الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين هذا وهذا، بل قد رأينا ذلك في الباب الواحد، وهذا من أقبح التناقض.
[وجوب الأخذ بالحديث وترك كل ما خالفه]
والذي ندينُ اللَّه به ولا يَسَعُنَا غيره وهو القصد في هذا الباب أن الحديث إذا صح عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذُ بحديثه وتَرْكُ كل ما خالفه، ولا فتركه لخلاف أحدٍ من الناس كائنًا من كان لا راويه ولا غيره؛ إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديثَ، أو لا يَحْضُره (1) وقتَ الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأويلًا مرجوحًا، أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارَضًا في نفس الأمر، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه، ولو قدر انتفاء ذلك كله، ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه، لم يكن الراوي معصومًا، ولم توجب مخالفَتُه لما رواه سقوطَ عدالتِهِ حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك.
فصل [تغير الفتوى بمسألة الطلاق الثلاث حسب الأزمنة]
إذا عرف هذا فهذه المسألة مما تغيرت الفَتْوَى بها بحسب الأزمنة كما عرفت؛ لما رأته (2) الصحابة من المصلحة؛ لأنهم رأوا مَفْسَدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تندفع إلا بإمضائها عليهم، فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع، ولم يكن باب التحليل الذي لَعَنَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فاعلَه (3) مفتوحًا بوجه ما، بل كانوا أشد خلق اللَّه في المنع منه، وتوعد عمر فاعله بالرجم (4)، وكانوا عالمين بالطلاق المأذون فيه وغيره.
[لعنة التحليل بالتيس المستعار]
وأما في هذه الأزمان التي قد شَكَتِ الفروجُ فيها إلى ربها من مفسدة التحليل، وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رَمَد بل عَمًى في عين الدين وشَجًى
(1) في (ك): "يحضر".
(2)
في (ك) و (ق): "رآه".
(3)
حديث لعن المحلل والمحلل له سيأتي تخريجه مفصلًا بعد قليل.
(4)
سيأتي تخريجه قريبًا.
في حلوق المؤمنين، من قبائحَ تُشْمِتُ أعداء الدين به وتمنع (1) كثيرًا ممن يريد الدخول فيه بسببه، بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، ولا يحصرها كتاب (2)، يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح، ويعدّونها من أعظم الفضائح، قد قلبت من الدين رَسْمَه، وغيّرت منه اسمه، وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل، وقد زعم أنه قد طيّبها (3) للحليل، فياللَّه العجب! أيُّ طيب أعارَهَا هذا التيسُ الملعون؟ وأي مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدُّون؟ أترى وقوفَ الزوج المطلِّق أو الولي على الباب والتيسُ الملعونُ قد حل إزارها وكشف النقاب وأخَذَ في ذلك المرتع والزوجُ أو الولي يُنَاديه: لم يقدَّم إليك هذا الطعام لتشبع، فقد علمت أنت والزوجة ونحن والشهود والحاضرون والملائكة الكاتبون ورب العالمين أنك لست معدودًا من الأزواج، ولا للمرأة أو (4) أوليائها بك رضًا ولا فرح ولا ابتهاج، وإنما أنت بمنزلة التيس المستعار للضِّرَاب، الذي لولا هذه البَلْوَى لما رضينا وقوفَكَ على الباب؛ فالناس يُظهرون النكاح ويعلنونه فرحًا وسرورًا، ونحن نتواصَى بكتمان هذا الداء العُضال ونجعله أمرًا مستورًا؛ بلا نِثَار ولا دُفٍّ ولا خِوَان ولا إعلان، بل التواصي بهُمسَّ ومسَّ (5) والإخفاء والكتمان؛ فالمرأة تُنكَح لدينها وحسبها ومالها وجمالها، والتيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك، فإنه لا يمسك بعصمتها، بل قد دخل على زوالها، واللَّه تعالى قد جعل كل واحد من الزوجين سكَنًا لصاحبه، وجعل بينهما مودة ورحمة ليحصل بذلك مقصودُ هذا العقد العظيم، وتتم بذلك المصلحة التي شَرَعَهُ لأجلها العزيزُ الحكيم، فسَلِ التيسَ المستعار: هل له من ذلك نصيب، أو هو من حكمة هذا العقد ومقصوده ومصلحته أجنبي غريب؟ وسَلْه: هل اتخذ هذه المصابة حليلة وفراشًا يأوِي إليه؟ ثم سَلْها: هل رضيت به قط زوجًا وبعلًا تُعَوِّلُ في نوائبها عليه؟ وسل أولي التمييز والعقول: هل تزوجت فلانة بفلان؟ وهل يعد هذا نكاحًا في شرع أو عقل أو فطرة إنسان؟ وكيف يلعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلًا من أمته نكح
(1) في (و): "ويمنع".
(2)
انظر: "إغاثة اللهفان"(1/ 406 - 498 - تحقيق: محمد عفيفي)، و"مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (32/ 94 - 97 و 146 - 164 و 33/ 37 - 40)، ورسالة شيخ الإسلام:"إقامة الدليل على إبطال التحليل".
(3)
في (ق): "وطئها".
(4)
في (ك) و (ق): "و".
(5)
أشار في هامش (ق) إلى أن: "هُس: زجر للغنم".
نكاحًا شرعيًا صحيحًا، ولم يرتكب في عقده محرمًا ولا قبيحًا؟ وكيف يشبهه بالتيس المستعار (1)، وهو من جملة المحسنين الأبرار؟ وكيف تُعَيَّر به المرأة طول دهرها بين أهلها والجيران، وتظل ناكسة رأسها إذا ذكر ذلك [التيس] (2) بين النسوان؟ وسل التيس المستعار: هل حَدَّثَ نفسَه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق، بنفقة أو كسوة أو وزن صداق؟ وهل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك، أو حدثت نفسها به هنالك؟ وهل طلب منها ولدًا نجيبًا، واتخذته عشيرًا وحبيبًا؟ وسل عقول العالمين وفِطَرَهم: هل كان خير هذه [الأمة](2) أكثرهم تحليلًا، أو كان المحلل الذي لعنه اللَّه ورسوله أهداهم سبيلًا؟ وسل التيس المستعار ومن ابتليت به: هل تجمَّلَ أحد منهما (3) بصاحبه كما يتجمل الرجال بالنساء والنساء بالرجال، أو كان لأحدهما رغبة في صاحبه بحسبٍ أو مالٍ أو جمال؟ وسل المرأة: هل تكره أن يتزوج عليها هذا التيسُ المستعار أو يتسرّى، أو تكره أن تكون تحته امرأة غيرها أخرى، أو تسأله عن ماله وصنعته أو حسن عشرته وسعة نفقته؟ وسل التيس [المستعار] (2): هل
(1) تسميةُ النبي صلى الله عليه وسلم المحلِّل، بالتيس المستعار:
أخرجه ابن ماجه (1936) في (النكاح): باب المحلل والمحلل له، والروياني في "المسند"(226) والطبراني في "الكبير"(17/ رقم 825)، والدارقطني (3/ 251) -ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(رقم 1072) - والحاكم (2/ 198 - 199)، والبيهقي (7/ 208) من طريقين (عثمان بن صالح وعبد اللَّه بن صالح) عن الليث بن سعد عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بالتيس المستعار. . . ".
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وقد أعل أبو زرعة الحديث -كما نقله عنه ابن أبي حاتم (1/ 411) - بعدم سماع الليث من مشرح، وكذا أعله الترمذي في "علله الكبير".
أقول: ثبت في بعض طرق الحديث تصريح الليث بالسَّماع من مشرح قال الزيلعي (3/ 239): "قوله في الإسناد -أي إسناد ابن ماجه- قال أبو مصعب يرد ذلك" وكذلك حسنه عبد الحق في "الأحكام الوسطى"(6/ 228).
والعلة التي ذكرها ابن أبي حاتم لم يعرج عليها ابن القطان، في "بيان الوهم والإيهام"(3/ 504 - 505) ولا غيره.
وقال البوصيري (1/ 340): هذا إسناد مختلف فيه من أجل أبي مصعب.
أقول: أبو مصعب هو مشرح بن هاعان، حسن الحديث، واللَّه أعلم.
وفي (ق): "يشبه"
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك).
(3)
في (ن) و (ك) و (ق): "أحدها".