الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأصول الشرع وقواعده (1)، ولقواعد الأئمة، وباللَّه التوفيق.
فصل [حكم جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد]
المثال السابع (2): أن المَطلِّقَ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن خليفته أبي بكر وصَدْرًا من خلافة عمر كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفمٍ واحدٍ جعلت واحدة، كما ثبت ذلك في "الصحيح" عن ابن عباس؛ فروى مسلم في "صحيحه" عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافه عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (3)، وفي "صحيحه" أيضًا عن طاوس "أن أبا الصَّهْباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت تُجعل واحدة على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم" (4) وفي "صحيحه" أيضًا عنه أنَّ أبا الصَّهْباء قال لابن عباس: هاتِ من هَنَاتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة، فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتايع (5) الناس في
(1) في (ك): "ولقواعده" وفي (ق): "وقواعدها".
(2)
نحوه في "الزاد"(5/ 247 - 248 - ط مؤسسة الرسالة) للمصنف، ونقل يوسف بن عبد الهادي في "سير الحارث إلى علم الطلاق الثلاث"(الفصل السادس)(ص 41 - 48) ما تحت هذا المنال.
(3)
أخرجه مسلم في "صحيحه"(كتاب الطلاق): باب طلاق الثلاث (رقم 1472)(15) قال أحمد شاكر في كتابه "نظام الطلاق في الإِسلام"(ص 42 - 43): "وهذا الحديث أصل جليل من أصول التشريع في الطلاق، والبحث فيه من مزالق الأقدام. فإنه يصادم كثيرًا مما يذهب إليه جمهور العلماء وعامة الدهماء في الطلاق. وقديمًا كان موضع نزاع وخلاف واضطراب ولشيخ الإِسلام ابن تيمية ثم تلميذه الإِمام ابن القيم الباعُ الطويل في شرحه والكلام عليه، ونصرة القول بوقوع الطلاق الثلاث طلقة واحدة فقط، كما هو معروف مشهور".
(4)
رواه مسلم حديث رقم (1472)(16).
(5)
في جميع النسخ المطبوعة: "تتابع" بباء موحدة! قال النووي في "شرح صحيح مسلم"(10/ 72): "هو بياء مثناة من تحت بين الألف والعين، هذه رواية الجمهور وضبطه بعضهم بالموحدة، وهما بمعنى، ومعناه: أكثروا منه وأسرعوا إليه، ولكن بالمثناة! إنما يستعمل في الشر، وبالموحدة يستعمل في الخير والشر، فالمثناة هنا أجود".
الطلاق، فأجازه عليهم (1).
وفي "سنن أبي داود" عن طاوس أن رجلًا يقال له: أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس، فقال: أما علمت أن الرجل كان إذا طقق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جَعَلوها واحدة على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصَدْرًا من إمارة عمر رضي الله عنه؟ قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلّق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصَدْرًا من إمارة عمر، فلما رأى النَّاسَ قد تتايعوا (2) فيها قال: أجيزوهنّ عليهم (3).
وفي "مستدرك الحاكم" من حديث عبد اللَّه بن المُؤمَّل، عن ابن أبي مُلَيكة أن أبا الجوزاء أتى ابنَ عباس، فقال: أتعلم أن الثلاث كُنَّ يُرْددن على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى واحدة؟ قال: نعم (4).
قال الحاكم: هذا حديث صحيح، وهذه غير طريق طاوس عن أبي الصهباء.
وقال الإِمام أحمد في "مسنده": ثنا سعد بن إبراهيم: ثنا أبي، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني داود بن الحُصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: طلّق رُكَانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأتَه ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، قال: فسأله رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: كيف طلّقتها؟ قال: طلقتها ثلاثًا، قال: فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، قال: فإنّ تلك (5)
(1) رواه مسلم حديث رقم (1472)(17).
(2)
في جمع النسخ المطبوعة: "تتابعوا" بالباء الموحدة، وانظر ما قدمناه قريبًا.
(3)
رواه أبو داود (2199) في (الطلاق): باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، وسنده هكذا: حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس.
ومن طريق أبي داود رواه البيهقي في "سننه الكبرى"(7/ 338) وفيه إبهام كما ترى، وصحح إسناده المصنف في "الزاد"(5/ 251).
وفي (ق) و (ك): "أجيزهن".
(4)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 196)، وصححه كما قال المؤلف، لكن تعقبه الذهبي بقوله:"ابن المؤمل ضعفوه".
قلت: هو عبد اللَّه بن المؤمل بن وهب القرشي، ضعيف.
وأخرجه الحاكم من طريق أخرى عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس، وصححه على شرطهما، وأقره الذهبي.
ولم يعزه في "الدر المنثور"(1/ 279، 280) إلا للحاكم.
(5)
قال (ط): "في نسخة": "فإنما تلك واحدة" انظر "إعلام الموقعين" طبعة المطبعة المنيرية =
واحدة، فأرجعها إنْ شئتَ، قال: فراجعها، فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طُهْر (1). وقد صحح الإِمام أحمد هذا الإسناد وحسنه، فقال في حديث
= (ج 3 ص 25)، وقال (د):"في نسخة: فإنما تلك واحدة".
قلت: وهي كذلك في (ك) وفي "المسند".
وقال أحمد شاكر رحمه الله في "نظام الطلاق في الإِسلام"(39 - 41):
"وقوله في الحديث "إنما تلك واحدة" هكذا هو "تلك" اسم إشارة، وبرفع "واحدة". وهو الصواب في الرواية، والصحيح في المعنى البليغ. ولكن جاء هذا الحرف في "إعلام الموقعين" (ج 3 ص 25) و"عون المعبود شرح أبي داود" (ج 2 ص 229) و"التعليق المغني شرح الدارقطني" (ص 446) -: بلفظ"تملك"فعل مضارع من (ملك) وبنصب "واحدة" فرجعنا إلى نسختين مخطوطتين قديمتين من "زاد المعاد" -بدار الكتب المصرية- فوجدناها كذلك "تملك" فعل مضارع، وأنا أرجح أن هذا تحريف من الناسخين، وأن الصواب "تلك" اسم إشارة؛ لأنه كذلك هو في "زاد المعاد" المطبوع بمصر وبالهند و"إغاثة اللهفان"، وكذلك هو في "مسند أحمد" المطبوع، وفي نسخة منه مخطوطة مصرية، وأخرى مخطوطة مغربية. وكذلك هو في كل الكتب التي نقلته عن المسند: كـ "فتح الباري"، و"فتح القدير"، "ونيل الأوطار" وغيرها. وكذلك نقله السيوطي في "الدر المنثور" والآلوسي في "التفسير" عن البيهقي بلفظ "تلك" وكذلك نقله الجصاص في "أحكام القرآن" عن ابن إسحاق، ولم يقل الحديث عن "المسند" فيما أظن. ومما يؤيد أن لفظ "تلك" اسم إشارة هو الصواب: أن الحافظ ابن حجر نقل الحديث بالمعنى في "بلوغ المرام" (برقم 1107) واختصره فقال؛ "فإنها واحدة" فأناب الضمير مناب اسم الإشارة، ولو كان صحة اللفظ "تملك" ما فعل ذلك إن شاء اللَّه.
ثم وجدت أن ابن القيم نقل الحديث في "إغاثة اللهفان"(ص 177) عن كتاب "الوثائق الكبير" لأبي الحسن اللخمي بلفظ: "إنما هي واحدة؛ فإن شئت فدعها، وإن شئت فارتجعها". وهذا أيضًا يؤيد أن صحة الكلمة في رواية أحمد "إنما تلك" اسم إشارة، واللَّه أعلم.
إن ثبت أن ما حكاه محمود بن لبيد هو عن حادثة ركانة. وإذا كان عن حادثة أخرى لشخص آخر كانت الحوادث ثلاثًا".
(1)
رواه أحمد (1/ 265)، وأبو يعلى (2500)، والبيهقي (7/ 339) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة"(2/ 1113 رقم 2803) من طريق محمد بن إسحاق به.
وهذا إسناد فيه ضعيف، رواية داود عن عكرمة فيها نكارة، قال ابن المديني: ما روى عن عكرمة فمنكر، وقال أبو داود: أحاديثه عن شيوخه مستقيمة، وأحاديثه عن عكرمة مناكير.
وقال البيهقي: وهذا الإسناد لا تقوم به الحجة، مع ثمانية رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما فتياه بخلاف ذلك.
وانظر الكلام من بداية المثال السابع إلى هنا في "مجموع الفتاوى"(33/ 12 - 13).
عَمرو بن شُعيب عن أبيه عن جَدِّه "أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ ابنته على ابن أبي العاص بمَهْرٍ جديدٍ ونكاح جديد"(1): هذا حديث ضعيف، أو قال وَاهٍ لم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب، وإنما سمعه من محمد بن عبيد اللَّه العرزمي (2)، والعرزمي (2) لا يساوي حديثه شيئًا، والحديث [الصحيح](3) الذي رواه (4)"أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّهما على النكاح الأول"(5) وإسناده عنده هو إسناد حديث رُكانة بن عبد يزيد هذا، وقد قال الترمذي فيه: ليس بإسناده بأس (6)، فهذا إسناد صحيح عند أحمد، وليس به بأس
(1) رواه أحمد في "مسنده"(2/ 208)، وابن سعد (8/ 32)، وعبد الرزاق في "مصنفه"(12648) وسعيد بن منصور (2109) وأبو يوسف في "الرد على سير الأوزاعي"(ص 100)، والترمذي (1144) في (النكاح): باب ما جاء في الزوجين المشركين يُسلم أحدهما، وابن ماجه (2010) في (النكاح): باب الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر، والدولابي في "الذرية الطاهرة"(ص 50)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 256)، والدارقطني في "سننه"(3/ 253)، أو (رقم 3564 - بتحقيقي)، والبيهقي في "سننه الكبرى"(7/ 188) و"المعرفة"(10/ 143 رقم 3990) و"الخلافيات"(3/ ق 78) من طرق عن الحجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب به.
قال عبد اللَّه بن أحمد: قال أبي: هذا حديث ضعيف، ثم ذكر الكلام الذي نقله ابن القيم.
ونقل عنه ابنه في "العلل" أيضًا (1/ 19): قرأت في بعض الكتب عن حجاج قال: حدثني محمد بن عبيد اللَّه العزرمي عن عمرو بن شعيب. . . ومحمد بن عبيد اللَّه ترك الناس حديثه.
وقال الترمذي: "هذا حديث في إسناده مقال".
وقال في كتابه "العلل الكبير"(1/ 450 - 451): سألت محمدًا عن هذين الحديثين -أي: هذا الحديث وحديث ابن عباس أنه أقرهما على النكاح الأول- فقال: حديث ابن عباس أصح في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ونحو هذا قال الدارقطني والبيهقي.
والحديث رواه الحاكم (3/ 639) من طريق الحجاج أيضًا، وقد وقع في متنه نكارة، ردها الذهبي وقال: ولا أدري الاختلاف في الحديث من الحجاج أو ممن دونه.
أقول: هذا من الحجاج بلا شك، فإنه كان يُغيّر في الألفاظ، وكان في حفظه شيء، وروايته عن عمرو بن شعيب أكثرها دَلَّسها عن محمد بن عبيد اللَّه العرزمي وهو متروك.
(2)
تصحف اسمه في المطبوع و (ق) إلى "عبد اللَّه العزرمي"!
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.
(4)
في (ن) و (ك) و (ق): "الذي روي".
(5)
سبق تخريجه، وإلى هنا ينتهي كلام أحمد في "المسند"(2/ 207 - 208).
(6)
وتتمة كلامه: "ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث، ولعله قد جاء من قِبل داود بن حُصين من قِبل حفظه".
عند الترمذي؛ فهو حجة ما لم يعارض ما هو أقوى منه، فكيف إذا عَضَدَه ما هو نظيره أو أقوى منه؟ وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح: ثنا عبد الرزاق: أخبرنا ابنُ جُرَيج قال: أخبرني بعضُ بني أبي رافع مولى النبي-صلى الله عليه وسلم، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال:"طَلَّق عبد يزيد أبو ركانة وإخوتِهِ (1) أمَّ ركانة، ونكح امرأة من مُزَينة، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يُغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة، لشعرة أخذتها من رأسها، ففرِّق بيني وبينه، فأخذت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حميةٌ، فدعا بركانة وإخوتِهِ، ثم قال لجلسائه: أترون فلانًا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانًا [يشبه منه] كذا وكذا؟ قالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد بن يزيد: طلّقها (2) ففعل، فقال: راجع امرأتك أم ركانة وإخوته، فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول اللَّه، قال: قد عَلمتُ، رَاجِعْها، وتلا {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] (3)، وقال أبو داود (4): "حديث نافع بن عُجير (5) وعبد اللَّه بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أن ركانة طلق امرأته فردَّهَا إليه النبي صلى الله عليه وسلم أصح (6)،
(1) بالجر، معطوف على ركانة، أي: وأبو إخوة ركانة.
(2)
في (ن) و (ق): "طلق امرأتك".
(3)
رواه عبد الرزاق (11334)، ومن طريقه أبو داود (2196) في (الطلاق): باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث والبيهقي (7/ 339).
قال الخطابي في "معالم السنن"(3/ 236): "في إسناد هذا الحديث مقال؛ لأن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني رافع ولم يُسَمِّه، والمجهول لا تقوم به الحجة".
(4)
في "سننه"(2/ 260 - ط محمد محمي الدين و 3/ 71 - ط عوامة).
(5)
تحرف في المطبوع و (ك) و (ق) إلى "جبير"!!
(6)
أخرجه الدارمي (2/ 163) وأبو داود (2208) والترمذي (1177) وفي "العلل الكبير"(298) وابن ماجه (2051) والطيالسي (1188) وابن أبي شيبة (5/ 65) وأبو يعلى (1537، 1538) وابن حبان (4274) والعقيلي (3/ 254) وابن عدي (5/ 149، 1850) والدارقطني (4/ 34) والحاكم (2/ 199) والبيهقي (7/ 342) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة"(2/ 1113 - 1114 رقم 2804، 2805، 2806) والمزي في "تهذيب الكمال"(15/ 323) من طريق الزبير بن سعيد عن عبد اللَّه بن علي بن يزيد به.
وأخرجه الشافعي في "المسند"(2/ 37، 38) -ومن طريقه أبو داود (2206، 2207) - والدارقطني (4/ 33) والحاكم (2/ 199، 200) وفي "معرفة علوم الحديث"(175) والبيهقي (7/ 342) والبغوي (2353) من طريق نافع بن عجير به.
قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسألتُ محمدًا عن هذا الحديث. فقال: فيه اضطراب". =
لأنهم (1) ولد الرجل وأهله أعلم (2) به، وأن ركانة إنما طلَّق امرأته البتة، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة". قال شيخنا (3) رضي الله عنه:"وأبو داود لمَّا لم يرو في "سننه" الحديثَ الذي في "مسند أحمد" -يعني الذي ذكرناه آنفًا- فقال: حديثُ البتة أصحُّ من حديث ابن جُريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا؛ لأنهم أهل بيته، ولكن الأئمة الكبار (4) العارفون بعلل الحديث (5) كالإمام أحمد وأبي عُبيد والبخاري ضعَّفوا حديث البتة، وبينوا أن رواته (6) قوم مجاهيل لم تعرف عدالتهم وضبطهم، وأحمد أثبت (7) حديثَ الثَّلاث، وبيَّن أنه الصواب، وقال: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة، وفي رواية عنه: حديث ركانة في البتة ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا، وأهل المدينة يسمون الثلاث "البتَّة"، قال الأثرم: قلت لأحمد: حديث ركانة في البتة، فضعَّفه (8).
والمقصود أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يَخْفَ عليه أن هذا هو السنة، وأنه توسعة من اللَّه لعباده، إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة، وما كان مرة بعد مرة لم
= قلت: وقال في موضع آخر: "علي بن بزيد بن ركانة عن أبيه، لم يصح حديثه".
وقال عبد الحق: "في إسناده عبد اللَّه بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد عن ركانة، والزبير بن سعيد عن عبد اللَّه بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده، وكلهم ضعفاء، والزبير أضعفهم".
وقال المنذري في "مختصر السنن": "حكي عن أحمد أنه كان يضعف طرق هذا الحديث كلها".
وقال المصنف في "الزاد"(5/ 263) عن نافع بن عجير: "مجهول لا يعرف حاله ألبتة".
وانظر: "معالم السنن"(3/ 247 - 248) و"فتح الباري"(9/ 362 - 365) و"السير الحاث"(30 - 31) و"نيل الأوطار"(7/ 11 - 20) و"الإرواء"(2063) وتعليقي على "سنن الدارقطني"(رقم 3907).
(1)
كذا في الأصول، وطبعة عوامة، وطبعة محمد ومحيي الدين:"لأن"!.
(2)
في جميع الأصول: "وأعلم" والصواب حذف الواو، كما في "السنن".
(3)
في "مجموع الفتاوى"(33/ 15) و"الفتاوى الكبرى"(3/ 49، 50) وانظر "شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه"(4/ 328 - 329).
(4)
في المطبوع: "الأكابر".
(5)
في المطبوع: "الحديث والفقه".
(6)
في المطبوع: "أنه رواية".
(7)
في (ن) و (ق): "ثبَّت".
(8)
نقله المنذري في "مختصر السنن" وابن قدامة في "المغني"(10/ 334 - 35 - ط هجر) ويوسف بن عبد الهادي في "السير الحاث"(ص 27، 46 - ط العجمي).
يملك المكلف إيقاع مَرَّاته كلها جملة واحدة كاللِّعان، فإنه لو قال:"أشهد باللَّه أربع شهادات إني لمن الصادقين" كان ذلك مرة واحدة، ولو حلف في القَسَامة وقال:"أقسم باللَّه خمسين يمينًا أن هذا قاتلُه" كان ذلك يمينًا واحدة، ولو قال المقرّ بالزنا:"أنا أقر أربع مرات أني زنيت" كان ذلك مرة واحدة؛ فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك إلا إقرارًا واحدًا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قال في يومه: سبحان اللَّه وبحمده مئة مرة حُطَّتْ عنه خطاياه ولو كانت مثل زَبَدِ البحر"(1) فلو قال: "سبحان اللَّه وبحمده مئة مرة" لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة، وكذلك قوله:"مَنْ سَّبح اللَّه دُبُرَ كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمده ثلاثًا وثلاثين، وكبَّره ثلاثًا وثلاثين"(2) الحديثَ؛ لا يكون عاملًا به حتى يقولها (3) مرة بعد مرة، ولا يجمع الكل بلفظ واحد، وكذلك قوله:"من قال: [في يومه] (4): لا إلهَ إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير [مئة مرة] (5) كانت له حِرزًا من الشيطان يومَهُ ذلك حتى يمسي"(6) لا يحصل له هذا إلا بقولها مرة بعد مرة، وهكذا قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] وهكذا قوله في الحديث: "الاستئذانُ ثلاثُ مرات، فإن أُذِنَ لك وإلا فارْجِع"(7) لو قال الرجل ثلاث مرات هكذا كانت
(1) رواه البخاري (6405) في (الدعوات): باب فضل التسبيح، ومسلم (2691) في (الذكر): باب فضل التهليل والتسبيح، من حديث أبي هريرة.
وفي "مسند أحمد"(2/ 371): من حديث أبي هريرة: من قالها حين يمسي وحين يصبح.
(2)
رواه مسلم (597) في (المساجد): باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته، من حديث أبي هريرة.
وله شواهد عن عدد من الصحابة.
(3)
في المطبوع: "حتى يقول ذلك".
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق).
(5)
ما بين المعقوفتين سقط من (ن).
(6)
رواه البخاري (3293) في (بدء الخلق): باب صفة إبليس، و (6403) في (الدعوات): باب فضل التهليل، ومسلم (2691) في (الذكر والدعاء): باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، من حديث أبي هريرة.
(7)
رواه البخاري (6245) في (الاستئذان): باب التسليم والاستئذان ثلاثًا، ومسلم (2153) (34) في (الآداب): باب الاستئذان، من حديث أبي سعيد الخدري.
مرة واحدة حتى يستأذن مرة بعد مرة، وهذا كما أنه في الأقوال والألفاظ فكذلك هو في الأفعال سواء، كقوله تعالى:{سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 101] إنما هو مرة بعد مرة، وكذلك قول ابن عباس:"رأى محمد ربه بفؤاده مرتين"(1) إنما هو مرة بعد مرة، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يُلْدَغُ المؤمن من جُحْرٍ مرتين"(2) فهذا المعقول من اللغة والعرف في الأحاديث المذكورة، وهذه النصوصُ المذكورة وقوله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] كلُّها من باب واحد ومشكاة واحدة، والأحاديث المذكورة تفسّر المراد من قوله:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] كما أن حديث اللعان تفسير لقوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6].
فهذا كتاب اللَّه وهذه سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهذه لغة العرب وهذا عرف التخاطب وهذا خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والصحابة كلهم معه في عَصْره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب (3)؛ فلو عَدَّهم العادُّ بأسمائهم واحدًا واحدًا
(1) بهذا اللفظ: رواه مسلم (176) بعد (285) في (الإيمان): باب معنى قول اللَّه عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} والدارقطني في "الرؤية"(رقم 272)، وابن منده في "الإيمان"(رقم 757).
وله ألفاظ وطرق عن ابن عباس انظرها في "الرؤية"(رقم 268 وما بعدها) للدارقطني، و"السنة" لابن أبي عاصم (1/ 189 - 191)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(2/ 190)، وغيرها.
(2)
رواه البخاري (6133) في (الأدب)، ومسلم (2998) في (الزهد والرقائق) كلاهما في باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، من حديث أبي هريرة.
(3)
قال العلامة أحمد شاكر في كتابه القيم "نظام الطلاق في الإسلام"(ص 51 - 56) بعد نقله لكلام الإمام ابن القيم السابق، ما نصه:
"وقد كرر ابن القيم هذا المعنى في كتبه الأخرى، ولكنه جعل أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد، (أنت طالق ثلاثًا): لا يقع به إلا واحدة-: قياسًا على المُثُل التي ذكرها، كما صرح بذلك في "زاد المعاد" (4/ 55) وإغاثة اللهفان (ص 156)، واعتبر هو وغيره أن هذا من موضع الخلاف في وقوع الطلاق الثلاث طلقة واحدة أو ثلاث طلقات.
وهذا انتقال نظر غريب منه ومن سائر الذين حققوا في هذا المقام! وأنا أخالفهم جميعًا في ذلك، وأقرر: أن قول القائل (أنت طالق ثلاثًا) ونحوه -أعني إيقاع الطلاق وإنشاءه بلفظ واحد موصوف بعدد- لا يكون في دلالة الألفاظ على المعاني لغة وفي بديهة العقل إلا طلقة واحدة، وأن قوله (ثلاثًا) في الإنشاء والإيقاع، قول محال عقلًا باطل لغة، فصار لغوًا من الكلام، لا دلالة له على شيء في تركيب الجملة التي وضع فيها، وإن دلّ في نفسه على معناه الوضعي دلالة الألفاظ المفردة على معانيها. كما إذا ألحق المتكلم بأية جملة صحيحة كلمة لا تعلق لها بالكلام، فلا تزيد على أن تكون لغوًا باطلًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأقرر أيضًا: أن الخلاف بين التابعين فمن بعدهم في الطلاق الثلاث ونحوه: إنما هو تكرار الطلاق. أعني: أن يطلق الرجل امرأته مرة ثم يطلقها مرة أخرى ثم ثالثة. وأعني أيضًا: أن موضوع الخلاف هو: هل المعتدة يلحقها الطلاق؟ أي إذا طلقها المرة الأولى فصارت معتدة، ثم طلقها ثانية في العدة: هل تكون طلقة واقعة ويكون قد طلقها طلقتين؟ فإذا ألحق بهما الثالثة وهي معتدة من الأولى: هل تكون طلقة واقعة أيضًا ويكون قد أوقع جميع الطلقات التي له عليها وأبانها وبت طلاقها؟ أو أن المعتدة لا يلحقها الطلاق؟ فإذا طلقها الطلقة الأولى كانت مطلقة منه، وهي في عدته، لا يملك عليها إلا ما آذنه به اللَّه {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}: إن ندم على الفراق راجعها فأمسكها، وإن أصر على الطلاق فليدعها حتى تنقضي عدتها ثم يسرحها بإحسان عن غير مضارة، ثم هو بالنسبة إليها بعد ذلك إن رغب في عودتها كغيره من الرجال: خاطبٌ عن الخطاب؟.
هذا هو موضع الخلاف على التحقيق، وأما كلمة (أنت طالق ثلاثًا) ونحوها فإنما هي محالٌ، وإنما هي تلاعب بالألفاظ، بل هي تلاعب بالعقول والأفهام!! ولا يعقل أن تكون موضع خلاف بين الأئمة التابعين فمن بعدهم.
ومن جعلها من العلماء موضع خلاف فقد سبق نظره، وفاته المعنى الصحيح الدقيق. ولكنهم رضي الله عنهم أرادوا الاحتياط في الحل والحرمة، وتغالوا فيه، ففهموا أن الاحتياط دائمًا هو في إيقاع الطلاق ولو بالشبهة، ثم نقل إليهم الخلاف في وقوع الطلاق الثلاث وعدم وقوعه، وتحققوا من إمضاء عمر إياه، وأن الصحابة وافقوه على إمضائه، وظنوا إجماعًا منهم، وفهموا أن الطلاق الثلاث يشمل اللفظ الواحد، أي قول الرجل:(أنت طالق ثلاثًا) بوصف الإنشاء بالعدد، ويشمل إيقاع ثلاث طلقات متفرقاتٍ في العدة سواء أكانت في مجلس واحد أم في مجالس. ولم يتنبهوا إلى الفرق في الوضع وفي دلالة الكلام بين صحة النوع الثاني -أي صحة الإنشاء في اللفظ؛ وأن المطلق أوقع ثلاث تطليقات. وأما صحته شرعًا وأنه طلاق معتبر، أو عدم صحته شرعًا وأنه طلاق غير معتبر: فذاك شيء آخر أي إيقاعها متفرقات، وبين بطلان النوع الأول، أي اللفظ الإنشائي المقترن بالعدد، وأنه لا يدل في الوضع إلا على إنشاءٍ واحد فقط، وأن الوصف بالعدد وصف لاغٍ- وأما الأحاديث التي تجد فيها أن فلانًا أو رجلًا طلق زوجته ثلاثًا: فإنما هي أخبار؛ أي إن الراوي يحكي عن المطلق ويخبر عنه أنه طلق ثلاثًا، فهذا إخبار صادق، لأنه يحكي عن غيره أو عن نفسه أنه أوقع ثلاث تطليقات إن شاء لكل واحدة منها، كما تحكي عن نفسك أو عن غيرك، فتقول: صلى أربع ركعات، وسبح مائة تسبيحة؛ وهكذا-.
ولو تنبهوا إلى هذا الفرق لما عدلوا عنه إن شاء اللَّه، ولقالوا كما قلنا: إن وصف الطلاق الإنشائي بالعدد وصف باطل في اللغة، لاغ في دلالة الألفاظ على المعاني، وإنه لا يدل إلا على طلقة واحدة، وإنه ليس داخلًا في الخلاف في وقوع الثلاث أو عدم وقوعه، وإنه لم يعرِفه الصحابة، ولم يعرفه عمر، ولم يُمضه أحد منهم على الناس، إذ كانوا أهل اللغة والمتحققين بها بالفطرة العربية السليمة، وإنما الذي عرفوه وأمضوهُ هو النوع الثاني وحده، وهو التطليق مرة ثانية ثم مرة ثالثة قبل انقضاء العدة، في مجلس واحد أو مجالس.=
[لوجد](1) أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة إما بفتوى وإما بإقرار عليها، ولو فُرض فيهم مَنْ لم يكن يرى ذلك فإنه لم يكن منكرًا للفتوى به، بل كانوا ما بين مُفتٍ ومقرّ بفتيا وساكتٍ غيرِ منكر، وهذا حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر، وهم يزيدون على الألف قطعًا كما ذكره يونس بن بكير عن ابن إسحاق (2)، قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير قال؛ استشهد من المسلمين في وَقعة اليمامة ألف ومئتا رجل منهم سبعون من القرّاء كلهم قد قرأوا القرآن، وتُوفي في خلافة الصديق رضي الله عنه فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعبد اللَّه بن أبي بكر (3)، قال محمد بن إسحاق: فلما أُصيب المسلمون من المهاجرين والأنصار باليمامة وأصيب فيهم عامة فقهاء المسلمين وقرائهم فزع أبو بكر إلى القرآن، وخاف أن يهلك منه طائفة، وكل صحابي من لدن خلافة الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة فتوى أو إقرارًا أو سكوتًا. ولهذا ادعى بعضُ أهلِ العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة -وللَّه الحمد- على خلافه، بل لم يزل فيهم مَنْ يُفتي به قرنًا بعد قرن، وإلى يومنا هذا، فأفتى به حَبْر الأمة وتَرْجُمَان القرآن عبد اللَّه بن عبَّاس كما رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس:"إذا قال أنت طالق ثلاثًا بفم واحد فهي واحدة"(4) وأفتى أيضًا بالثلاث، أفتى بهذا وهذا، وأفتى بأنها
= وهذا المعنى قد بدا لي منذ أكثر من عشرين سنة، وتحققتُ منه، وكتبته مختصرًا في مقالٍ نشرته في جريدة الأهرام في 30 مارس سنة 1916 - وكتبته أيضًا بشيء من التفصيل من نحو عشر سنين، في تعليقاتي على (الروضة الندية ج 2 ص 52 - 53) - ثم لم أزل كلما فكرت فيه ازددت به يقينًا، حتى لا أجد فيه مجالًا للشك أو التردد. وقد حاولت إيضاحه هنا أتم وضوح، بما وصل إليه جهدي، فإن أكن فعلت فذاك التوفيق من اللَّه، وإن أكن عجزت فذاك وُسعُ العاجز. وفوق كل ذي علم عليمٌ.
وانظر إلى إخبار ركانة أنه طلقها ثلاثًا؛ وإلى سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم: "في مجلس واحد؟ " فإنه يدل على أنه فهم من خبره ما يفهمه العربي وغيره بالبديهة، وهو: أنه نطق بالتطليق ثلاث مرات بثلاثة ألفاظ، ولذلك سأله".
(1)
سقطت من (ك) و (ق).
(2)
في المطبوع: "أبي إسحاق".
(3)
"البداية والنهاية"(6/ 308).
(4)
لم أجد هذه الرواية بعد بحث، والمشهور عن ابن عباس بالأسانيد الصحيحة عنه أنها تقع ثلاثًا، فانظر:"مصنف عبد الرزاق"(6/ 396 - 397)، و"سنن سعيد بن منصور"(1/ 262)، و"سنن البيهقي"(7/ 337).
واحدة الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، حكاه عنهما ابنُ وضَّاح (1)، وعن علي كرم اللَّه وجهه وابن مسعود روايتان (2) كما عن ابن عباس، وأما التابعون فأفتي به عكرمة، رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه، وأفتى به طاوس، وأما تابعوا التابعين فأفتى به محمد بن إسحاق، حكاه الإمام أحمد وغيره عنه، وأفتى به
(1) لم أجده عنهما مسندًا، وقال ابن رجب في "مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة""اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة، إذا سيق بلفظ واحد" نقله عنه يوسف بن عبد الهادي في "سير الحاث"(ص 3).
(2)
أما أن الثلاث تقع واحدة، فذكره ابن حزم في "المحلى"(10/ 173) من طريق الأعمش عن أبي إسحاق عن الأحوص عن ابن مسعود، وهي عند البيهقي (7/ 332)، وهي رواية محتملة أيضًا كما قال ابن حزم، وذكر عن علي من طريق حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن ابن سيرين عنه، رواية محتملة أيضًا وقال: هذا منقطع عنه لأن ابن سيرين لم يسمع من علي كلمة.
أما أن الثلاث تقع ثلاثًا فأما ابن مسعود فقد روى سعيد بن منصور (1063)، و (1093)، وعبد الرزاق (11343)، والبيهقي (7/ 332) من طرق عن الأعمش (وقرن بعضهم معه منصورًا) عن إبراهيم عن علقمة قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: إني طلقت امرأتي مئة قال: بانت منك بثلاث وسائرهن معصية، قال ابن حزم (10/ 172): هذا خبر في غاية الصحة. ورواه البيهقي (7/ 332) من طريق شعبة عن الأعمش عن مسروق عنه.
وأما علي بن أبي طالب: فقد رواه عبد الرزاق (11341) عن إبراهيم بن محمد عن شريك بن أبي نمر قال: جاء رجل إلى علي فقال: إني طلقت امرأتي عدد العرفج قال: تأخذ من العرفج ثلاثًا وتدع سائره.
وهذا إسناد ضعيف، إبراهيم بن محمد هو الأسلمي، ضعيف الحديث، ورواه البيهقي (7/ 335) من طريق أبي نعيم عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن بعض أصحابه عن علي، وفيه رجل مبهم.
ورواه سعيد بن منصور (1096) من طريق هشيم أخبرنا ابن أبي ليلى، عن رجل حدثه عن أبيه عن علي، وابن أبي ليلى هو محمد سيء الحفظ، وفيه مبهمان، ورواه البيهقي (7/ 334) من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين عن حسن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي فيمن طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، قال: لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.
ورواه البيهقي (7/ 335) من طريق أبي نعيم عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي.
وفيه انقطاع بين محمد وعلي.
خِلَاس بن عمرو والحارث العُكْلي، وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه، حكاه عنهم ابن المغلِّس (1) وابن حزم وغيرهما، وأفتى به بعض أصحاب مالك، حكاه التلمساني في "شرح تفريع ابن الجلاب"(2) قولًا لبعض المالكية، وأفتى به بعضُ الحنفية، حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل، وأفتى به بعض أصحاب أحمد، حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه، قال: وكان الجد يفتي به أحيانًا (3)، وأما الإمام أحمد نفسه فقد قال الأثرم: سألت أبا عبد اللَّه عن حديث ابن عباس: "كان الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واحدة"(4) بأيِّ شيء تدفعه؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافُه، ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث (5)؛ فقد صرح بأنه إنما
(1) في المطبوع: "أبو المفلس"! وهو عبد اللَّه بن أحمد بن المغلِّس البغدادي الظاهري (ت 324 هـ)، ترجمته في "السير"(15/ 77).
(2)
شرح "التفريع" لأبي القاسم عُبيد اللَّه بن الحسين بن الحسن بن الجلاب البصري (المتوفي 378 هـ) -وهو مطبوع عن دار الغرب الإسلامي في مجلدين- وهناك اثنان ممن ينسبون (التلمساني)، وشارحا هذا الكتاب هما:
الأول: محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الخزرجي التلمساني المالكي، نزيل الإسكندرية (المتوفى 656 هـ) -وهو شارح الجلاب المشهور-كما في "نيل الابتهاج"(ص 229).
والآخر: إبراهيم بن أبي بكر بن عبد اللَّه بن موسى الأنصاري التلمساني، أبو إسحاق (المتوفى 697 هـ)، شرح ابن الجلاب شرحًا جليًا واسعًا، كما في "الديباج المذهب"(1/ 274).
(3)
نقله عن المصنف من قوله السابق: "وكل صحابي من لدن خلافة. . . " إلى هنا: يوسف بن عبد الهادي في "سير الحاث"(ص 39 - 40) وزاد: "قلت: وقد كان يفتي به فيما يظهر لي ابن القيم. وكان يفتي به شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه بلا خلاف، وكان يفتي به جدنا جمال الدين الإمام، ولم يرد عنه أنه أفتى بغيره. قلت: وقد كان يفتي به في زماننا الشيخ على الدواليبي البغدادي، وجرى له من أجله محنة ونكاية فلم يدعه، وقد سمعت بعض شيوخنا يقوّيه، وظاهر إجماع ابن حزم أنه إجماع، لكنه لم يصرح به" قال أبو عبيدة: وكان يفتي به ابن كثير، وأوذي وامتحن بسبب هذه المسألة، كما في "طبقات الشافعية"(3/ 115) لابن قاضي شهبة وألف ابن رجب "الأحاديث والآثار المتزائدة في أن الطلاق الثلاث واحدة"، ثم تراجع عنها. والمعمول به في قوانين الأحوال الشخصية اليوم في جل بلدان المسلمين هذا القول، والحمد للَّه.
(4)
مضى تخريجه قريبًا.
(5)
مضى تخريجه ونقله يوسف بن عبد الهادي في "سير الحاث"(ص 37) عن المصنف.
ترك القول به لمخالفة رَاوِيه له، وأصل مذهبه وقاعدته التي بنى عليها أن الحديث إذا صح لم يرده لمخالفة (1) راويه له، بل الأخذ عنده بما رواه، كما فعل في رواية ابن عباس وفَتْواه في بيع الأمة (2) فأخذ بروايته أنه لا يكون طلاقًا، وترك رأيه، وعلى أصله يُخرَّج له قول إن الثلاث واحدة؛ فإنه إذا صرح بأنه إنما ترك الحديث لمخالفة الراوي وصرَّح في عدة مواضع أن مخالفة الراوي لا تُوجب ترك الحديث خرج له في المسألة قولان، وأصحابه يخرِّجون على مذهبه أقوالًا دون ذلك بكثير.
والمقصود أن هذا القولَ قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماعٌ يبطله، ولكن رَأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملةً واحدة؛ فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره نكاحَ رغبةٍ يراد للدوام لا نكاحَ تحليلٍ، فإنه كان من أشدِّ الناس فيه (3)، فإذا علموا ذلك كفّوا عن الطلاق المحرَّم، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق وصدرًا من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا (4) فيه، وكانوا يتقون اللَّه في الطلاق، وقد جعل اللَّه لكل من اتقاه
(1) في (ن) و (ق): "بمخالفة".
(2)
رواه سعيد بن منصور في "سننه"(1947): حدثنا هشيم: أخبرنا خالد الحذاء عن عكرمة عنه أنه كان يقول في بيع الأمة: هو طلاقها، وإسناده صحيح؛ رجاله كلهم ثقات.
وروي هذا عن ابن مسعود وأبي بن كعب ومن التابعين عن سعيد بن المسيب والحسن ومجاهد، أفاده ابن بطال فيما نقله ابن حجر في "الفتح" (9/ 404) ثم تعقبه بقوله:"وما نقله عن الصحابة أخرجه ابن أبي شيبة بأسانيد فيها انقطاع".
قال: "وفيه عن جابر وأنس أيضًا، وما نقله عن التابعين فيه بأسانيد صحيحة".
وفيه أيضًا: "عن عكرمة والشعبي نحوه، وأخرجه سعيد بن منصور عن ابن عباس بسند صحيح".
وانظر "تفسير ابن جرير"(8/ 155 رقم 8974 - ط شاكر) و"الإشراف"(3/ 348 - مسألة 1183 بتحقيقي).
(3)
ثبت عنه رضي الله عنه قوله: "لا أوتى بمحلل ولا محلَّل له إلا رجمتهما"، وسيأتي تخريجه قريبًا إن شاء اللَّه تعالى.
(4)
كذا في الأصول، وضبط في "صحيح مسلم" -كما قدمناه (ص 377) - بالياء آخر الحروف بدل الباء الموحدة.
مخرجًا، فلما تركوا تقوى اللَّه وتلاعبوا بكتاب اللَّه وطلّقوا على غير ما شرعه اللَّه ألزمهم بما التزموه عقوبةً لهم؛ فإن اللَّه تعالى إنما شرع الطلاق مرَّة بعد مرَّة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدَّى حدود اللَّه، وظلم نفسه، ولعب بكتاب اللَّه، فهو حقيق أن يُعَاقَبَ، ويُلزم بما التزمه، ولا يُقرّ على رخصة اللَّه وسعته، وقد صعّبها على نفسه، ولم يتق اللَّه ولم يطلق كما أمره اللَّه وشَرَعه له، بل استعجل فيما جعل اللَّه له الأناة فيه رحمة منه وإحسانًا، ولبّس على نفسه، واختار الأغلظ والأشد؛ فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان، وعلم الصحابةُ رضي الله عنهم حُسْنَ سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما أَلْزم به، وصرَّحوا لمن استفتاهم بذلك فقال عبد اللَّه بن مسعود: مَنْ أتى الأمر على وجهه فقد بُيِّن له، ومن لبّس على نفسه جعلنا عليه لبسه، واللَّه لا تلبسون على أنفسكم ونتحملُه منكم، هو كما تقولون (1). فلو كان وقوع الثلاث ثلاثًا في كتاب اللَّه وسنة رسوله لكان المطلِّق قد أتى الأمر على وجهه، ولَما كان قد لبس على نفسه، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن فعل ذلك:"أَيُلْعب (2) بكتاب اللَّه وأنا بين أظْهُركم؟ "(3) ولما
(1) لم أظفر به.
(2)
في المطبوع: "تلعب".
(3)
رواه النسائي في "سننه الصغرى"(6/ 142) وفي "الكبرى"(5594) في (الطلاق): باب الثلاث المجموعة، وما فيه من التغليظ من طريق مخرمة بن بكير عن أبيه قال سمعت محمود بن لبيد فذكره.
قال ابن حجر في "الفتح"(9/ 362): ورجاله ثقات، لكن محمود بن لبيد، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت له منه سماع، وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد في "مسنده"، وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صَرّح فيه بالسماع، وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحدًا رواه غير مخرمة بن بكير -يعني ابن الأشج- عن أبيه، ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل أنه لم يسمع من أبيه.
أقول: كلام ابن حجر رحمه الله هنا عن صحبة محمود بن لبيد خلاف ما ذكره في "الإصابة" فقد ذكره هناك (3/ 367) في القسم الأول، وذكر عن البخاري أن له صحبة، وذكر حديثًا في "مسند أحمد" فيه سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم.
ونَقْله عن النسائي موجود في "سننه الكبرى"، عن مخرمة في سماعه من أبيه كلام، وروايته عنه في "صحيح مسلم" وانظر:"زاد المعاد"(5/ 241 - 243) و"الرواة المتكلم فيهم في صحيح مسلم"(ص 495 - 505 رسالة ماجستير) لسلطان العكايلة و"الأحكام الوسطى"(3/ 193) و"الأوهام التي في مدخل أبي عبد اللَّه الحاكم"(ص 92 - 93) لعبد الغني بن سعيد، مع تعليقي عليه، وتعليقي على "الإشراف"(3/ 405).
توقَّف عبد اللَّه بن الزبير في الإيقاع وقال للسائل: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول، فاذهب إلى عبد اللَّه بن عباس وأبي هريرة، فلما جاء إليهما قال ابن عباس لأبي هريرة: أفْتِهِ فقد جاءتك مُعْضلة، ثم أفتياه بالوقوع (1)؛ فالصحابة رضي الله عنهم ومُقدَّمهم عمر بن الخطاب لما رأوا الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وأرسلوا ما بأيديهم منه ولبَّسوا على أنفسهم ولم يتقوا اللَّه في التطليق الذي شرعه لهم، وأخذوا بالتَّشديد على أنفسهم ولم يَقِفُوا على ما حدَّ لهم ألزموهم بما التزموه، وأمضوا عليهم ما اختاروه لأنفسِهم من التشديد الذي وسَّعَ اللَّه عليهم ما شرعه لهم بخلافه، ولا ريب أن مَنْ فعل هذا حقيق بالعقوبة بأن ينفذ عليه ما أنفذه على نفسه؛ إذ لم يقبل رخصة اللَّه وتيسيره ومهلته، ولهذا قال ابن عباس لمن طلق مئة: عصيتَ ربك وبانت منك امرأتك؛ إنك لم تتق اللَّه فيجعل لك مخرجًا، ومن يتق اللَّه يجعل له مخرجًا (2). وأتاه رجل فقال: إن عمي طلق ثلاثًا، فقال: إن عمك عصى اللَّه فأندمه [اللَّه](3) وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجًا، فقال: أفلا تحللها له؟ فقال: مَنْ يخادع اللَّه يخدعه (4).
(1) رواه مالك في "الموطأ"(2/ 571 و 1630 - رواية أبي مصعب) ومن طريقه الشافعي في "مسنده"(2/ 36) والبيهقي (7/ 335) عن يحيى بن سعيد عن بكير بن عبد اللَّه بن الأشج أنه أخبره عن معاوية ابن أبي عياش الأنصاري أنه كان جالسًا مع عبد اللَّه بن الزبير فذكر القصة. . .
أقول: هكذا في إسناد مالك (معاوية) وعند الشافعي (ابن أبي عياش) والمعروف بابن أبي عياش هو"النعمان" وقد ورد هكذا في إسناد حديث عند مالك قبل هذا يرويه عنه كذلك بكير بن الأشج الراوي عنه هنا، ثم وجدت ابن عبد البر يقول في "الاستذكار" (17/ 258):"معاوية والنعمان أخوان، والنعمان أسن وأبوهما أبو عياش الزرقي له صحبة" ومعاوية ترجمته في "ثقات ابن حبان"(7/ 467) و"التاريخ الكبير"(4/ 1/ 332).
(2)
هو بهذا اللفظ: رواه البيهقي في "سننه الكبرى"(7/ 337) من طريق عبيد اللَّه بن معاذ عن أبيه عن شعبة عن ابن أبي نجيح، وحميد الأعرج عن مجاهد عنه، ورواه سعيد بن منصور (1064) من طريق الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن أبي عياش، وإسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات مشهورون، وقد روى معناه عبد الرزاق (6/ 396 - 398)، وابن أبي شيبة (5/ 12)، والبيهقي (7/ 337) من طرق عنه.
(3)
ما بين المعقوفتين من المطبوع.
(4)
رواه سعيد بن منصور (1064) وابن أبي شيبة (5/ 10 - 11)، وعبد الرزاق (10779) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى"(10/ 181) -، وابن بطة في "إبطال الحيل"(ص 48)، والبيهقي (7/ 337) من طرق عن الأعمش عن مالك بن الحارث عنه.
وهذا إسناد صحيح رجاله من رواة "الصحيح" إلا مالك بن الحارث وهو ثقة.=
فليتدبَّر العالم الذي قَصْدهُ معرفةُ الحق واتباعه من الشرع والقدر في قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتقواهم ربهم تبارك وتعالى في التطليق، فجرَتْ عليهم رخصة اللَّه وتيسيره شرعًا وقدرًا، فلما ركب الناس الأحموقة، وتركوا تقوى اللَّه، ولبَّسوا على أنفسهم، وطلَّقوا على غير ما شرعه اللَّه لهم، أجْرَى اللَّه على لسان الخليفة الراشد والصحابة معه شرعًا وقدرًا إلزامَهُم بذلك، وإنفاذه عليهم، وإبقاء الإصْرِ الذي جعلوه هم في أعناقهم كما جعلوه، وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تناسب عقول أبناء الزمان (1)، فجاء أئمة الإسلام، فمضوا على آثار الصحابة سالكين مسلكهم، قاصدين رضاء اللَّه ورسوله وإنفاذ دينه.
فمنهم مَنْ ترك القول بحديث ابن عباس لظنه أنه منسوخ، وهذه طريقة الشافعي (2).
قال: "فإن كان معنى قول ابن عباس: إن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واحدة بمعنى أنه أمْرُ (3) النبي صلى الله عليه وسلم فالذي يشبه أن يكون ابن عباس قد علم شيئًا فنُسِخ.
فإن قيل: فما دل على ما وصفت؟
قيل: لا يُشبه أن يكون ابنُ عباس [قد](4) يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ثم يخالفه بشيء ولم يعلمه كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف.
فإن قيل: فلعل هذا شيء روي عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر؟
= ومالك هذا هو ابن الحارث، لكن وقع في "مصنف عبد الرزاق" ابن الحويرث، وقد نقله ابن حزم في "المحلى" (10/ 181) فقال: ابن الحارث، وهو الصواب إن شاء اللَّه تعالى.
ورواه سعيد بن منصور (1065) من طريق هشيم عن الأعمش فقال: عن عمران بن الحارث السلمي. . . وذكره.
وأخشى أن يكون هناك وهم، ورواية الجماعة أولى أي: مالك بن الحارث. . . وعمران هذا من الثقات، فلا يضر إذن.
(1)
في المطبوع: "الزمن".
(2)
نقل يوسف بن عبد الهادي في "سير الحاث"(ص 23) كلام المصنف من قوله: "ولكن رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن الناس". . . إلى هنا.
(3)
في (ك) و (ق): "بأمر".
(4)
سقطت من (ك) و (ق).
قيل: قد علمنا أنَّ ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة (1)، وبيع الدينار بالدينارين (2)، وبيع أمهات الأولاد (3)، فكيف يوافقه في شيء روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1) أما نهي عمر عن نكاح المتعة فهذا ثابت في "صحيح مسلم"(1405 بعد 17) في (النكاح): باب نكاح المتعة.
أما ابن عباس فقد ورد عنه القول بإباحتها -أي المتعة- فروى مسلم في "صحيحه"(1406 بعد 27) عن عبد اللَّه بن الزبير قال: إن أناسًا أعمى اللَّه قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة، يريد: ابن عباس.
وروى أيضًا (1407) قول علي لفلان: إنك رجل تائه، وروى أيضًا (1407 بعد 31) عن علي أنه سمع ابن عباس يُليّن في متعة النساء.
وفي "صحيح البخاري"(5115) أن عليًا قال لابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة.
وروى سعيد بن منصور (849) ومن طريقه الطحاوي (3/ 25) أن عليًا مر بابن عباس، وهو يفتي بالمتعة متعة النساء، أنه لا بأس بها.
وانظر أيضًا: "سنن البيهقي"(7/ 205)، و"فتح الباري"(9/ 168)، ويظهر أن ابن عباس لم يجز هذا الأمر مطلقًا.
ففي "صحيح البخاري"(5116) عن أبي جمرة قال: سمعتُ ابن عباس يُسأل عن متعة النساء فرخص، فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة أو نحوه، فقال ابن عباس: نعم. وانظر: "الفتح" أيضًا.
(2)
تجويز ابن عباس لربا الفضل ثابت في "صحيح البخاري"(2178 و 2179) في (البيوع): باب الدينار بالدينار نساء، ومسلم (1596) في (المساقاة): باب بيع الطعام مثلًا بمثل، من حديث أبي سعيد وفيه قصة.
وفي "صحيح مسلم"(1594 بعد 99) و (100) عن أبي نضرة: سألتُ ابن عباس عن الصرف فقال: أيدًا بيد؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس به. . . وفيه كتابة أبي سعيد له.
ثم ذكر أن ابن عباس كرهه فيما بعد، وقد روي أن ابن عباس رجع عن هذا، روى ذلك الحاكم في "مستدركه" (2/ 42 - 43) من طريق حَيَّان بن عبيد اللَّه قال: سألت أبا مجلز عن الصرف، فقال: كان ابن عباس رضي الله عنهما لا يرى به بأسًا زمانًا من عمره.
وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة، وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: حَيَّان فيه ضعف، وليس بالحجة.
والحديث ذكره الحافظ في "الفتح"(4/ 382) ساكتًا عليه.
ولرجوعه ينظر: "أوهام الحاكم في المدخل" العبد الغني بن سعيد الأزدي (ص 103 - 104) مع تعليقي عليه
(3)
أما عمر فقد كان ينهى عن بيع أمهات الأولاد، روى ذلك عبد الرزاق في "مصنفه"(13224)، والشافعي في "الأم"(7/ 162) وسعيد بن منصور (2046، 2048) وابن شبة في "تاريخ المدينة"(2/ 729) والفسوي في "المعرفة والتاريخ"(1/ 442) والدولابي =