الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعمر (1)، وابن مسعود (2)، وجماعة من التابعين، وحجة هذا القول أنه لما كان يمينًا مغلظة غُلِّظت كفارتها بتحتم العتق، ووجهُ تغليظها تضمنُها تحريمَ ما أحل اللَّه وليس إلى العبد، وقولُ المنكر والزور إن أراد الخبر فهو كاذب في إخباره معتدٍ في إقسامه، فغلظت كفارته بتحتم العتق كما غلظت كفارة الظهار به أو بصيام شهرين أو بإطعام ستين مسكينًا.
[المذهب الخامس عشر وحجته]
المذهب الخامس عشر: أنه طلاق، ثم إنها إن كانت غير مدخول بها فهو ما نواه من الواحدة وما فوقها، وإن كانت مدخولًا بها فهو ثلاث، وإن نوى أقلَّ منها، وهو إحدى الروايتين (3) عن مالك، وحجة هذا القول أن اللفظ لما اقتضى التحريم وجب أن يترتَّبَ عليه حكمه، وغير المدخول بها تحرم بواحدة، والمدخول بها لا تحرم إلا بالثلاث.
[أقوال المالكية في المسألة]
وبعد: ففي مذهب مالك خمسة أقوال (4)، هذا أحدها، وهو مشهورها.
والثاني: أنه ثلاث بكل حال نوى الثلاث أو لم ينوها، اختارها عبد الملك في "مبسوطه".
والثالث: (5) أنه واحدة بائنة مطلقًا، حكاه ابن خويز منداد رواية عن مالك.
الرابع: أنه واحدة رجعية، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة.
الخامس: أنه ما نواه من ذلك مطلقًا، سواء قبل الدخول وبعده (6).
(1) مضى تخريجه.
(2)
مضى تخريجه.
(3)
في (ق): "الروايات".
(4)
انظر تفصيل ذلك في "البيان والتحصيل"(5/ 221، 226، 6/ 21، 111، 160) و"النوادر والزيادات"(5/ 156 - 158) و"عقد الجواهر الثمينة"(2/ 163 - 167) والمصنف نقل الأقوال منه.
(5)
في (ك): "الثالث" دون واو، وفي (ق):"الثاني"!!
(6)
قال القرافي "الاستغناء"(ص 705 وما بعد) ما نصه:
"ومذهب (المدونة) وكل ما ينبني عليه إنما يستقيم إذا كان العرف يقتضي أن هذه اللفظة وضعت للبينونة مع العدد الثلاث، وإنما أفتى به مالك رحمه اللَّه تعالى بناء على ذلك. كذلك قرره المازري رحمه اللَّه تعالى، ونقله صاحب (الجواهر) عنه كذلك. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
=وإذا كان العرف في بلد على ذلك تتعين الفُتيا به وبصحة الاستثناء كما تقدم، أما إذا تغير العرف مطلقًا، أو في بلد دون بلد امتنعت الفُتيا به حالة عَدِمَ العُرف عند من عَدِم عنده العرف.
واليوم بمصر والقاهرة لم نجدهم على هذا العرف، بل نجدهم يطلقون (الحرام) على أصل الطلاق. أما العدد والثلاث فلم نجد ذلك. والحكم ينتفي لانتفاء مدركه إجماعًا. فكل من أفتى اليوم عندنا بالثلاث فهو مخالف للإجماع.
ومما ينبّهك على هذه القاعدة أن كل زمان تحمل معاملات أهله عند الإطلاق على النقد المتعارف في ذلك الوقت، فإذا حدثت سكة أخرى امتنعت الفتيا بالسكة الأولى ويعينها على المشتري عند الإطلاق إذا اشتهرت الثانية. وكذلك إذا احلف أو أوصى أو أقر بدراهم أو غيرها حمل عند الإطلاق على العادة، فإذا تغيرت العادة تغيرت الفتيا. وهذا أمر مجمع عليه.
وإياك أن يخطر لك أن هذه اللفظة تدل على هذا المعنى لغة؛ لأني أطرفك بشيء، وهو أن قول القائل: أنت طالق ثلاثًا لا يدل على إزالة العصمة بالعدد الخاص لغة، لحصول الاتفاق على أن أصل صيغ الطلاق والعتاق والعقود في المعاملات -نحو: بعت واشتريت- للإخبار، ثم انتقلت في العرف لإنشاء هذه الأحكام.
ولو خُليّنا وموجب اللغة لكان معنى كلامه (أنت طالق ثلاثًا) الإخبار عن ذلك قد تقدم لها قبل هذا النطق؛ لأن الإخبار يقتضي تقدم استقرار المخبر عنه، وهي لم يستقر لها طلاق قبل هذا، فكان إخبارًا كذبًا لا يلزمه به شيء.
وكذلك لو جاءنا وقال: قصدت الإخبار كذبًا لم يلزمه شيء في الفتيا دون القضاء، وإنما الموجب للزوم هذه الأحكام عن هذه الصيغ النقل العرفي.
وكذلك لو قال: أنت طالق، لزمه الطلاق، ولو قال: أنت منطلقة لم يلزمه شيء إلا أن ينوي به الطلاق، مع أن الطاء واللام والقاف مشترك بين الصيغتين، غير أن (أنت طالق) في العرف موضوع للإنشاء، و (أنت منطلقة) بقي على أصل الخبرية فلا جرم لم يُفد إزالة العصمة؛ لأنه لم يوضع لها في العرف.
فلو انعكس الحال في بعض الأزمنة أو بعض البلاد فصار (طالق) مهجورًا غير مستعمل في إزالة العصمة إلا على وجه الندرة، و (منطلقة) موضوعًا لذلك، ألزمناه الطلاق بمنطلقة بغير نية، ولم نلزمه الطلاق بطالق إلا بالنية وكذلك جميع الألفاظ لا أخص بهذا لفظًا دون لفظ.
وليس في لغة العرب على الإطلاق ما يقتضي إزالة عصمة أحد عن امرأته. إنما فيها الإخبار عن الازالة. وفرق بين موجب الإزالة والإخبار عن الإزالة. والكلام إنما هو في الأول دون الثاني، وليس الأول في اللغة البتة في لفظ من الألفاظ وإنما يوجد ذلك في الألفاظ العرفية خاصة.
فتأمل ذلك، فإن كثيرًا من الفقهاء يجوز أن تكون هذه الألفاظ تدل على هذه الأحكام لغة بسبب عدم معرفتهم بقواعد الشريعة وقواعد اللغة. =
وقد عرفت توجيه هذه الأقوال.
= وحينئذ يتعين أن الإفادة إنما هي عرفية. فبنا ضرورة إلى تفقد العرف، إن وجدنا فيه شيئًا أفتينا به، وإلا حرم علينا الفتيا به وإن كان منقولًا في المذهب، فإن وضعه في المذهب يستحل أن يكون اللغة كما تقدم، فيتعين أن يكون العرف. والعرف إذا تغير تغيرت أحكامه إجماعًا كما تقدم.
ومن العجب أنهم يُفتون بلزوم الطلاق الثلاث بما هو أشد وأبعد من "الحرام" وهو: الخَلية والبَرية ووهبتُك لأهلك. مع أنا لم نسمع أحدًا طلق امرأته بلفظ الخلية، ولو سمعناه ما كان عرفًا حتى يتكرر تكررًا يستغني في فهم معناه عن القرينة. ألا ترى أنا نسمع لفظ الأسد يستعمل في الرجل الشجاع مرارًا كثيرة، ومع ذلك لا نقول أنه من الألفاظ المنقولة، لاحتياجه للقرينة عند الإطلاق. وكذلك البحر في العالم والسخي، والغيث والغمام، وكذلك البدر في الجميل، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تستعمل مجازًا فما يلزم من أصل الاستعمال النقل.
ومالك رحمه اللَّه تعالى إنما أفتى في (المدونة) في الخلية والحرام والبرية ووهبتك لأهلك بالثلاث لأجل عرفٍ في زمانه. فإذا لم نجد نحن ذلك العرف لا تكون تلك الفتيا من ذلك في تلك الصورة، بل في صورة العرف لا في سورة عدمه. ألا ترى أنه أفتى بألفاظ كثيرة في المرابحة لأنها في العرف ذلك الوقت تستعمل كذلك. وفي وقتنا هذا لا تلزم تلك الأحكام عند تلك الإطلاقات. ألا ترى إلى قول القاضي إسماعيل في كتاب (الجلاب): إنما قال مالك ذلك في قبض الصداق؛ لأن ذلك كان عرفهم بالمدينة، وأما في غيرها فلا.
بل نص العلماء في الكتب الموضوعة في الفُتيا وأحكامها وشروطها على أن المفتي إذا كان لبلدةٍ عادة وجاءه رجل لا يدري من أي البلاد هو يجب عليه أن يسأله عن عرف بلده. فإن أخبره بخلاف عرف بلده حرم عليه أن يفتيه بعرف نفسه ووجب عليه أن يفتيه بعرف السائل. فإن جاءه سائل آخرُ عرفُ بلده غير بلد الأول وجب عليه أن يفتيه بغير ما أفتى به الأول وكذلك جميع السائلين.
وإنما أطنبت في هذا؛ لأني رأيتهم يجمدون على النقول الموجودة في الفتاوى المبنية على العوائد ويقولون: النقل هكذا، ولا يخرجوه عنه أصلًا. وهذا صعب محرم لا مرية فيه.
إذا تقرر هذا، إن كان العرفُ في (الحرام) الثلاث فكما تقدم. وإن كان العرف أنه لأصل الطلاق دون العدد بطل استثناؤه؛ لأن أصل الطلاق واحدة، واستثناء واحدة من واحدة لا يصح فتلزمه واحدة، وهي مقتضى أصل كلامه. وإن كان اللفظ لم ينقل لأصل الطلاق أيضًا لم يلزمه شيء البتة إلا بالنية. هذه قواعد الفقه التي يتعين الانقياد لها".
وانظر: "عقد الجواهر الثمينة"(2/ 165)، "المدونة"(2/ 394، 402 - ط صادر)، "المعونة"(2/ 848)، "أسهل المدارك"(2/ 142)، "الكافي"(265)، "مواهب الجليل"(4/ 57)، "بداية المجتهد"(2/ 76 - 77).