الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتأمل كيف كان الأمر على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر الصديق من كون الثلاث واحدة والتحليل ممنوع منه، ثم صار في بقية خلافة عمر الثلاثُ ثلاثٌ والتحليلُ ممنوعٌ منه، وعمر من أشد الصحابة فيه، وكلهم على مثل قوله فيه.
[يمتنع معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر في هذه الأزمنة]
ثم صار في هذه الأزمنة التحليل كثيرًا مشهورًا والثلاث ثلاثًا.
وعلى هذا فيمتنع في هذه الأزمنة معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر من وجهين:
أحدهما: أن أكثرهم لا يعلم أن جَمْعَ الثلاث حرام، لا سيما وكثير من الفقهاء لا يرى تحريمه، فكيف يُعَاقَب مَنْ لم يرتكب محرمًا عند نفسه؟
الثاني: أن عقوبتهم بذلك تفتح عليهم باب التحليل الذي كان مسدودًا على عهد الصحابة، والعقوبة إذا تضمنت مَفْسَدة أكثر من الفعل المعاقب عليه كان تركها أحبَّ إلى اللَّه ورسوله، ولو فرضنا أن التحليل مما أباحته الشريعة -ومَعَاذ اللَّه- لكان المنع منه إذا وصل إلى هذا الحد الذي قد تفاحش قبحه من باب سَدِّ الذَّرَائع، وتعيَّنَ على المفتين والقُضَاة المنعُ منه جملة، وإنْ فرض أن بعض أفراده جائز؛ إذ لا يستريب أحد في أن الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق وصدر من خلافة عمر أوْلى من الرجوع إلى التحليل، واللَّه الموفق (1).
فصل [موجبات الأيمان والأقارير والنذور]
المثال الثامن: مما تتغيّر (2) به الفتوى لتغير العرف والعادة: موجبات الأيْمَانِ والإقرار والنذور وغيرها؛ فمن ذلك أن الحالف إذا حَلَفَ "لا ركبتُ دابة" وكان في بلدٍ عرفُهم في لفظ الدابة الحمار خاصة اختصت يمينه به، ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل، وإن كان عرفُهم في لفظ الدابة الفَرَس خاصة حُملت يمينه
(1) نقل يوسف بن عبد الهادي في "سير الحاث"(ص 69 - 77) كلام المصنف عن (المحلل) وعزاه لكتابنا هذا.
(2)
في (و): "يتغير".
عليها دون الحمار، وكذلك إن كان الحالف ممن عادته ركوب نوع خاص من الدواب كالأمراء ومَنْ جَرَى مَجْرَاهم حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدواب؛ فيُفتى في كل بلد بحسب عُرْف أهله، ويُفتي كل أحد بحسب عادته (1)، وكذلك إذا حلف:"أكلت رأسًا" في بلدٍ عادتهم أكل رؤوس الضأن خاصة لم يحنث بأكل رؤوس الطير والسمك ونحوها، وإن كان عادتهم أكل [رؤوس](2) السمك حنث بأكل رؤوسها، وكذلك إذا حلف لا اشتريت كذا ولا بعته ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها ونحو ذلك، وعادتُه أن لا يباشر ذلك بنفسه كالملوك حَنَث قطعًا بالإذن والتوكيل فيه، فإنه نفسُ ما حلف عليه، وإن كان عادته مباشرة ذلك بنفسه كآحاد الناس فإنْ قَصَدَ منع نفسه من المباشرة لم يحنث بالتوكيل، وإن قصد عدمَ الفعل والمنع منه جملة حنث بالتوكيل، وإن أطلق اعتبر سبب اليمين وبسَاطها (3) وما هَيَّجَهَا، وعلى هذا إذا أقر المَلِكُ أو أغنى أهل البلد [لرجل](4) بمال كثير لم يُقْبَلْ تفسيرُه بالدرهم والرغيف ونحوه مما يتموَّل [به](5)، فإن أقَرَّ به فقير يعد عنده الدرهم والرغيف كثيرًا قبل منه، وعلى هذا إذا قيل له: جاريتك أو عبدك يرتكبان الفاحشة، فقال: ليس كذلك، بل هما حرَّان لا أعلم عليهما فاحشة؛ فالحق المقطوع به أنهما لا يُعتقان بذلك، لا في الحكم ولا فيما بينه وبين اللَّه تعالى؛ فإنه لم يرد ذلك قطعًا، واللفظ مع القرائن المذكورة ليس صريحًا في العتق ولا ظاهرًا فيه، بل ولا محتملًا له، فإخراجُ عبدِه أو أمته عن ملكه بذلك غيرُ جائزٍ (6)، ومن ذلك ما أخبرني به بعض أصحابنا أنه قال لامرأته: إن أذنْتُ لك في الخروج إلى الحمَّام فأنت طالق، فتهيأت للخروج إلى الحمام، فقال لها: أخرجي وأبصري، فاستفتى بعض الناس، فأفتوه بأنها قد طلقت منه، فقال للمفتي: بأي شيء أوقعت عليّ الطلاق؟ قال: بقولك لها أخرجي، فقال: إني لم أقل لها ذلك إذنًا، وإنما قلته تهديدًا، أي: إنّكِ لا يمكنكِ الخروج، وهذا
(1) انظر في وجوب مراعاة القاضي العرف في قضاءه ما سيأتي (3/ 470)، فإنه مهم.
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
(3)
في (ق): "سباطها" وبينهما معنى مشترك، انظر "معجم مقاييس اللغة"(1/ 247، 3/ 128).
(4)
سقط من (ق).
(5)
ما بين المعقوفتين من (و).
(6)
انظر: "بدائع الفوائد"(3/ 148)، و"تهذيب السنن"(5/ 424 - 425 و 6/ 339).
كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40]، فهل هذا إذْنٌ لهم أن يعملوا ما شاءوا؟ فقال: لا أدري، أنت لفظتَ بالإذنِ، فقال له: ما أردت الإذن، فلم يَفْقَه المُفْتِي هذا، وغلظ حجابه عن إدراكه، وفرَّق بينه وبين امرأته بما لم يأذن به اللَّه ورسوله (1) ولا أحد من أئمة الإسلام، وليت شعري هل يقول هذا المفتي: إن قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، إذْنٌ له في الكفر؟ وهؤلاء أبْعَدُ الناس عن الفَهْمِ عن اللَّه ورسوله وعن المطلقين مقاصدهم، ومِنْ هذا إذا قال العبد لسيده، وقد استعمله في عمل يَشُقُّ عليه: أعتقني من هذا العمل، فقال: أعتقتك، ولم ينو إزالة ملكه عنه، لم يعتق بذلك، وكذلك إذا قال عن امرأته: هذه أختي، ونوى أختي في الدين، لم تحرم بذلك، ولم يكن مُظَاهِرًا، والصريح لم يكن موجبًا لحكمه لذاته، وإنما أوجبه لأنا نستدل على قصد المتكلم به لمعناه؛ لجريان (2) اللفظ على لسانه اختيارًا؛ فإذا ظهر قَصْدُه بخلاف معناه لم يجز أن يُلْزَمَ بما لم يرده، ولا التزمه، ولا خطر بباله، بل إلزامه بذلك جناية على الشرع وعلى المكلف، واللَّه سبحانه وتعالى رَفَعَ المؤاخذة عن المتكلم بكلمة الكفر مُكْرَهًا لما لم يقصد معناها ولا نواها، فكذلك (3) المتكلم بالطلاق والعتاق والوقف واليمين والنذر مكرهًا لا يلزمه شيء من ذلك؛ لعدم نيته وقصده، وأتى باللفظ الصريح؛ فعلم أن اللفظ إنما يوجب معناه لقصد المتكلم به، واللَّه تعالى رفع المؤاخذة عمَّن حدَّثَ نفسَه بأمر بغير تلفظٍ أو عمل، كما رفعها عمن تلفظ باللفظ من غير قصد لمعناه، ولا إرادة، ولهذا لا يكفر مَنْ جَرَى على لسانه لفظُ الكفر سَبْقًا من غير قصد لفرح أو دهش وغير ذلك (4)، كما في حديث الفرح الإلهِيِّ بتوبة العبد، وضرب مثل ذلك بمن فَقَدَ راحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المُهْلكة، فأيس منها ثم وجدها فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك "أخطأ من شدة الفرح"(5) ولم يؤاخذ بذلك.
(1) في (ن) و (ق): "بما لم يأذن اللَّه به ولا رسوله".
(2)
في (ك): "بجريان".
(3)
في (ق) و (ك): "ولا نواة، وكذلك".
(4)
في (و): "أو غير ذلك".
(5)
رواه البخاري (6309) في (الدعوات): باب التوبة، ومسلم (2747) في (التوبة): باب في الحض على التوبة، من حديث أنس بن مالك.
وقد ورد عن جمع من الصحابة أغلبها في "الصحيحين".