الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استشكاله، فإنه جارٍ على محض القواعد كما عرفته (1).
فصل [الشرط العرفي كالشرط اللفظي]
ومن هذا الشرط العرفي كاللفظي (2)، وذلك كوجوب نَقْد البلد عند الإطلاق، ووجوب الحلول حتى كأنه مشترط لفظًا فانصرف العقد بإطلاقه إليه، وإن لم يقتضه (3) لفظه، ومنها السلامة من العيوب حتى يسوغ له الرد بوجود العيب تنزيلًا لاشتراط سلامة المبيع عُرْفًا منزلة اشتراطها لفظًا.
ومنها وجوب وفاء المسلَمِ فيه في مكان العقد وإن لم يشترطه لفظًا بناءً على الشرط العرفي.
ومنها لو دفع ثوبَه إلى مَنْ يعرف أنه يغسل أو يخيط بالأجرة أو عجينه لمن يخبزه أو لحمًا لمن يطبخه أو حَبًّا لمن يطحنه أو متاعًا لمن يحمله ونحو ذلك ممن نصب نفسه للأجرة على ذلك وجب له أجرة مثله، وإن لم يشترط معه ذلك
(1)"وقد تمّ -بحمد اللَّه وتوفيقه- الجزء الثاني من كتاب "إعلام الموقعين، عن رب العالمين"، للإمام الحجة أبي بكر شمس الدين المعروف بابن قيم الجوزلة، ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الثالث منه، وأوّله: "فصل، ومن هذا الشرط العرفي كاللفظي"، نسأل الذي بيده كل شيء أن يمن علينا بإكماله، إنه لا معين سواه"(د).
(2)
قاعدة في الشرط العرفي كاللفظي ذكرها المؤلف رحمه الله في "روضة المحبين"(ص 314 - 315)، و"بدائع الفوائد"(4/ 51)، و"زاد المعاد"(4/ 8 أو 5/ 109 - ط مؤسسة الرسالة).
وقال السيوطي في "الأشباه والنظائر"(ص 90): "اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في الفقه في مسائل لا تعدّ كثرة، وقال إمام الحرمين: "إن المعاملات تُبنى على مقاصد الخلق. لا على صيغ الألفاظ، سيما إذا عمَّ العرف في باب فهو المتَّبع" وقال:"وأما العادة المطردة. فنِعْم المرجِّح هي في أمثال هذه المعاملات" وقال: "ومن لم يخرِّج العرف في المعاملات تفقّهًا، لم يكن على حظ كامل فيها" من كتابه "الأساليب في الخلافيات" بواسطة كتاب "فقه إمام الحرمين"(ص 375 - 376) وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية"(34/ 91) و"شرح مختصر الروضة"(3/ 212) و"القواعد والأصول الجامعة"(ص 38 - 42) و"المختارات الجلية"(ص 55) كلاهما للشيخ السِّعدي و"العرف: حُجِّيته وآثره في فقه المعاملات المالية عند الحنابلة" للشيخ عادل بن عبد القادر، وهي دراسة جيدة ومفيدة، مطبوعة في مجلدين.
(3)
كذا في (ك)، وفي سائر الأصول:"يقتضيه".
لفظًا، عند جمهور أهل العلم، حتى عند المنكرين لذلك؛ فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا يمكنهم العمل إلا به، بل ليس يقف الإذن فيما يفعله الواحد من هؤلاء وغيرهم على صاحب المال خاصة؛ لأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض في الشفقة والنصيحة والحفظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولهذا جاز لأحدهم ضم (1) اللقطة ورد الآبق وحفظ الضالة، حتى إنه يحسب ما ينفقه على الضالة والآبق واللقَطة وينزل إنفاقه عليها منزلة إنفاقه لحاجة نفسه لما كان حفظًا لمال أخيه وإحسانًا إليه؛ فلو علم المتصرف لحفظ مال أخيه أن نفقته تضيع وأن إحسانه يذهب باطلًا في حكم الشرع لما أقْدَمَ على ذلك، ولضاعت مصالح الناس، ورغبوا عن حفظ أموال بعضهم بعضًا، وتعطلت حقوق كثيرة، وفسدت أموال عظيمة، ومعلوم أن شريعة مَنْ بَهَرَتْ شريعتُه العقولَ (2) وفاقت كل شريعة واشتملت على كل مصلحة وعطَّلت كل مفسدة تأبى ذلك كُلَّ الإباء، وأين هذا من إجازة أبي حنيفة تصرفَ الفُضُولي (3)، ووقف العقود تحصيلًا لمصلحة المالك ومنع المرتهن من الركوب والحلب بنفقته؟ فياللَّه العجب! يكون هذا الإحسان للراهن وللحيوان ولنفسه بحفظ الرهن حرامًا لا اعتبار به شرعًا مع إذْنِ الشارع فيه لفظًا (4) وإذن المالك عرفًا وتصرُّفُ الفضوليّ معتبرًا مرتبًا عليه حكمه؟
هذا ومن المعلوم أنَّا في إبراء الذمم أحْوَجُ منّا إلى العقود على أولاد الناس وبناتهم وإمائهم وعبيدهم ودورهم وأموالهم؛ فالمرتهنُ محسنٌ (5) بإبراء ذمة المالك من الإنفاق على الحيوان مؤدِّ لحقِّ اللَّه فيه ولحق مالكه ولحق الحيوان ولحق نفسه متناول ما أذن له فيه الشارع من الِعِوَضِ بالذَرّ والظهر، وقد أوجب اللَّه سبحانه وتعالى، على الآباء إيتاء المَرَاضِع أَجرهن بمجرد الإرضاع، وإن لم يعقدوا معهن عقد إجارة؛ فقال تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6].
(1) في (ق): "رد".
(2)
في (ن) و (ك) و (ق): "من بهرت العقول شريعته"، كذا بتقديم وتأخير.
(3)
"الفضولي لغةً: المشتغل بما لا يعنيه، والخياط، وشرعًا: من لم يكن وليًا ولا وصيًا ولا أصيلًا ولا وكيلًا"(و).
(4)
بقوله صلى الله عليه وسلم: "الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبنُ الدَّرّ يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة". رواه البخاري (2511، 2512) عن أبي هريرة مرفوعًا. وانظر تفصيل المسألة في "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (3/ 19 مسألة رقم 878) وتعليقي عليه.
(5)
انظر: "الإحسان الإلزامي في الإسلام" للأستاذ محمد الحبيب التجكاني.
فإن قيل: فهذا ينتقص عليكم بما لو كان الرهن دارًا فخرِبَ بعضُها فعمَّرها ليحفظ الرهن؛ فإنه لا يستحق السكنى عندكم بهذه العمارة، ولا يرجع بها.
قيل: ليس كذلك، بل يحتسب له بما أنفقه؛ لأن فيه إصلاح الرهن، ذكره القاضي (1) وابنه وغيرهما. وقد نص الإمام أحمد في رواية أبي حرب الجرجرائي (2) في رجل عمل في قَنَاة رجل بغير إذنه، فاستخرج الماء، لهذا الذي عمل أجرٌ في نفقته إذا عمل ما يكون منفعة لصاحب القناة، هذا مع أن الفرق بين الحيوان والدار ظاهر، لحاجة الحيوان إلى الإنفاق ووجوبه على مالكه، بخلاف عمارة الدار، فإن صح الفرق بطل السؤال، وإن بطل الفرق ثبت الاستواء في الحكم.
فإن قيل: في هذا مخالفة للأصول من وجهين:
أحدهما: أنه إذا أدَّى عن غيره واجبًا بغير إذنه كان متطوعًا (3)، ولم يلزمه القيام [له](4) بما أدَّاه عنه.
الثاني: أنه لو لزمه عوضه فإنما يلزمه نظير ما أدَّاه، فأما أن يُعاوض عليه بغير جنس ما أداه بغير اختياره فأصولُ الشرع تأبى ذلك (5).
قيل: هذا هو الذي رُدَّتْ به هذه السنة، ولأجله تأوَّلها منْ تأولها على أن المراد بها أن النفقة على المالك فإنه الذي يركب ويشرب، وجعل الحديث (6) دليلًا على جواز تصرف الراهن في الرهن بالركوب والحَلْب وغيره، ونحن نبين (7) ما في هذين الأصلين من حق وباطل.
فأما الأصل الأول فقد دل على فساده القرآنُ والسنةُ وآثار الصحابة والقياسُ [الصحيح](8) ومصالح العباد، أما القرآن فقوله تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقد تقدم تقرير الدلالة منه، وقد اعترض بعضُهم على هذا الاستدلال بأن المراد به أجورهنَّ المسماة فإنه أمرٌ لهم بوفائها، لا أمرٌ لهم بإيتاء
(1) في "الخلاف الكبير" بينما ذهب في "المجرد" أنه لا يرجع إلا بأعيان آلته، وانظر في المسألة:"المحرر"(1/ 336)، و"المغني"(4/ 252 رقم 3372)، و"القواعد" لابن رجب (2/ 82 - 83 - بتحقيقي)، و"الإنصاف"(5/ 177).
(2)
ذكرها ابن رجب في "القواعد الفقهية"(2/ 71 - بتحقبقي)، وأطال النفس في توجيهها. وفي الأصول الجرجاني والمثبت من (ق) و (ك).
(3)
في المطبوع: "متبرعًا".
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك).
(5)
في (ق): "هذا".
(6)
المتقدم تخريجه قريبًا.
(7)
في (ك): "نذكر".
(8)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
ما لم يسموه من الأجرة، ويدل عليه قوله [تعالى] (1):{وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] وهذا التعاسر إنما يكون حال العقد بسبب طلبها الشَّطط (2) من الأجر أو حطّها عن أجرة المثل، وهذا اعتراض فاسد؛ فإنه ليس في الآية ذكر التسمية، ولا يدل عليها بدلالة من الدلالات الثلاث؛ أما اللّفظيتان فظاهر، وأما اللزومية فلانفكاك التلازم بين الأمر بإيتاء الأجر وبين تقدّم تسميته، وقد سَمَّى اللَّه سبحانه وتعالى ما يؤتيه (3) العاملَ على عمله أجرًا وإن لم يتقدم له تسمية كما قال تعالى عن خليله [عليه السلام] (1):{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا [وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ] (1)} [لعنكبوت: 27]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] ومعلوم أن الأجر ما يعود إلى العامل عِوَضًا عن عمله؛ فهو كالثواب الذي [يَثُوبُ إليه: أي](4) يرجع من عمله، وهذا ثابت سواء سُمّي أو لم يُسمّ، وقد نص الإمام أحمد (5) رضي الله عنه على أنه إذا افتدى الأسير رجع عليه بما غرمه عليه، ولم يختلف قوله فيه. واختلف قوله فيمن قضى (6) دَيْن غيره عنه بغير إذنه؛ فنص في موضع على أنه يرجع عليه، فقيل له: هو متبرع بالضمان، فقال: وإن كان متبرعًا بالضمان، ونص في موضع آخر على أنه لا يرجع (7)، [فإنه قال: إذا لم يقل: اقْض عني ديني كان متبرِّعًا، ونص (8) على أنه يرجع] (1) على السيد بنفقة عبده الآبق إذا ردَّه (9)، وقد كتب عمرُ بن الخطاب إلى عامله في سَبْي العرب ورقيقهم، وقد كان التجار اشتروه فكتب إليه: أيما حر (10) اشتراه التجار فاردد عليهم رؤوس أموالهم (11)، وقد قيل: إن جميع
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(2)
في (ك): "الشطر".
(3)
في (ن) و (ك): "ما يؤتى".
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك).
(5)
انظر: "القواعد" لابن رجب (2/ 75 - بتحقيقي)، و"المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين"(2/ 375 - 376).
(6)
في المطبوع: "أدّى".
(7)
انظر: "المحرر"(1/ 340) و (2/ 174)، و"القواعد" لابن رجب (2/ 74 - 75 - بتحقيقي)، و"المغني"(6/ 353 رقم 8583)"أحكام الإذن"(1/ 345).
(8)
في "مسائل عبد اللَّه"(310 رقم 4532).
(9)
انظر: "القواعد" لابن رجب (2/ 77 - بتحقيقى)، و"المحرر"(1/ 336)، و"المغني"(6/ 22 - 23 رقم 4532).
(10)
في (ن) و (ك): "أيما رجل".
(11)
أخرج سعيد بن منصور في "سننه"(رقم 2853 - ط الأعظمي) عن عثمان بن مطر =
الفِرَق تقول بهذه المسألة وإن تناقضوا ولم يطَّردوها؛ فأبو حنيفة يقول: إذا قضى بعضُ الورثة دينَ الميت ليتوصلَ بذلك إلى أخذ حقه من التركة بالقسمة فإنه يرجع على التركة بما قضاه، وهذا واجب قد أدَّاه عن غيره بغير إذنه، وقد رجع به، ويقول: إذا بنى صاحبُ العلو [أو](1) السفل بغير إذن المالك لزم الآخر غرامة ما يخصه، وإذا أنفق المُرتهن على الرَّهن في غيبة الراهن رجع بما أنفق، وإذا اشترى اثنان من واحد عبدًا بألف فغاب أحدهما فأدَّى الحاضر جميع الثمن ليستلم (2) العبد كان له الرجوع. والشافعي يقول: إذا أعار عبدًا لرجلٍ ليرهَنه فرهنه ثم إنَّ صاحب الرهن قضى الدين بغير إذن المستعير وافْتَكَّ الرهن رجع بالحق، وإذا استأجر جِمَالًا ليركبها فهرب الجَمَّالُ فأنفق المستأجر على الجِمَال رجع بما أنفق، وإذا ساقى رجلًا على نخلِهِ فهرب العامل فاستأجر صاحبُ النخل مَنْ يقوم مَقَامه رجع [عليه](3) به، واللقيط إذا أنفق عليه أهلُ المحلة ثم استفاد مالًا رجعوا عليه. وإن أذن له في الضمان فضمن ثم أدّى الحق بغير إذنه رجع عليه. وأما المالكية والحنابلة فهم أعظم الناس قولًا بهذا الأصل، والمالكية أشدُّ قولًا به؛ ومما يوضح ذلك أن الحنفية قالوا في هذه المسائل: إن هذه الصور كلها أحْوَجَتْه إلى استيفاء حقه أو حفظ ماله؛ فلولا عمارة السفل لم يثبت العلو، ولو لم يقض الوارث الغرماء لم يتمكن من أخذ حقه من التركة بالقسمة، ولو لم يحفظ الرهْنَ بالعَلَف لتلف محل الوثيقة، ولو لم يستأجر على الشجر مَنْ يقوم مقام العامل لتعطلت الثمرة، وحقه متعلق بذلك كله، فإذا أنفق كانت نفقته ليتوصل إلى حقه، بخلاف مَنْ أدَّى دين غيره فإنه لا حقَّ له هناك يتوصل [به](4) إلى استيفائه بالأداء؛ فافترقا؛ وتبين أن هذه القاعدة لا تلزمنا، وأن مَنْ أدَّى عن غيره واجبًا من دين أو نفقة على قريب أو زوجة فهو إما فُضُولي وهو جدير بأن يفوت عليه ما فوَّته على
= الشيباني قال: أنا أبو حريز عن الشعبي؛ قال: وذكره ضمن قصة طويلة.
وأخرجه البيهقي (9/ 112) من طريق ابن المبارك عن سعيد بن أبي عروبة عن رجل عن الشعبي.
وانظر تعليقي على: "القواعد"(2/ 76) لابن رجب.
(1)
ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.
(2)
في (ن): "ليتسلم".
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق).
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
نفسه، أو متفضل فحوالته على اللَّه دون مَنْ تفضَّل عليه؛ فلا يستحق مطالبته، وزادت الشافعية وقالت: لما ضمن له المؤجر تحصيل منافع الجِمَال، ومعلوم أنه لا يمكنه استيفاء تلك المنافع إلا بالعَلَف، دخل [في](1) ضمانه لتلك المنافع إذنُه له في تحصيلها بالإنفاق عليها ضمنًا وتبعًا؛ فصار ذلك مستحقًا عليه بحكم ضمانه عن نفسه لا بحكم ضمان الغير [عنه](2)، يوضحه أن المؤجر والمُسَاقي قد علما أنه لا بدَّ للحي من قوام، ولا بد للنخيل من سَقْي وعمل عليها؛ فكأنه قد حصل الإذن فيها في الإنفاق عرفًا، والإذن العرفي يجري مجرى الإذن اللفظي، وشاهده ما ذكرتم من المسائل؛ فيقال: هذا من أقوى الحجج عليكم في مسألة علف المُرْتَهن للرَّهن، واستحقاقه للرجوع بما غرمه، وهذا نصف المسافة، وبقي نصفها الثاني، وهو المعاوضة عليها بركوبه وشربه، وهي أسهل المسافتين وأقربهما؛ إذ غايتها تسليطُ الشارع له على هذه المعاوضة التي هي من مصلحة الراهن والمرتهن والحيوان، وهي أولى من تسليطه الشفيع (3) على المعاوضة عن الشقص المشفوع لتكميل ملكه وإنفراده به وهي أولى من المعاوضة في مسألة الظفر بغير اختيار مَنْ عليه الحق (4)؛ فإن سبب الحق فيها ليسس ثابتًا، والآخذ ظالم في الظاهر، ولهذا منعه النبي صلى الله عليه وسلم من الأخذ وسماه خائنًا بقوله:"أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُنْ مَنْ خانك"(5) وأما هاهنا فسبب الحق ظاهر، وقد أذن في المعاوضة للمصلحة
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق).
(2)
سقطت في (ك).
(3)
في المطبوع: "تسليط الشفيع".
(4)
انظر: "زاد المعاد"(4/ 149)، و"إغاثة اللهفان"(2/ 75).
(5)
ورد من حديث أبي هريرة وأنس وأبي أمامة وأبي بن كعب ورجل من قريش عن أبيه.
أما حديث أبي هريرة، فقد رواه الدارمي (2/ 264)، وأبو داود (3535) في (البيوع): باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، والترمذي (1264) في (البيوع): باب (38)، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(973)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(1831، 1832)، والدارقطني (3/ 35)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(4/ 365)، والحاكم (2/ 46)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق"(ص 30) وتمام في "الفوائد"(رقم 707 - ترتيبه)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان"(1/ 269)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(742)، والبيهقي (10/ 271) وفي "معرفة السنن والآثار"(14/ 380 رقم 20376) من طريق طلق بن غنام عن شريك وقيس بن الربيع عن أبي حصين عن أبي صالح عنه مرفوعًا به.
وقال الترمذي: حسن غريب.
وقال الحاكم: "حديث شريك عن أبي حصين صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي. =
التي فيها، فكيف تمنع هذه المعاوضة التي سببُ الحقِّ فيها ظاهر وقد أذن فيها الشارع، وتجوز تلك المعاوضة التي سبب الحق فيها غير ظاهر وقد منع منها الشارع؟ فلا نص ولا قياس.
ومما يدل على أن مَنْ أدَّى عن غيره واجبًا أنه يَرجعُ عليه به قولهُ تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60] وليس من جزاء هذا المحسن بتخليص من أحسن إليه بأداء دَيْنه وفك أسره منه وحل وثاقه أن يضيع عليه معروفه وإحسانه، وأن يكون جزاؤه منه بإضاعة ماله ومكافأته عليه بالإساءة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أسْدَى إليكم معروفًا فكافئوه"(1) وأي معروف فوق معروف هذا
= أقول: مسلم إنما أخرج لشريك متابعة وهو في حفظه شيء، لكن تابعه قيس بن الربيع وهو سيء الحفظ أيضًا، لكن يقوي بعضهما بعضا.
وقد أعل هذا الطريق أبو حاتم -كما رواه عنه ابنه في "علله"(1/ 375) - حيث قال: طلق بن غنام روى حديثًا منكرًا عن شريك وقيس قال: لم يرو هذا الحديث غيره.
أقول: طلق بن غنّام وثّقه الأئمة فلا أدري ماذا يريد الإمام أبو حاتم بالنكارة؟
وأما ابن الجوزي رحمه الله فقد قال: هذا الحديث من جميع طرقه لا يصح!
وأما حديث أنس، فقد رواه الطبراني في "الكبير"(760)، وفي "الصغير"(475)، والدارقطني (3/ 35)، والحاكم (2/ 46)، وابن عدي (1/ 354)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(743)، والبيهقي (10/ 271) وابن الجوزي في "العلل المتناهية"(974).
أقول: ومدار الحديث عند جميعهم على أيوب بن سويد وهو ضعيف، ولكنه غير موجود في إسناد الطبراني "الكبير"، لذلك قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 145): ورجال "الكبير" ثقات.
أقول: لكن في إسناد "الكبير" أحمد بن زيد القزاز ينظر في حاله.
وأخشى أن يكون في السند خطأ.
وأما حديث أبي أمامة، فقد رواه الطبراني في "الكبير" (7580) والبيهقي في "المعرفة" (14/ 380 - 381 رقم 20380) وفي "السنن الكبرى" (10/ 271) وقال:"وأبو حفص الدمشقي مجهول، ومكحول لم يسمع من أبي أمامة" وأعله الهيثمي في "المجمع"(4/ 145).
وأما حديث أبي بن كعب، فقد رواه الدارقطني (3/ 35)، ومن طريقه ابن الجوزي (975) قال ابن حجر في "التلخيص" (3/ 97): وفي إسناده من لا يعرف.
وأما حديث الرجل من قريش عن أبيه، فقد رواه أحمد (3/ 414)، وأبو داود (3534)، والبيهقي (10/ 270).
وظاهر صنيع الحافظ ابن حجر في "التلخيص" أنه يُضَعِّف الحديث؛ أقول: وطريقه الأول قوي فيظهر أن له أصلًا واللَّه أعلم. وانظر: "نصب الراية"(4/ 119) و"التلخيص الحبير"(3/ 97) و"السلسلة الصحيحة"(423).
(1)
رواه أحمد في "مسنده"(2/ 68 و 99 و 128)، والبخاري في "الأدب المفرد"(رقم 216)،=
الذي افْتكّ أخاه من أسْرِ الدَّينِ؟ وأي مكافاة أقبح من إضاعة ماله عليه وذهابه؟ واذا كانت الهَدِيَّةُ التي هي تبرع محض قد شُرعت المكافأة عليها وهي من أخلاق المؤمنين، فكيف يشرع جواز ترك المكافأة (1) على ما هو من أعظم المعروف؟ وقد عقد اللَّه سبحانه وتعالى الموالاة بين المؤمنين وجعل بعضهم أولياء بعض، فمن أدّى عن وليه واجبًا كان نائبه فيه بمنزلة وكيله ووَليّ من أقامه الشرع للنظر في مصالحه لضعفه أو عجزه.
ومما يوضح ذلك أن الأجنبي لو أقرض ربَّ الدَّيْنِ قدر دينه وأحاله به على المَدِين ملك ذلك، وأيُّ فرقٍ شرعي أو معنوي بين أن يوفيه ويرجع به على المدين أو يقرضه ويحتال به على المدين؟ وهل تفرق الشريعة المشتملة على المصالح العباد بين الأمرين؟ ولو تعيّن عليه ذبح هَدْي أو أضحية فذبحها [عنه](2) أجنبي بغير إذنه أجزأت وتأدّى الواجب بذلك، ولم تكن ذبيحة غاصب، وما ذاك إلا لكون الذبح قد وجب عليه فأدى هذا الواجب غيره وقام مقام تأديته هو بحكم النيابة عنه شرعًا، وليس الشأن في هذه المسألة لوضوحها واقتضاء أصول الشرع
= وأبو داود (1672) في (الزكاة) باب عطية من سأل باللَّه، و (5109) في (الأدب): باب في الرجل يستعيذ بالرجل، والنسائي (5/ 82) في (الزكاة): باب من سأل اللَّه عز وجل، والطيالسي (1895)، والحاكم (1/ 412 - 413 و 2/ 63 - 64)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(421)، وابن حبان (3408) وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 56) والبيهقي (4/ 199) والطبراني في "الكبير" (13465 و 13466 و 13480) كلهم من طرق عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر مرفوعًا:". . . ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه. . . ".
وصححه الحاكم على شرط الشيخين وقال: ولم يخرجاه للخلاف الذي بين أصحاب الأعمش فيه.
أقول: رواية الثقات من أصحاب الأعمش هو ما ذكرت.
وقد رواه أبو بكر بن عياش عن الأعمش فقال: عن أبي حازم عن أبي هريرة.
أخرجه أحمد (2/ 512)، والحاكم (1/ 413).
وقال الحاكم: "إسناده صحيح، فقد صح عند الأعمش الإسنادان جميعًا على شرط الشيخين، ونحن على أصلنا في قبول، الزيادات من الثقات في الأسانيد والمتون".
أقول: أبو بكر بن عياش أخرج له البخاري فقط، لكن له أوهام فلا تقبل منه مخالفة الثقات، واللَّه أعلم.
والحديث ذكره العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 225) وصحح إسناده.
(1)
في المطبوع: "المكافآت".
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق).