الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن مَنْ سبَّ اللَّه ورسوله فقد حارب اللَّه ورسوله وسعَى في الأرض فسادًا، فجزاؤه القتل حدًا، والحدود لا تسقط بالتوبة بعد القدرة اتفاقًا، ولا ريب أن محاربة هذا الزنديق للَّه ورسوله وإفساده في الأرض أعظم محاربة وإفسادًا، فكيف تأتي الشريعة بقتل مَنْ صال على عشرة دراهم لذمي أو على بدنه ولا تَقْبَل توبتَه ولا تأتي بقتل مَنْ دأبُهُ الصَّوْل (1) على كتاب اللَّه وسنة رسوله والطعن في دينه وتقبل توبته بعد القدرة عليه؟ وأيضًا فالحدود بحسب الجرائم والمفاسد، وجريمة هذا أغلظ الجرائم، ومفسدة بقائه بين أظهر المسلمين من أعظم المفاسد.
[قاعدة في بيان متى يُعمل بالظاهر]
وهاهنا قاعدة يجب التنبيه عليها لعموم الحاجة إليها، وهي أن الشارع إنما قبل توبة الكافر الأصلي من كفره بالإسلام لأنه ظاهِرٌ لم يعارضه ما هو أقوى منه، فيجب العمل به؛ لأنه مقتضٍ لحقن الدم والمعارضُ منتفٍ، فأما الزنديق فإنه قد أظهر ما يبيح دمه، فإظهاره بعد القدرة عليه للتوبة والإسلام لا يدل على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه دلالة قطعية لا ظنية، أما انتفاء القطع فظاهر، وأما انتفاء الظن؛ فلأن الظاهر إنما يكون دليلًا صحيحًا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه، فإذا قام دليل على الباطن لم يُلتفت إلى ظاهرِ قد عُلِم أن الباطنَ بخلافه (2)، ولهذا اتفق الناس على أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف علمه، وإن شهد عنده بذلك العدول (3)، وإنما يَحْكم بشهادتهم إذا لم يَعْلم خلافها، وكذلك لو أقرَّ إقرارًا علم أنه كاذب فيه مثل أن يقول لمن هو أسَنُّ منه:"هذا ابني" لم يثبت نسبه ولا ميراثه اتفاقًا (4)، وكذلك الأدلة الشرعية مثل خبر الواحد العَدْل والأمر والنهي والعموم والقياس إنما يجب اتباعها إذا لم يقم دليلٌ أقوى منها يخالف ظاهرها.
[عود إلى حكم توبة الزنديق
؟]
وإذا عرف هذا فهذا الزنديق قد قام الدليل على فساد عقيدته، وتكذيبه
(1) في (ن) و (ك) و (ق): "التصول".
(2)
في (ن) و (ك) و (ق): "يخالفه".
(3)
انظر: "المغني"(11/ 401 - 404 - "الشرح الكبير")، و"المبسوط للسرخسي (16/ 104، 105).
وفي (ك) و (ق): "وإن شهد بذلك العدول عنده".
(4)
انظر: "المغني"(5/ 327 - 328 - مع "الشرح الكبير").
واستهانته بالدين، وقدحه فيه؛ فإظهارُه الإقرار والتوبة بعد القدرة عليه ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا، وهذا القدر قد بطلت دلالته بما أظهره من الزندقة؛ فلا يجوز الاعتماد عليه لتضمنه إلغاء الدليل القوي وإعمال الدليل الضعيف الذي قد ظهر بطلان دلالته، ولا يخفى على المُنْصِف قوةَ هذا النظر وصحة هذا المأخذ، وهذا مذهب أهل المدينة، ومالك وأصحابه (1)، والليث بن سعد (2)، وهو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة (3)، وهو إحدى الروايات عن أحمد (4) نَصَرَهَا كثير من أصحابه، بل هي أَنصُّ الروايات عنه، وعن أبي حنيفة وأحمد أنه يستتاب، وهو قول الشافعي (5)، وعن أبي يوسف روايتان؛ إحداهما: أنه يستتاب، وهي الرواية الأولى عنه، ثم قال آخرًا (6): أقتله من غير استتابة، لكن إن تاب قبل
(1)"المعونة"(3/ 1363)، "التفريع"(2/ 231)، "الرسالة"(240)، "الكافي"(585)، "عقد الجواهر الثمينة"(3/ 298)، "الخرشي"(8/ 76)، "الشرح الكبير"(4/ 306)، "جواهر الإكليل"(2/ 281)، "حاشية الدسوقي"(4/ 302).
وانظر: "الصارم المسلول"(ص 340 وما بعد)، "عمدة القاري"(24/ 77)، "شرح فتح القدير"(6/ 98)، "أدب القضاء"(425)، "نيل الأوطار"(7/ 204 - 205)، "حاشية ابن عابدين"(4/ 236، 242).
وهو رواية سحنون وابن المواز عن مالك وأصحابه، انظر:"المنتقى"(5/ 282).
وفي (ك) و (ق): "مالك وأصحابه".
(2)
كما في "الإشراف" لابن المنذر (2/ 247 - تحقيق محمد نجيب) وذكر -أيضًا- أنه قول الإمام إسحاق بن راهويه.
(3)
هذه رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله في كتاب (النوادر). انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 274)، وفيه أيضًا الرواية الثانية في استتابة الزنديق مطلقًا.
ووقع في (ن): "وهو المنصوص. . "!.
(4)
انظر: "المسائل الفقهية في كتاب الروايتين والوجهين" لأبي يعلى (2/ 305).
(5)
"الأم"(6/ 165)، "مختصر المزني"(259)، "الحاوي الكبير"(16/ 408)، "المهذب"(2/ 223)، "مغني المحتاج"(4/ 140 - 141)، "السراج الوهاج"(520)، "نهاية المحتاج"(7/ 399).
وانظر: "حلية العلماء"(7/ 626، 635)، "فتح الباري"(12/ 272 - 273)، "إرشاد الساري"(10/ 75)، "كتاب المرتد من الحاوي الكبير" للماوردي (ص 36 - تحقيق صندقجي).
(6)
قاله أبو يوسف في "كتاب الإملاء". انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (3/ 210 - ط دار الكتب العلمية)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 274 - ط دار إحياء التراث العربي).