الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفروعه لها، وإنما الشأن فيمن عمل في مال غيره عملًا بغير إذنه ليتوصل بذلك العمل إلى حقه، أو فعله حفظًا لمال المالك واحترازًا له من الضياع؛ فالصواب أنه يرجع عليه بأجرة عمله، وقد نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه في عدة مواضع: منها أنه إذا حصد زرعه في غيبته فإنه نص (1) على أنه يرجع عليه بالأجرة، وهذا من أحسن الفقه، فإنه إذا مرض أو حبس أو غاب فلو ترك زرعه بلا حَصَاد لهلك وضاع، فإذا علم مَنْ يحصده له أنه يذهب عليه عمَلُه ونفقتُه ضياعًا لم يُقْدِمْ على ذلك، وفي ذلك من إضاعة المال وإلحاق الضرر بالمالك ما تأباه الشريعة الكاملة؛ فكان من أعظم محاسنها أن أذِنَتْ للأجنبي في حَصَاده والرجوع على مالكه بما أنفق عليه حفظًا لماله ومال المحسن إليه، وفي خلاف ذلك إضاعة لمالَيهما أو مال أحدهما، ومنها ما نص عليه (2) فيمن عمل في قَنَاة رجل بغير إذنه فاستخرج الماء، قال: لهذا الذي عمل نفقته، ومنها لو انكسرت سفينته فوقع متاعه في البحر فخلَّصه رجل فإنه لصاحبه، وله عليه أجرة مثله، وهذا أحسن من أن يقال: لا أجرة له؛ فلا تطيب نفسه بالتعرض للتلف والمشقة الشديدة ويذهب عمله باطلًا أو يذهب مال الآخر ضائعًا، وكل منهما فساد محض (3)، والمصلحة في خلافه ظاهرة، والمؤمنون يرون قبيحًا أن يذهب عمل مثل هذا ضائعًا ومال هذا ضائعًا، ويرون من أحسن الحسن أن يسلم مال هذا وينجح سَعْيُ هذا، واللَّه الموفق.
[ضمان دين الميت الذي لم يترك وفاء]
المثال الحادي والسبعون: رد السنة الثابتة الصريحة المحكمة في [صحة](4) ضمان دين الميت الذي لم يُخَلِّفْ وفاء، كما في "الصحيحين" عن أبي قتادة قال:"أُتِيَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بجنازة ليصلي عليها، فقال: أعليه دَيْن؟ فقالوا: نعم ديناران، فقال: أتَرَكَ لهما وفاءً؟ قالوا: لا، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: هما عليّ يا رسول اللَّه، [فصلّى عليه] "(5) فردت هذه السنة برأي لا يُقَاومها، وهو
(1) انظر: "القواعد"(2/ 71 - 72 - بتحقيقي).
(2)
في رواية أبي حرب الجرجرائي، ومضت.
(3)
في (ن): "وكلها فساد محض"، وفي (ق):"وكلاهما فساد محض".
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(5)
حديث أبي قتادة هذا ليس في "الصحيحين"! فقد رواه أحمد في "مسنده"(5/ 301 - 302 و 304 و 311)، والدارمي (2/ 263)، والترمذي (1969) في (الجنائز): باب ما =
أن الميت قد خَرِبت ذمته؛ فلا يصح ضمان شيء خَرَاب في محل خراب، بخلاف الحيّ القادر فإنَّ ذمته بصَدَد العمارة فيصح ضمان دينه، وإن لم يكن له وفاء في الحال، وأما إذا خلف وفاء فإنه يصح الضمان [في الحال] (1) تنزيلًا لذمته بما خلفه من الوفاء منزلة الحي القادر. قالوا: وأما الحديث فإنما هو إخبار عن ضمان متقدّم على الموت؛ فهو إخبار منه بالتزام سابق، لا إنشاء للالتزام حينئذ، وليس في ذلك ما ترد به السنة الصريحة، ولا يصح حملها على الإخبار لوجوه:
أحدهما: أن في بعض ألفاظ الحديث: "فقال أبو قتادة: أنا الكفيل (2) به يا رسول اللَّه، فصلَّى عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"(3) رواه النسائي بإسناد صحيح.
الثاني: أن في [بعض](4) طرق البخاري: "فقال أبو قتادة: صَلِّ عليه يا رسول اللَّه وعليّ دينه"(5) فقوله: "وعليّ دينه" كالصريح في الالتزام أو صريح فيه؛
= جاء في الصلاة على المديون، والنسائي (4/ 65) في (الجنائز): باب الصلاة على من عليه دين، وابن ماجه (2407) في (الصدقات): باب الكفالة، وعبد الرزاق (15258)، وابن حبان (3058 و 3059 و 3060)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(4146) من طريق عبد اللَّه بن أبي قتادة عن أبيه به، وإسناده صحيح.
ورواه أحمد (5/ 297)، وابن حبان (3059) من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي قتادة، وأخثى أن يكون هذا من أوهام محمد بن عمرو، وقد ذكر الطحاوي للحديث علة، حيث بَيّن أن عبد اللَّه بن أبي قتادة لم يسمع الحديث من أبيه، فقد رواه (4147 و 4148) من طريق عمرو بن الحارث، والليث بن سعد عن بكير بن عبد اللَّه عن ابن أبي قتادة أنه قال: سمعت من أهلي من لا أتّهم يُحَدّث أن رجلًا توفي على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعليه ديناران. . .
أقول: وأسانيد الطرق التي ذكرتها صحيحة، ففيه رجل مبهم، وعلى كل حال فللحديث شواهد.
فقد روى البخاري (2289) في (الحوالة): باب من أحال دين الميت على رجل جاز، و (2295) في (الكفالة): باب من تكفل عن ميت دين فليس له أن يرجع من حديث سَلَمة بن الأكوع نحوه، وفيه تَحمُّل أبي قتادة لدين الميت.
وروى عبد الرزاق (15257)، ومن طريقه أبو داود (3343)، والنسائي (4/ 65 - 66) عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر نحوه، وفيه تَحمُّل أبي قتادة لدين الميت كذلك.
وإسناده على شرط الشيخين.
وما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(1)
سقط من (ك) و (ق).
(2)
في (ك) و (ق): "أتكفل".
(3)
مضى في الذي قبله.
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك).
(5)
مضى في التخريج السابق من حديث سلمة بن الأكوع.
فإن هذه الواو للاستئناف، وليس قبلها ما يصح أن يعطف ما بعدها عليه، كما لو قال: صلِّ عليه وأنا ألتزم ما عليه، [أو وأنا ملتزمٌ ما عليه](1).
الثالث: أن الحكم لو اختلف لقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل ضمنت ذلك في حياته أو بعد موته؟ ولا سيما فإن الظاهر منه الأنشاء، وأدنى الأحوال أن يحتملهما على السواء، فإن كان أحدهما باطلًا في الشرع والآخر صحيحًا فكيف يقرّه على قول مُحتملٍ لحق وباطل ولم يستفصله عن مراده به؟
الرابع: أن القياس يقتضي صحة الضمان وإن لم يخلِّف وفاءً، فإنَّ مَنْ صح ضمان دينه إذا خلَّف وفاءً صح ضمانه وإن لم يكن له مال كالحي، وأيضًا فمن صح ضمان دينه حيًا صح ضمان دينه ميتًا، وأيضًا فإن الضمان لا يُوجِبُ الرجوع، وإنما يوجبُ مطالبةَ رب الدين للضامن، فلا فرق بين أن يخلف الميت وفاءً أو لم يخلفه، وأيضًا فالميت أحْوَجُ إلى ضمان دينه من الحي لحاجته إلى تبريد جلده (2) ببراءة ذمته وتخليصه من ارتهانه بالدين، وأيضًا فإن ذمة الميت وإن خَرِبَتْ من وجه -وهو تعذر مطالبته- لم تخرب من جهة بقاء الحق فيها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس من ميّت يموت إلا وهو مرتَهَنٌ بدينه"(3) ولا يكون مرتهنًا وقد خربت ذمته.
(1) سقط من (ك) و (ق).
(2)
في (ن) و (ق): "جلدته".
(3)
بهذا اللفظ وجدته مطولًا من حديث علي بن أبي طالب يرويه الدارقطني (3/ 46 - 47) -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق"(7/ 257 رقم 1760 - ط قلعجي) - والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 73) من طريق إسماعيل بن عياش عن عطاء بن عجلان عن أبي إسحاق الهمداني عن عاصم بن ضمرة عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لعلي: جزاك اللَّه خيرًا، فك اللَّه رهانك؛ كما فككت رهان أخيك، إنه ليس من ميت يموت. . . فذكره.
وهذا إسناد ضعيف جدًا، عطاء بن عجلان هذا قال ابن معين والفلّاس: كذاب، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم والنسائي: متروك. وقال البيهقي عقبه: "عطاء بن عجلان ضعيف، والروايات في تحمل أبي قتادة دين الميت أصح".
وروى نحوه أبو يعلى (3477) من طريق يوسف بن عطية الصفار عن ثابت عن أنس مرفوعًا: "أن صاحب الدين مُرْتهن في قبره حتى يُقْضى عنه دَيْنه" قال الهيثمي (3/ 39 - 40): "وفيه من لم أعرفه".
أقول: بل رجاله معروفون، وقد وقع اسم يوسف هذا دون نِسْبة فلعله لم يتبين من هو، وهو الصفار لأنه يروي عن ثابت، وفي ترجمته في "الميزان" ذكر الذهبي حديثه هذا، قال البخاري: منكر حديث، وقال النسائي: متروك، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال الذهبي: مُجْمَعٌ على ضعفه.
ورواه أبو يعلى (4244) من طريق عيسى بن صدقة بن عباد اليشكري عن أنس فذكر نحوه. =