الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في حقيقة الإقالة
الإقالة: رفع عقد البيع وإزالته
(1)
.
[م -662] إذا تم إنهاء العقد السابق بلفظ الفسخ أو الرد، أو الترك، ولم يذكر لفظ الإقالة فإن الإنهاء بهذه الصور لا يكون بيعًا.
وإن كان إنهاء العقد الأول بلفظ البيع، كما لو قال: بعني ما اشتريت مني، فهو بيع على الصحيح، وحكاه جمع من الحنفية إجماعًا
(2)
.
ويخرق دعوى الإجماع ما قاله السيوطي في الأشباه والنظائر، قال:«لو باع المبيع للبائع قبل قبضه بمثل الثمن الأول فهو إقالة بلفظ البيع ذكره صاحب التتمة، وخرجه السبكي على القاعدة. قال: ثم رأيت التخريج للقاضي حسين. قال: إن اعتبرنا اللفظ لم يصح وإن اعتبرنا المعنى فإقالة»
(3)
.
وكذلك الحنابلة صححوا الإقالة بلفظ البيع، وبلفظ الصلح
(4)
.
وأجاز المالكية الإقالة في بعض الصور بغير لفظ الإقالة.
جاء في مواهب الجليل: «وإن أسلمت إلى رجل في طعام ثم سألك أن توليه ذلك، ففعلت جاز ذلك إذا نقدك وتكون إقالة وإنما التولية لغير البائع.
(1)
قواعد الفقه (ص:186).
(2)
انظر البحر الرائق (6/ 112)، حاشية ابن عابدين (3/ 813).
(3)
الأشباه والنظائر (ص: 167).
(4)
انظر مطالب أولي النهى (3/ 155).
قال أبو الحسن قال عياض: فأجاز الإقالة بغير لفظها وهم لا يجيزونها بلفظ البيع ابن محرز ; لأن لفظ التولية لفظ رخصة ولفظ الإقالة مثله، فعبر بأحدهما عن الآخر بخلاف البيع»
(1)
.
[م-663] أما إذا تم إنهاء العقد الأول بلفظ الإقالة، فقد اختلف العلماء في توصيف الإقالة إلى قولين:
القول الأول:
أن الإقالة فسخ، اختاره زفر من الحنفية
(2)
، وبعض المالكية
(3)
، والقول الجديد للشافعي، وهو المشهور عندهم
(4)
، والمذهب عند الحنابلة
(5)
، فإن تعذر حملها على الفسخ امتنعت.
واختار أبو حنيفة أنها فسخ في حق العاقدين فقط، بيع جديد في حق شخص ثالث غيرهما
(6)
.
(1)
مواهب الجليل (4/ 486).
(2)
لم يختلف الحنفية في أن الإقالة فسخ قبل القبض، وحكوه إجماعًا انظر البحر الرائق (6/ 111)، بدائع الصنائع (5/ 306).
(3)
حاشية الدسوقي (3/ 143)، بشرط أن تكون الإقالة بمثل الثمن من غير زيادة ولا نقصان، انظر الكافي لابن عبد البر (ص: 361)، المنتقى للباجي (4/ 281).
(4)
الأم (3/ 38، 76)، الوسيط (3/ 140)، حواشي الشرواني (3/ 192)، روضة الطالبين (3/ 495)، أسنى المطالب (2/ 74).
(5)
الإنصاف (4/ 368)، الكافي (2/ 101)، المبدع (4/ 123)، المغني (4/ 95)، كشاف القناع (3/ 248)، مطالب أولي النهى (3/ 154).
(6)
البحر الرائق (6/ 110 - 111)، الجامع الصغير (ص: 364)، المبسوط (14/ 66)، (25/ 164)، الهداية شرح البداية (3/ 54 - 55)، بدائع (5/ 306)، تبيين الحقائق (4/ 70).
واختار محمد بن الحسن أن الإقالة فسخ إلا إذا تعذر حملها على الفسخ، فتجعل بيعًا للضرورة
(1)
.
القول الثاني:
أن الإقالة بيع جديد، وهذا القول هو مذهب المالكية
(2)
،
والقول القديم
(1)
البحر الرائق (6/ 111)، الجامع الصغير (ص: 364)، المبسوط (25/ 166)، الهداية شرح البداية (3/ 55)، (5/ 306)، تبيين الحقائق (4/ 71).
(2)
واستثنى المالكية ثلاثة أشياء، تعتبر الإقالة فيها ليست بيعًا، وهي:
الأول: الإقالة في الطعام قبل قبضه، فإن الإقالة فيه لا تعتبر بيعًا، لأنها لو كانت بيعًا لأدى ذلك إلى بيع الطعام قبل قبضه، وهذا ممتنع، وإذا كانت فسخًا فلا بد من توفر شروط الفسخ، بأن تكون الإقالة بالثمن الذي وقع عليه البيع من غير زيادة ولا نقصان، ولا تغيير، ولا بد أن تشمل الإقالة جميع الطعام، فلا تجوز الإقالة في جزء منه دون جزء، ولا بد من رد الثمن وقت الإقالة دون تأخير إن كان البائع قد قبضه، وأن تكون الإقالة بلفظها، وليس بلفظ البيع. انظر المدونة (4/ 76)، الشرح الكبير (3/ 154)، حاشية الدسوقي (3/ 157)، شرح الزرقاني للموطأ (3/ 373)، التاج والإكليل (4/ 485)، التمهيد (16/ 342)
الثاني: الإقالة فيما يتعلق بالشفعة. فإن الإقالة هنا تعتبر بحكم الملغاة، ولا يلتفت إليها، ولا يحكم عليها بأنها بيع، أو أنها فسخ، فمن باع عقارًا مشتركًا، ورجع إليه بالإقالة، وأراد شريكه الأخذ بالشفعة، فإنه يأخذه بثمن البيع الأول، وتعد الإقالة لغوًا، ولا ينظر إلى الثمن الذي وقعت به الإقالة حتى لو اختلف عن الثمن الأول. فلم يعتبروا الإقالة هنا لا بيعًا، ولا فسخًا، لأن الإقالة هنا لو كانت بيعًا لكان الشفيع بالخيار في جعل عهدته على من يشاء من العاقدين؛ لأن البائع يصير مشتريًا على القول بأنه بيع، كما إذا تعدد بيع الشقص، فإن الشفيع يأخذ بأي البيع شاء، وعهدته على من يأخذ منه، كما أنها أيضًا ليست فسخًا؛ لأنها لو كانت فسخًا لامتنع حق الأخذ بالشفعة، فعلى ذلك اعتبروا الإقالة ملغاة، ورتبوا الشفعة على البيع الذي قبلها. انظر مواهب الجليل ومعه التاج والإكليل (4/ 485)، الخرشي (5/ 166)، الذخيرة (7/ 355).
الثالث: الإقالة في بيع المرابحة، فإذا اشترى رجل سلعة بعشرة، ثم باعها مرابحة بخمسة عشر، ثم استقاله المشتري، فإذا أراد أن يبيعها برأس ماله فإنه يبيعها بالثمن الأول (العشرة)، وليس بالثمن الذي حصلت به الإقالة، بخلاف ما لو ملكها عن طريق الشراء، فإنه لا يجب عليه بيان الثمن الأول. ومثله لو كانت الإقالة بأكثر من الثمن أو أنقص لم يجب عليه البيان. انظر مواهب الجليل (4/ 485)، الشرح الصغير (3/ 209 - 210).
للشافعي
(1)
، ورواية عند الحنابلة
(2)
، وهو اختيار ابن حزم
(3)
.
واختار أبو يوسف أن الإقالة بيع في حق العاقدين وغيرهما إلا أن يتعذر جعلها بيعًا، فتكون فسخًا
(4)
.
وجه من قال: الإقالة فسخ فإن لم يمكن الفسخ بطلت:
الوجه الأول:
أن لفظ الإقالة: هو رفع العقد وفسخه، فإذا كانت رفعًا فإنه لا يمكن أن تكون بيعًا؛ لأن البيع إثبات، والرفع نفي، وبينهما تناف.
أو بعبارة أخرى: «ما يصلح للحل، لا يصلح للعقد، وما يصلح للعقد لا يصلح للحل، فلا تنعقد الإقالة بلفظ البيع، ولا البيع بلفظ الإقالة» .
الوجه الثاني:
أن البيع والإقالة اختلفا اسمًا، فيجب أن يختلفا حكمًا، ولأن الأصل إعمال الألفاظ في حقائقها، فإن تعذر ذلك حملت على المجاز إن أمكن، وهنا لا
(1)
الوسيط (3/ 140)، حواشي الشرواني (4/ 392).
(2)
الكافي (2/ 101)، المبدع (4/ 123 - 124)، المغني (4/ 95).
(3)
مسألة: (1510) المحلى (7/ 483).
(4)
البحر الرائق (6/ 111)، المبسوط (25/ 166)، الهداية شرح البداية (3/ 55).
يمكن أن يحمل لفظ الإقالة على ابتداء العقد؛ لأنه ضده، واللفظ لا يحتمل ضده، فتعذر بذلك جعلها بيعًا.
الوجه الثالث:
أن الإقالة لا تصح إلا مع البائع، ولو كانت بيعًا لصحت مع غيره.
الوجه الرابع:
أن المبيع يعود إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع، ولو كانت الإقالة بيعًا لانعقد البيع بلفظها.
الوجه الخامس:
أن الإقالة تصح في بيع السلم قبل قبض المسلم فيه، مع أنه لا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه.
وقد بحثت مسألتي (بيع المسلم فيه قبل قبضه) في باب التصرف في الدين (والإقالة في بيع السلم) في عقد السلم، فالحمد لله.
وجه من قال: الإقالة فسخ فإن تعذر حملها على الفسخ كانت بيعًا:
أن الإقالة تعني الرفع والفسخ، وهذا هو الأصل، إلا أنه إذا تعذر حملها على الحقيقة، فإنها تحمل على البيع ضرورة، كما لو كانت الإقالة بأكثر من الثمن الأول، فإنه لا يمكن أن تكون الإقالة هنا فسخًا؛ لأن من شأن الفسخ أن يكون بالثمن الأول، وهنا أقاله بأكثر من الثمن الأول، فتحمل على البيع ضرورة، فإن تعذر حملها عليهما - أي على الفسخ، وعلى البيع - امتنعت كما لو كانت الإقالة بعد هلاك المبيع، أو كانت الإقالة قبل قبض المبيع بأكثر من الثمن الأول.
وجه من قال: الإقالة فسخ في حق العاقدين فقط، بيع في حق الثالث:
لم نعتبر الإقالة بيعًا في حق المتعاقدين؛ لأنه لا يمكن إظهار معنى البيع في الفسخ في حق العاقدين للتنافي بين البيع والفسخ. وأما في حق ثالث فليس هناك منافاة، وكونه بيعًا في حق الثالث أمر ضروري؛ لئلا يفوت مقصود الشارع في بعض الصور، وذلك مثل الشفعة، فإنها تثبت في البيع، ولا تثبت في الفسخ، وإذا كانت الشفعة إنما شرعت لدفع ضرر الجوار، أو الخلطة، فإذا فرض ثبوت ذلك في عود المبيع إلى البائع، ولم يثبت حق الشفعة تخلف مقصود الشارع
(1)
.
وجه من قال: إن الإقالة بيع مستأنف:
أن معنى البيع موجود فيها، إذ حقيقتها مبادلة مال بمال، وهو أخذ بدل، وإعطاء بدل، فكانت الإقالة بيعًا، والعبرة بالعقود بالمعاني، لا بالألفاظ والمباني، ولهذا أعطيت حكم البيع في كثير من الأحكام:
منها: اشتراط رضا المتعاقدين على الإقالة.
ومنها: قيام المبيع وقت الإقالة، فإن هلك المبيع امتنعت الإقالة.
ومنها: أن للبائع الرد بعد الإقالة بالعيب الحادث عند المشتري.
ومنها: أن الإقالة لا تجوز في المبيع المنقول قبل قبضه.
وجه من قال: الإقالة بيع إلا أن يتعذر حملها على البيع فتكون فسخًا
دليلهم على كونها بيعًا هي أدلة القول السابق، إلا أنه إذا تعذر حملها على البيع، كما لو كانت الإقالة في مبيع منقول قبل قبضه، فإنه لا يمكن حملها على
(1)
انظر فتح القدير (6/ 489)، تبيين الحقائق (4/ 71)، حاشية ابن عابدين (5/ 127 - 128).
البيع لأن ذلك يؤدي إلى بيع المنقول قبل قبضه، وهذا ممتنع على مذهب أبي يوسف، فتحمل على الفسخ في هذه الصورة، وفي أمثالها مما يكون البيع فيه غير جائز، والله أعلم.
الراجح:
الذي أميل إليه أن الإقالة فسخ بشرط أن تكون بمثل الثمن الأول، فإن كانت بأكثر منه، أو بأقل، أو بثمن مختلف عن الثمن الأول فإنها بيع من البيوع يشترط فيها ما يشترط في البيع، فإن قيل: كيف تعتبر فسخًا في حال، وبيعًا في حال، وحقيقتها واحدة؟ فالجواب:
أن الأصل أنها فسخ لما كان ذلك يؤدي إلى رفع العقد، ورجوع المبيع إلى البائع، والثمن إلى المشتري، ولكن لما اختلف الحال، بأن كان الثمن بأكثر من الثمن الأول علمنا أن العاقدين لم يريدا من لفظ الإقالة الفسخ، وإنما أرادا والله أعلم عقدًا آخر ولكنهما استعملا لفظ الإقالة، والعبرة في العقود بالمعاني، فلو قال: وهبتك هذا بعشرة كان بيعًا، وإن استعمل لفظ الهبة، لأنه حين ذكر العوض خرج من حقيقة الهبة إلى حقيقة المعاوضة، والله أعلم.
* * *