الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إليه شهرًا فأفتاهم برأيه ثم بَلَغه النص بمثل ما أفتى به (1).
[ما خفي على غير الصحابة أكثر مما يخفى على الصحابة]
وهذا باب واسع لو تتبعناه لجاء سِفرًا كبيرًا، فنسأل حينئذ فرقة التقليد: هل يجوز أن يخفى على من قلدتموه بعض شأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما خفي ذلك على سادات الأمة أولًا؟ فإن قالوا: "لا يخفى عليه" وقد خفي على الصحابة مع قرب عهدهم؛ بلغوا في الغلو مبلغ مُدّعِي العصمة في الأئمة، وإن قالوا:"بل يجوز أن يخفى عليهم" وهو الواقع وهم مراتب في الخفاء في القلة والكثرة، [قلنا] (2): فنحن نناشدكم اللَّه الذي هو عند لسان كل قائل وقلبه، وإذا قضى اللَّه ورسوله أمرًا خفي على من قلدتموه هل تبقى لكم الخيرة بين قبول قوله ورده أم تنقطع خيرتكم وتوجبون العمل بما قضاه اللَّه ورسوله عينًا لا يجوز سواه؟ فأعدوا لهذا السؤال جوابًا، وللجواب صوابًا؛ فإن السؤال واقع؛ والجواب لازم. والمقصود أن هذا هو الذي مَنَعنا من التقليد، فأين معكم حجة واحدة تقطع العذر وتسوغ لكم ما ارتضيتموه لأنفسكم من التقليد؟
[بطلان دعوى المقلدة]
الوجه الثاني: أن قولكم: "صواب المقلد في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من صوابه في اجتهاده" دعوى باطلة؛ فإنه إذا قلد من قد خالَفه غيرُه ممن هو نظيره أو أعلم منه لم يدر على صوابٍ هو من تقليدِه أم على خطأ، بل هو -كما
= (المغازي): باب غزوة خيبر، ومسلم (1939) في (الصيد والذبائح): باب تحريم أكل لحم الحمر الأنسية من حديثه قال: لا أدري إنما نهى عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أجل أنه كان حمولة الناس؛ فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرمه في يوم خيبر لحم الحمر الأهلية.
وروى البخاري (5529) في (الذبائح والصيد): باب لحوم الحمر الإنسية، قال جابر بن زيد: يزعمون أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الحمر الأهلية، فقال: قد كان يقول ذلك: الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أَبى ذلك البحر ابن عباس وقرأ:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} ، وانظر:"فتح الباري"(9/ 655) في شرح الحديث الثاني عن ابن عباس. .
(1)
مضى تخريجه وقارن الأمثلة السابقة بما في "الإحكام"(6/ 85 وما بعد) و"الرسالة" للشافعي (ص 422 وما بعد).
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
قال الشافعي (1) - حاطب ليل إما أن يقع بيده عود أو أفعى تلدغه، وأما إذا بذل اجتهاده في معرفة الحق فإنه بين أمرين إما أن يظفر به فله أجران وإما أن يخطئه فله أجر (2)، فهو مصيبٌ للأجر ولا بد، بخلاف المقلد المتعصب فإنه إن أصاب لم يُؤجر، وإن أخطأ لم يَسلمْ من الإثم، فأين صواب الأعمى من صواب البصير الباذل جهده؟.
الوجه الثالث: أنه إنما يكون أقرب إلى الصواب إذا عرف أن الصواب مع من قلده دون غيره، وحينئذ فلا يكون مقفدًا له، بل متبعًا للحجة، وأما إذا لم يعرف ذلك ألبتَّة فمن أين لكم أنه أقرب إلى الصواب من باذلِ جهده ومستفرغ وُسعه في طلب الحق؟
الوجه الرابع: أن الأقرب إلى الصواب عند تنازع العلماء مَنْ امتثل أمر اللَّه فردّ ما تنازعوا فيه إلى القرآن والسنة، وأما من رد ما تنازعوا فيه إلى قول متبوعه دون غيره فكيف يكون أقرب إلى الصواب.
الوجه الخامس: أن المثال الذي مثلتم به من أكبر الحجج عليكم؛ فإن من أراد شراءَ سلعةٍ أو سلوكِ طريقٍ حين اختلف عليه اثنان أو أكثر، وكلٌّ منهم يأمره بخلاف ما يأمره به الآخر، فإنه لا يقدم على تقليد واحدٍ منهم، بل يبقى مترددًا طالبًا للصواب من أقوالهم؛ فلو أقْدم على قبول قول أحدهم مع مساواة الآخر له في المعرفة والنصيحة والديانة أو كونه فوقه في ذلك عُدَّ مخاطرًا مذمومًا ولم يُمدح إن أصاب، وقد جعل اللَّه في فِطر العقلاء في مثل هذا أن يتوقَف أحدُهم ويطلب ترجيح قول المُخْتَلفين عليه من خارج حتى يستبينَ (3) له الصواب، ولم يجعل في فِطرهم الهجْمَ على قبول قول واحد واطِّراح قول من عداه.
الوجه السابع (4) والسبعون: أن نقول لطائفة المقلِّدين: هل تسوِّغون تقليد كل عالم من السلف والخلف أو تقليد بعضهم دون بعض؟ فإن سوَّغتم تقليد الجميع
(1) سبق تخريج ذلك عنه.
(2)
لما أخرج البخاري في "الصحيح"(كتاب الاعتصام): باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب، أو أخطأ (13/ 318/ رقم 7352)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الأقضية): باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (13/ 1342/ رقم 1716) عن أبي هريرة مرفوعًا: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب؛ فله أجران، فإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ؛ فله أجر.
(3)
في (ك): "يتبين".
(4)
في (ق) و (ك): "السادس".