الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما حديث أنس فلم يأت إلا من طريق أيوب السختياني عن أنس (1)، ولم يسمع أيوب من أنس (2) عندهم شيئًا.
قال: وقد روي عن الحسن (3) مرسلًا "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يسلمون تسليمة واحدة"(4)، ذكره وكيع عن الربيع عنه، قال:"والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة، وهو عمل قد توارثه أهل المدينة كابرًا عن كابر، ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل في كل بلد؛ لأنه لا يخفى، لوقوعه في كل يوم مرارًا".
[الكلام على عمل أهل المدينة]
قلت: وهذا أصل قد نازعهم فيه الجمهور، وقالوا: عمل أهل المدينة كعمل غيرهم من أهل الأمصار، ولا فرق بين عملهم وعمل أهل الحجاز والعراق والشام (5)، فمن كانت السنة معهم فهم أهل العمل المتبع، وإذا اختلف علماء
(1) رواه ابن أبي شيبة (1/ 301)، والبيهقي في "الخلافيات"(1/ ق 111/ أ) من طريق جرير بن حازم عن أيوب به. وسنده منقطع، كما سيأتي قريبًا. وجاء من طريق حميد عن أنس، ورجاله ثقات، ومضى بيان ذلك قريبًا.
(2)
قاله أبو حاتم في "المراسيل"(رقم 39)، وأحمد، كما في "جامع التحصيل"(ص 176)، و"تحفة التحصيل"(ص 35)، وقال ابن حبان في "الثقات" (6/ 53):"قيل إنه سمع من أنس، ولا يصح ذلك عندي". وانظر: "شرح علل الترمذي"(2/ 590) وفيه (2/ 702): "وقال الأثرم عن أحمد: جرير بن حازم يروي عن أيوب عجائب"، وهذه علّة أخرى للحديث.
(3)
في مطبوع "الاستذكار": "الحسين"، وهو خطأ.
(4)
رواه ابن أبي شيبة (1/ 334) من طريق الربيع عن وكيع به.
والربيع هذا هو ابن أنس، قال أبو حاتم والعجلي: صدوق، وقال النسائي: ليس به بأس، ولم يتكلّم فيه ابن حبان إلا من رواية أبي جعفر الرازي حيث قال: الناس يتّقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه؛ لأن في أحاديثه عنه اضطرابًا كثيرًا.
فلا داعي إذن أن يقول فيه ابن حجر في "التقريب": صدوق له أوهام؛ لأن أوهامه من رواية أبي جعفر فقط.
ورواه عبد الرزاق (3145) عن جعفر بن سليمان عن الصلت بن دينار عن الحسن به.
والصلت هذا متروك.
(5)
انظر كلام ابن القيم على عمل أهل المدينة النبوية في "بدائع الفوائد"(4/ 32)، و"زاد المعاد"(1/ 110)، وانظر "مجموع الفتاوى"(20/ 229 - 310) و"صحة أصول أهل المدينة" كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، و"المستصفى"(1/ 187) =
المسلمين لم يكن عمل بعضهم حجة على بعض، وإنما الحجة اتّباع السنة، ولا تُترك السنة لكون عَمَل بعض المسلمين على خلافها أو عَمِل بها غيرُهم، ولو ساغ ترك السنة لعمل بعض الأمة على خلافها لتُرِكَت السنن وصارت تبعًا لغيرها، فإن عَمِل بها ذلك الغير عُمِل بها وإلّا فلا، والسنة هي العيار على العمل، وليس العمل عيارًا على السنة، ولم تضمن لنا العصمة قط في عمل مصر من الأمصار دون سائرها، والجدران والمساكن والبقاع لا تأثير لها في ترجيح الأقوال، وإنما التأثير لأهلها وسكانها، ومعلوم أن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وظفروا من العلم بما لم يظفر به من بعدهم، فهم المُقدَّمون في العلم على من سواهم، كما هم المقدّمون في الفضل والدين، وعملهم هو العمل الذي لا يُخالف، وقد انتقل أكثرهم عن المدينة، وتفرّقوا في الأمصار، بل أكثر علمائهم صاروا إلى الكوفة والبصرة والشام مثل عليّ بن أبي طالب (1)، وأبي موسى، وعبد اللَّه بن مسعود، وعُبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، ومعاذ بن جبل، وانتقل إلى الكوفة والبصرة نحو ثلاث مئة صحابي ونيَّف، وإلى الشام ومصر نحوهم، فكيف يكون عمل هؤلاء معتبرًا ما داموا في المدينة، فإذا خالفوا غيرهم لم يكن عمل من خالفوه معتبرًا، فإذا فارقوا جدران المدينة كان عمل من بقي فيها هو المعتبر، ولم يكن خلاف مَنْ (2) انتقل عنها معتبرًا؟! هذا من الممتنع، وليس جعل عمل الباقين معتبرًا أَوْلى من جعل عمل المفارقين معتبرًا، فإن الوحي قد انقطع بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولم يبق إلّا كتاب اللَّه وسنة رسوله، فمن كانت السنة معه فعمله هو العمل المعتبر حقًا، ثم كيف (3) تُترك السنة المعصومة لعمل غير معصوم؟.
ثم يقال: أرأيتم لو استمرّ عمل أهل مصر من الأمصار التي انتقل إليها الصحابة على ما أدّاه إليهم مَنْ صار إليهم من الصحابة، ما الفرق بينه وبين عمل
= للغزالي، و"المحصول"(4/ 162 - 169)، و"الإحكام" للآمدي (302 - 305)، و"الإحكام"(4/ 204 - 218) لابن حزم، (ومنه نقل المصنف كثيرًا من الأمثلة الآتية)، و"روضة الناظر"(ص 126)، و"الرسالة"(533 - 535)، و"المسودة"(ص 331 - 333)، و"إرشاد الفحول"(ص 82) للشوكاني، ورسالة الدكتور أحمد محمد نور سيف "عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين".
(1)
بعده في المطبوع: "كرّم اللَّه وجهه".
(2)
في المطبوع: "ما".
(3)
في المطبوع: "فكيف".
أهل المدينة المستمرّ على مَنْ أَدَّاه إليهم من بها من الصحابة، والعمل إنما استند (1) إلى قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفعله؟ فكيف يكون قوله وفعله الذي أدَّاه من بالمدينة موجبًا للعمل دون قوله وفعله الذي أدَّاه غيرهم؟ هذا إذا كان النص مع عمل أهل المدينة، فكيف إذا كان مع غيرهم النص، وليس معهم نصٌّ يعارضه، وليس معهم إلّا مجرد العمل؟ ومن المعلوم أن العمل لا يُقابل النص، بل يُقابَل العمل بالعمل، ويسلم النص عن المعارض.
وأيضًا فنقول: هل يجوز أن يخفى على أهل المدينة بعد مفارقة جمهور الصحابة لها سنة من سنن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويكون علمها عند مَنْ فارقها أم لا؟ فإن قلتم: "لا يجوز"، أبطلتم أكثر السنن التي لم يروها أهل المدينة، وإن كانت من رواية إبراهيم عن علقمة عن عبد اللَّه، ومن رواية أهل بيت علي عنه، ومن رواية أصحاب معاذ عنه، ومن رواية أصحاب أبي موسى عنه، ومن رواية (2) عمرو بن العاص، وابنه عبد اللَّه، وأبي الدرداء، ومعاوية، وأنس بن مالك، وعمار بن ياسر وأضعاف هؤلاء، وهذا مما لا سيل إليه.
وإن قلتم: "يجوز أن يخفى على من بقي في المدينة بعض السُّنن ويكون علمها عند غيرهم"، فكيف تُترك السنن لعمل مَن قد اعترفتم بأنَّ السنّة قد تخفى عليهم؟.
وأيضًا فإن عمر بن الخطاب كان إذا كتب إليه بعض الأعراب بسنة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عمل بها، ولو لم يكن معمولًا بها بالمدينة، كما كتب إليه الضَّحاك بن سفيان الكِلابيّ:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَرَّث امرأة أَشْيَم الضِّبابي من دية زوجها"، فقضى به عمر (3).
وأيضًا فإن هذه السنة التي لم يعمل بها أهل المدينة لو جاء مَن رواها إلى المدينة وعمل بها لم يكن عمل مَنْ خالفه حجّة عليه، فكيف يكون حجة عليه إذا خرج من المدينة؟.
(1) في (ق) و (ك): "أسند".
(2)
بعدها في المطبوع زيادة كلمة "أصحاب".
(3)
رواه ابن أبي شيبة (9/ 313)، وأبو داود (2927) في (الفرائض): باب في المرأة ترث من دية زوجها، والترمذي (1436) في (الديات)، و (2193) في (الفرائض)، وابن ماجه (2642)، وأحمد (3/ 452)، والطبراني في "الكبير" رقم (8145 و 8142)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(1496 و 1497) من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كان يقول. . . حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان.
قال الترمذي: هذا حديث حَسَن صحيح.