الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن شهدت الأصول من عمل السلف أو النظر على ثبوتهما معًا أثبتناهما، وإن شهدت بالنص منفردًا عنها أثبتناه دونها، وإن لم يكن في الأصول دلالة على أحدهما فالواجب أن يُحكم بورودهما معًا، ويكونان بمنزلة الخاص والعام إذا لم يُعلم تاريخهما ولم يكن في الأصول دلالة على وجوب القضاء بأحدهما (1) على الآخر فإنهما يُستعملان معًا، وإن كان ورود (2) النص من جهةٍ تُوجب العلم كالكتاب والخبر المستفيض وورود الزيادة من جهة أخبار الآحاد لم يجُز إلحاقها بالنص ولا العملِ بها، وذهب بعض أصحابنا إلى أن الزيادة إن غَيَّرت حكم المزيد عليه تغييرًا شرعيًا بحيث إنه لو فُعل على حد ما كان يُفعل قبلها لم يكن معتدًا به، بل يجب استئنافُه، كان نسخًا (3)، نحو ضَمِّ ركعة إلى ركعتي الفجر، وإن لم تغيّر (4) حكم المزيد عليه بحيث لو فُعل على حد ما كان يُفعل قبلها كان معتدًا به ولا يجب استئنافه لم يكن نسخًا، ولم يجعلوا إيجابَ التغريب مع الجلد نسخًا، وإيجابَ عشرين جلدة مع الثمانين نسخًا، وكذلك إيجاب شرط منفصل عن العبادة (5) لا يكون نسخًا كإيجاب الوضوء بعد فرض الصلاة، ولم يختلفوا أن إيجابَ زيادة عبادة على عبادة كإيجاب الزكاة بعد إيجاب الصلاة لا يكون نسخًا، ولم يختلفوا أيضًا أن إيجاب صلاة سادسة على الصلوات الخمس لا يكون نسخًا.
[الكلام على الزيادة المغيرة لحكم شرعي]
فالكلام معكم في الزيادة المغيِّرة في ثلاثة مواضع: في المعنى، والاسم، والحكم، أما المعنى فإنها تُفيد معنى [النسخ؛ لأنه الإزالة، والزيادة](6) تُزيل حكم الاعتداد بالمزيد عليه وتُوجب استئنافه بدونها، وتُخرجه عن كونه جميعَ
(1) في (ق): "على وجوب أحدهما بالقضاء".
(2)
في (ن) و (ك) و (ق): "ورد".
(3)
انظر: "المسودة"(208)، و"المستصفى"(1/ 117)، و"العدة في أصول الفقه"(3/ 814 - 820)، و"شرح الإسنوي على المنهاج"(2/ 191)، و"إحكام الأحكام"(3/ 156) للآمدي، و"فواتح الرحموت"(2/ 192)، و"حاشية البناني"(2/ 92)، و"الزيادة على النص"(36) للثقفي.
(4)
في المطبوع: "يغير".
(5)
انظر: "الإحكام"(3/ 56)، و"العدة"(3/ 814) و"الإسنوي على المنهاج"(2/ 191).
(6)
في (ق): "النسخ والإزالة؛ لأنه زيادة".
الواجب، وتجعله بعضَه، وتوجب التأثيم على المُقتصر عليه بعد أن لم يكن آثمًا (1)، وهذا معنى النسخ، وعليه [ترتَّب](2) الاسم، فإنه تابعٌ للمعنى؛ فإن الكلام في زيادة شرعية مغيرة للحكم الشرعي بدليلٍ شرعي متراخٍ عن المزيد عليه، فإن اختل وصْفٌ من هذه الأوصاف لم تكن نسخًا، فإن لم تغيّر حكمًا شرعيًا بل رفعت حكم البراءة الأصلية لم تكن نسخًا كإيجاب عبادة بعد أخرى، والزيادة إن كانت مقارِنة (3) للمزيد عليه لم تكن نسخًا وإن غيَّرته (4)، بل تكون تقييدًا أو تخصيصًا.
وأما الحكم فإن كان النصُّ المزيدُ عليه ثابتًا بالكتاب أو السنة المتواترة لم يُقبل خبرُ الواحد بالزيادة عليه، وإن كان ثابتًا بخبر الواحد قُبلت الزيادة، فإن اتفقت الأمة غلى قبول خبر الواحد في القسم الأول علمنا أنه ورد مقارنًا للمزيد عليه فيكون تخصيصًا لا نسخًا، قالوا: وإنما لم نَقبل خبرَ الواحد بالزيادة على النص لأن الزيادة لو كانت موجودةً معه لنقلها إلينا من نقل النص؛ إذ غيرُ جائزٍ أن يكون المراد إثباتَ النص معقودًا بالزيادة فيقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على إبلاع النص منفردًا عنها؛ فواجبٌ إذن أن يذكرها معه، ولو ذكرها لنقلها إلينا مَنْ نقلَ النص. فإن كان النص مذكورًا في القرآن والزيادة واردة من جهة السنة فغيرُ جائزٍ أن يقتصرَ النبي صلى الله عليه وسلم على تلاوة الحكم المنزل في القرآن دون أن يعقبها بذكر الزيادة؛ لأن حصولَ الفراغِ من النص الذي يمكننا استعماله بنفسه يلزمنا اعتقاد مقتضاه من حكمه، كقوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فإن كان الحدُّ هو الجلد والتغريب فغير جائز أن يتلو النبي صلى الله عليه وسلم الآية على الناس عارية من ذكر النفي عقبها؛ لأن سكوته عن ذكر الزيادة معها يلزمنا اعتقاد موجبها وأن الجلد هو كمال الحد؛ فلو كان معه تغريب لكان بعضَ الحد لا كماله، فإذا أخلى التلاوة من ذكر النفي عقيبها فقد أراد منا اعتقاد أن الجلد المذكور في الآية هو تمامُ الحد وكماله؛ فغير جائزٍ إلحاق الزيادة معه إلا على وجه النسخ، ولهذا كان قوله:"واغْدُ يا أُنيس على امرأةِ هذا فإن اعترفت فارجُمها"(5) ناسخًا لحديث
(1) في المطبوع: "إثمًا".
(2)
في نسخة (ط): "يرتب".
(3)
في المطبوع: "وإن كانت الزيادة مقارنة".
(4)
انظر بحث ابن القيم رحمه الله النسخ في: "مفتاح دار السعادة"(361 - 364، 370)، و"زاد المعاد"(2/ 183)، و"شفاء العليل"(405 - 406).
(5)
رواه البخاري (2314) و (2315) في (الوكالة): باب الوكالة في الحدود.-وانظر أطرافه =
عُبادة بن الصامت: "الثَّيب بالثيب جَلْدُ مئة والرَّجمُ"(1) وكذلك لما رَجمَ ماعزًا ولم يجلده (2)، كذلك يجب أن يكون قوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ناسخًا لحكم التغريبِ في قوله: "البِكرُ بالبكرِ جلُد مئة وتغريبُ عام"(3).
والمقصود أن هذه الزيادة لو كانت ثابتة مع النص لذكرها النبي صلى الله عليه وسلم عقيب التلاوة، ولنقلها إلينا من نقل المزيدَ عليه؛ إذ غيرُ جائزٍ عليهم أن يعلموا أن الحدَّ مجموعُ الأمرين وينقلوا (4) بعضه دون بعض، وقد سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر الأمرين، فامتنع حينئذٍ العملُ بالزيادة إلا من الجهة التي ورد منها الأصل، فإذا وردت من جهة الآحاد فإن كانت قبل النصّ فقد نَسَخها النص المطلق عاريًا من ذكرها، وإن كانت بعده فهذا يُوجب نسخ الآية بخبر الواحد وهو ممتنع، فإن كان المزيدُ عليه ثابتًا بخبر الواحد جاز إلحاقُ الزيادة بخبر الواحد على الوجه الذي يجوز نسخه به، فإن كانت واردة مع النص في خطاب واحد لم تكن نسخًا وكانت بيانًا.
فالجواب من وجوه:
أحدها: إنكم أول من نقض هذا الأصل الذي أصَّلتموه فإنكم قبلتم خبر الوضوء بنبيذ التمر (5) وهو زائد على ما في كتاب اللَّه مغيّر لحكمه؛ فإن اللَّه سبحانه جعلَ حُكمَ عادم الماء التَّيممَ، والخبرُ يقتضي أن يكون حكمه الوضوء بالنبيذ؛ فهذه الزيادة بهذا الخبر الذي لا يثبت رافعة لحكمٍ شرعي غير مقارنة ولا مقاومة له بوجه (6)، وقبلتم خبرَ الأَمَر بالوتر (7) مع رفعه لحكم شرعي، وهو اعتقاد
= هناك فهي كثيرة- ومسلم (1697) في (الحدود): باب من اعترف على نفسه بالزنا، من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني.
(1)
رواه مسلم في "صحيحه"(1690) في (الحدود): باب حد الزنى.
(2)
رواه مسلم (1695) في (الحدود): باب من اعترف على نفسه بالزنا، من حديث بُريدة رضي الله عنه.
(3)
هو جزء من حديث عبادة السابق، وانظر:"زاد المعاد"(3/ 207).
(4)
في (ق) و (ك): "وينقلون".
(5)
خرجته مفصلًا في كتاب "الخلافيات"(1/ 157 - 179)(رقم 19)، وينظر "نصب الراية"(1/ 137 - 148).
(6)
في (د): "مقارنة له ولا مقاومة بوجه".
(7)
يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه زادكم صلاةً إلى صلاتكم". وورد من حديث جمع من الصحابة وهو حديث صحيح، انظره مفصلًا في "نصب الراية"(2/ 109)، و"التلخيص الحبير"(2/ 16) و"إرواء الغليل"(2/ 156).
كون الصلوات الخمس هي جميع الواجب ورفع التأثيم بالاقتصار عليها وإجزاء الإتيان في التَّعبدِ بفريضة الصلاة، والذي قال هذه الزيادة هو الذي قال سائر الأحاديث الزائدة على ما في القرآن، والذي نَقَلَها إلينا هو الذي نقل تلك بعينه أو أوثق منه أو نظيره، والذي فرض علينا طاعة رسوله وقبول قوله في تلك الزيادة هو الذي فرض علينا طاعته وقبول قوله في هذه، والذي قال لنا:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] هو الذي شرع لنا هذه الزيادة على لسانه، واللَّه سبحانه وَلَّاه منصبَ التشريع عنه ابتداء، كما ولاه منصب البيان لما أراده بكلامه، [بل كلامه](1) كله بيان عن اللَّه، والزيادة بجميع وجوهها لا تخرج عن البيان بوجهٍ من الوجوه، بل كان السلفُ الصالحُ الطيبُ إذا سمعوا الحديث عنه وجدوا تصديقه في القرآن ولم يقل أحد منهم قط في حديث واحد أبدًا: إن هذا زيادة على القرآن فلا نقبله ولا نسمعه ولا نعمل به، ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أجلُّ في صدورهم وسنتُه أعظمُ عندهم من ذلك وأكبر. ولا فرق أصلًا بين مجيء السنة بعددِ الطَّوافِ وعدد ركعات الصلاة ومجيئها بفرض الطمأنينة وتعيين الفاتحة والنية؟ فإن الجميعَ بيانٌ لمراد اللَّه أنه أوجب هذه العبادات على عباده على هذا الوجه، فهذا الوجه هو المراد، فجاءت السنة بيانًا للمُراد في جميع وجوهها، حتى في التشريع المبتدأ، فإنها بيان لمراد اللَّه من عموم الأمر بطاعته وطاعة رسوله، فلا فَرْق بين بيان هذا المراد وبين بيان المراد من الصلاة والزكاة والحج والطواف وغيرها، بل هذا بيانُ المراد من شيء وذاك بيانُ المراد من أعمّ منه؛ فالتغريبُ بيانٌ محض للمراد من قوله:{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] وقد صرَّح النبي صلى الله عليه وسلم بأن التغريب (2) بيان لهذا السبيل المذكور في القرآن، فكيف يجوز رده بأنه مخالفٌ للقرآن معارضٌ له؟ ويقال: لو قبلناه لأبطلنا به حكم القرآن؟ وهل هذا إلا قلبٌ للحقائق؟ فإن حكم القرآن العام والخاص يوجب علينا قبوله فرضًا لا يسعنا مخالفته؛ فلو خَالفْناه لخالفنا القرآن ولخرجنا عن حكمه ولا بد، ولكان في ذلك مخالفة للقرآن والحديث معًا.
يوضحه الوجه الثاني: أن اللَّه سبحانه نصب رسوله (3) صلى الله عليه وسلم منصب المُبلِّغ المبين عنه، فكل ما شرعه للأمة فهو بيان منه عن اللَّه أنَّ هذا شرْعه ودينه، ولا
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، و (ق) و (ك).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
كذا في (ق)، وفي باقي النسخ:"رسول اللَّه".