الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[صيد المدينة]
المثال السادس والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة التي رواها بضعة وعشرون صحابيًا في أن المدينة حرم يحرمُ صيدها (1)، ودعوى أن ذلك خلاف الأصول، ومعارضتها بالمتشابه من قوله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا عُمير، ما فعل النُّغير"(2)، ويا للَّه العجب! أيّ الأصول التي خالفتها هذه السنن، وهي من أعظم الأصول؟ فهلّا رُدّ حديث أبي عُمير لمخالفته لهذه الأصول؟ ونحن نقول: معاذ اللَّه أن نرد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سنة صحيحة غير معلومة النسخ أبدًا! وحديث أبي عمير يَحتمل أربعة أوجه قد ذَهَبَ إلى كلٍّ منها طائفة.
أحدها: أن يكون متقدمًا على أحاديث تحريم المدينة فيكون منسوخًا.
الثاني: أن يكون متأخرًا عنها معارضًا لها فيكون ناسخًا.
الثالث: أن يكون النغير مما صِيدَ خارج المدينة ثم أُدخل المدينة كما هو الغالب من الصيود.
الرابع: أن يكون رخصة لذلك الصغير دون غيره، كما رخص لأبي بُردة في التَّضحية بالعَنَاق دون غيره (3)؛ فهو متشابه كما تَرَى، فكيف يُجعل أصلًا يقدم على تلك النصوص الكثيرة المحكمة الصريحة التي لا تحتمل إلّا وجهًا واحدا؟.
[نصاب المعشرات]
المثال السابع والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في تقدير نصاب المعَشَّرات بخمسة أوسق (4) بالمتشابه من قوله: "فيما سَقَت السماءُ العشر،
(1) في هذا أحاديث، منها ما: رواه مسلم عن جابر قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرّم مكة، وإني حرَّمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطع عِضَاهُها ولا يُصاد صيدها" أخرجه مسلم (1362) في الحج: باب فضل المدينة.
وانظر الأحاديث الي أشار إليها المصنف في الدراسة الحديثية الماتعة للشيخ الفاضل صالح الرفاعي بعنوان "الأحاديث الواردة في فضائل المدينة"(ص 47 - 116).
(2)
رواه البخاري (6129) في (الأدب): باب الانبساط إلى الناس، و (6203) في الكنية للصبي وقبل أن يُولد للرّجل، ومسلم (2150) في (الأدب): باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته، من حديث أنس بن مالك. ولابن القاص جزء مفرد في هذا الحديث، وهو مطبوع.
قال (و) -في معنى الغير-: "تصغير النغر: فرخ العصفور والبلبل".
(3)
سبق تخريجه.
(4)
رواه البخاري (1404) في (الزكاة): باب ما أدي زكاته فليس بكنز، و (1447) باب زكاة =
وما سُقي بنَضْحٍ أو غَرْب فنصف العُشر" (1)، قالوا: وهذا يعم القليل والكثير (2)، وقد عارضه الخاص، ودلالة العام قطعية كالخاص، وإذا تعارضا قُدّم الأحوط، وهو الوجوب؛ فيقال: يجب العمل بكلا الحديثين، ولا يجوز معارضة أحدهما بالآخر وإلغاء أحدهما بالكلية؛ فإن طاعة الرسول فرضٌ في هذا وفي هذا، ولا
= الورق، و (1459) باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة، و (1484) باب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ومسلم (979) في (الزكاة): في أوله، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
قال (و): ". . . والوسق بفتح الواو وكسرها، ستون صاعًا، أو وثلاث مئة وعشرون رطلًا عند أهل الحجاز، أو أربع مئة وثمانون رطلًا عند أهل العراق" اهـ.
(1)
أخرجه البخاري في "الصحيح"(كتاب الزكاة): باب العشر فيما يُسقى من ماء السماء وبالماء الجاري (3/ 347/ رقم 1483)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الزكاة): باب صدقة الزرع (2/ 252/ رقم 1596)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الزكاة): باب ما جاء في الصدقة فيما يُسقى بالأنهار وغيرها (2/ 75/ رقم 635)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الزكاة): باب ما يوجب العشر، وما يوجب نصف العشر (5/ 41)، وابن ماجه في "السنن" (كتاب الزكاة): باب صدقة الزروع والثمار (1/ 581/ رقم 1817)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وفي الباب عن جابر، رواه مسلم (981) في (الزكاة): باب ما فيه العشر، أو نصف العشر. وليس في الحديث لفظ (أو غرب)، وقد وجدت هذا اللفظ: أي: "وما سقي بالغَرْب ففيه نصف العشر" في حديث يرويه علي مرفوعًا عند أبي داود (1572)، وابن زنجويه في "الأموال"(رقم 1965)، من طريق الحارث الأعور، وفي زيادات أحمد على المسند (1/ 145)، وفي "العلل"(رقم 1250)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير"(4/ 76)، وابن مخلد العطار في "حديثه"(ق 86/ ب، 104/ أ) من طريق آخر ضعيف. وقال في "العلل": "قال أبي: هذا حديث أراه موضوعًا، أنكره من حديث محمد بن سالم"، وقد أعله الدارقطني في علله بالوقف (4/ 72)، ونقله عنه الحافظ في "التلخيص"(2/ 170)، ورواه عنه قوله: عبد الرزاق (7233)، ويحيى بن آدم في "الخراج"(رقم 373، 375، 379)، وابن زنجويه في "الأموال"(رقم 1965، 1968)، والبيهقي (4/ 131).
قال (و): "في حديث: "فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريًا العشر، وفيما سقي بالنضح العشر" رواه الجماعة إلا مسلمًا، لكن لفظ النسائي، وأبي داود، وابن ماجه "بعلًا" بدل "عثريًا"، والعثري: هو الذي يشرب بعروقه من ماء المطر يجتمع في حفيرة، والغرب: الدلو العظيمة التي تتخذ من جلد ثور، فإذا فتحت الراء؛ فهو الماء السائل بين البئر والحوض، وبنضح: أي ما سقي بالدوالي والاستقاء، والنواضح: الإبل التي يستقى عليها، واحدها: ناضح، وقيل: النضح: السانية من الإبل والبقر وغيرها من الرحال" اهـ.
(2)
هذا عند أبي حنيفة (و).
تعارض بينهما بحمد اللَّه بوجه من الوجوه؛ فإن قوله: "فيما سقت السماء العشر"، إنما أُريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر وما يجب فيه نصفه، فذكر النوعين مفرقًا بينهما في مقدار الواجب، وأما مقدارُ النِّصاب فسكَتَ عنه في هذا الحديث، وبيَّنه نصًا في الحديث الآخر، فكيف يجوز العدول عن النَّص الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير ما دل عليه ألبتة إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يُتعلَّق فيه بعمومٍ لم يُقصد، وبيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصُّها من النصوص؟ وياللَّه العجب! كيف يخصّون عموم القرآن والسنة بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون مُختلَفًا في الاحتجاج به، وهو محل اشتباه واضطراب؟ إذ ما من قياسٍ إلّا ويمكن معارضته بقياس مثله أو دونه أو أقوى منه، بخلاف السنة الصحيحة الصريحة فإنها لا يعارضها إلا سنة ناسخة معلومة التأخر والمخالفة، ثم يُقال: إذا خصَّصتم عموم قوله: "فيما سقت السماء العشر"(1)، بالقَصَب والحَشيش ولا ذِكرَ لهما في النص فهلَّا خصصتموه بقوله:"لا زَكَاة في حبٍّ ولا ثمرٍ حتى يبلغَ خمسة أوسق"(2)؟، وإذا كنتم تخصّون العموم بالقياس فهلا خصَّصتم هذا العام بالقياس الجلي الذي هو من أجلى القياس وأصحه على سائر أنواع المال الذي تجب فيه الزكاة؟ فإن الزكاة الخاصة لم يشرعها اللَّه (3) في مال إلا وجعل له نصابًا كالمواشي والذهب والفضة؟ ويقال أيضًا: هلَّا أوجبتم الزكاة في قليل كُلِّ مالٍ وكثيره عملًا بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"ما من صاحب إبلٍ ولا بقر لا يُؤدي زكاتها إلا بُطح (4) لها يوم القيامة بقاعٍ قَرْقر"(5)، وبقوله:"ما من صاحب ذهب ولا فضّة لا يؤدي زكاتها إلّا صُفِّحت له يوم القيامة صفائحَ من نار"(6)، وهلَّا كان العموم (7) عندكم مقدمًا على أحاديث النُّصُب الخاصة؟ وهلا قلتم: هناك تعارض مسقط وموجب فقدَّمنا الموجب احتياطًا؟ وهذا في غاية الوضوح، وباللَّه التوفيق.
(1) مضى تخريجه.
(2)
رواه مسلم (979 بعده) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3)
في المطبوع: "لم يشرعها اللَّه ورسوله".
(4)
"أي: ألقي صاحبها على وجهه لتطأه، والقرقر: المكان المستوي"(و).
(5)
و (6) رواه مسلم في (الزكاة): باب إثم مانع الزكاة (987) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عنه، و (988) من حديث جابر رضي الله عنه.
(7)
في المطبوع: "هذا العموم".