري مخير بين الرد، وبين إمساك المبيع مع أخذ الأرش
(3)
، وبه قال إسحاق
(4)
.
وقد تكلمنا عن أدلة المسألة في كتاب الخيار فأغنى عن إعادتها هنا.
[م-650] وأما خيار الغبن. وذلك أن يبيع السلعة بأكثر مما جرت العادة أن الناس لا يتغابنون بمثله، أو يشتريها كذلك
(5)
.
والغبن إن كان يسيرًا فلا يؤثر في صحة المعاملة، وإن كان كثيرًا فهو محرم، وهل يعطي الحق للمغبون أن يفسخ العقد؟
(1)
المغني (4/ 108)، وانظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (5/ 289)، تبيين الحقائق (4/ 34)، فتح القدير (6/ 356)، الجوهرة النيرة (1/ 197)، الفتاوى الهندية (3/ 66).
وانظر في مذهب المالكية: المنتقى للباجي (4/ 187)، المعونة (2/ 1052).
وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (11/ 362)، الحاوي للماوردي (5/ 244)، المهذب للشيرازي (1/ 284).
(2)
الإنصاف (4/ 410)، الفتاوى الكبرى (5/ 390).
(3)
المبدع (4/ 87 - 88)، الإنصاف (4/ 410)، كشاف القناع (3/ 218)، المحرر (1/ 324)، المغني (4/ 110).
(4)
المغني (4/ 110).
(5)
مواهب الجليل (4/ 468 - 469).
أما إذا كان المشتري عالمًا بالغبن، وقد دخل على بينة فليس له الحق في فسخ العقد، وحكي في ذلك الإجماع
(1)
.
أما إذا كان الغبن لم يقع تحت رضا المشتري، فهل يثبت للمشتري الخيار إذا ثبت أنه قد غبن في البيع؟ في هذا خلاف بين العلماء.
فقيل: له الخيار مطلقًا، وبه يفتى في مذهب الحنفية
(2)
، واختاره البغداديون من المالكية
(3)
، وقول في مذهب الحنابلة.
وقيل: ليس له الخيار مطلقًا، وهذا مذهب الشافعية.
قال النووي في المجموع: «قال أصحابنا: لا يثبت الخيار بالغبن، سواء أتفاحش أم لا»
(4)
.
وقيل: ليس له خيار إذا غبن إلا إذا وجد تغرير من البائع، أو كان الغبن في مال اليتيم، أو مال الوقف. وحكم بيت المال حكم مال اليتيم.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 152).
(2)
البحر الرائق (6/ 125).
(3)
قال القرطبي في المفهم (4/ 386): «الغبن هل يوجب الخيار للمغبون أم لا؟ فذهب الشافعي وأبو حنيفة ومالك - في أحد قوليه - إلى نفي الخيار، وذهب آخرون إلى لزوم الخيار، وإليه ذهب البغداديون من أصحابنا .. » .
وقال ابن العربي في أحكام القرآن (4/ 224): «كل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث، واختاره البغداديون» .
(4)
المجموع (11/ 572)، وقال النووي في الروضة (3/ 470):«مجرد الغبن لا يثبت الخيار وإن تفاحش، ولو اشترى زجاجة بثمن كثير يتوهمها جوهرة فلا خيار له، ولا نظر إلى ما يلحقه من الغبن؛ لأن التقصير منه حيث لم يراجع أهل الخبرة» .
وفي شرح الوجيز (8/ 338): «اعلم أن مجرد الغبن لا يثبت الخيار، وإن تفاحش خلافًا لمالك» .
قال ابن نجيم الحنفي: وهو جواب ظاهر الرواية
(1)
، وهو قول في مذهب المالكية
(2)
.
وقيل: ليس له خيار إلا في صورتين في بيع الاستئمان والاسترسال، أو يكون البائع بالغبن أو المشتري به وكيلًا أو وصيًا، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية
(3)
.
والاستئمان والاسترسال: هما شيء واحد، كما ذكر العدوي في حاشيته على الخرشي
(4)
.
وهو أن يقول البائع: أنا لا أعلم قيمة سلعتي فاشتر سلعتي كما تشتري من غيري، أو يقول المشتري: أنا لا أعلم قيمة السلعة فبعني كما تبيع غيري، فيغبنه الآخر
(5)
.
وقيل: ليس له خيار إلا في ثلاث صور:
في بيع المسترسل: وهو الجاهل بقيمة السلعة من بائع أو مشتر، ولا يحسن المماكسة.
وفي زيادة الناجش: وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، ليضر المشتري.
(1)
البحر الرائق (6/ 125)، وجاء في نص مجلة الأحكام العدلية مادة (356):«إذا وجد غبن فاحش في البيع، ولم يوجد تغرير فليس للمغبون أن يفسخ البيع إلا أنه إذا وجد الغبن وحده في مال اليتيم، فلا يصح البيع، ومال الوقف، وبيت المال حكمه حكم مال اليتيم» اهـ.
(2)
منح الجليل (5/ 218 - 219)، مواهب الجليل (4/ 472)، الدسوقي (3/ 140).
(3)
مواهب الجليل (4/ 472)، حاشية الدسوقي (3/ 140)، الخرشي (5/ 152)، الشرح الصغير (3/ 190)، الذخيرة (5/ 112 - 113).
(4)
حاشية العدوي على الخرشي (5/ 152).
(5)
انظر الخرشي (5/ 152)، الشرح الصغير (3/ 190)، مواهب الجليل (4/ 470).