الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يجب تقليد من قلّدناه دون غيره من الأئمة الذين هم مثله أو أعلم منه، كان أقل ما في ذلك معارضة قولكم بقول الفرقة الأخرى في ضرب هذه الأقوال بعضها ببعض، ثم يقال: ما الذي جَعل متبوعَكم أولى بالتقليد من متبوع الفرقة [الأخرى]؟ (1) بأي كتاب أم بأية (2) سنة؛ وهل تقطعت (3) الأمة أمرها بينها زُبُرًا وصار {كُلُّ [حِزْبٍ] (4) بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] إلا بهذا السبب؟ فكل طائفة تدعو إلى متبوعها وتنْأى عن غيره وتنهى عنه، وذلك مُفْضٍ إلى التفريق بين الأمة، وجعل دين اللَّه تابعًا للتشهي والأغراض وعُرضة للاضطراب والاختلاف، وهذا كله يدل على أن التقليد ليس من عند اللَّه للاختلاف الكثير الذي فيه، ويكفي في فساد هذا المذهب تناقض أصحابه ومعارضة أقوالهم بعضها ببعض، ولو لم يكن فيه من الشناعة إلا إيجابهم تقليد صاحبهم وتحريمهم تقليد الواحد من أكابر الصحابة كما صرَّحوا به في كتبهم.
[إيجاب المقلدين تقليد أئمتهم وتحريم تقليد غيرهم]
الوجه الحادي والثمانون (5): أن المقلِّدين حَكَموا على اللَّه قدرًا وشرعًا بالحكم الباطل جهارًا المخالف لما أخبر به رسوله فأخلوا الأرض من القائمين للَّه بحجة (6)، وقالوا: لم يبقَ في الأرض عالمٌ منذ الأعصار المتقدمة؛ فقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وأبي يوسف وزُفَر بن الهُذيل ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد اللؤلؤي وهذا قول كثير من الحنفية، وقال بكر بن العلاء القُشيري المالكي (7): ليس لأحد أن يختار بعد المئتين من الهجرة، وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي وسفيان الثوري ووكيع بن الجرَّاح وعبد اللَّه بن المبارك، وقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي، واختلف المُقلِّدون من أتباعه فيمن يؤخذ بقوله من المنتسبين إليه ويكون له وجه يُفتي ويحكم به ومَنْ (8) ليس كذلك، وجعلوهم ثلاث مراتب: طائفةٌ أصحابُ وجوه كابن سُريج (9) والقَفَّال
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(2)
في (ق): "بأي".
(3)
المثبت من (ق) وفي باقي النسح: "قطعت".
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(5)
في (ق) و (ك): "الثمانون".
(6)
في المطبوع: "بحججه".
(7)
له ترجمة في "ترتيب المدارك"(2/ 290 - ط مكتبة الحياة).
(8)
المثبت من (ق) وفي باقي النسح: "من".
(9)
في (ن): "كابن شريح".
وأبي حامد [الاسفرائيني](1)، وطائفة أصحابُ احتمالاتٍ لا أصحاب وجوه كأبي المعالي، وطائفة ليسوا أصحاب وجوه ولا احتمالات كأبي حامد [الغزالي](1) وغيره، واختلفوا متى انسد باب الاجتهاد (2) على أقوال كثيرة ما أنزل اللَّه بها من سلطان، وعند هؤلاء أن الأرض قد خلت من قائم للَّه بحجة، ولم يبق فيها من يتكلَّم بالعلم، ولم يحل لأحد بعد أن ينظر في كتاب اللَّه ولا سنة رسوله لأخذ الأحكام منهما، ولا يقضي ويُفتي بما فيهما حتى يعرضه على قول مقلِّده ومتبوعه، فإن وَافَقَه حَكَم به وأفتى به، وإلا رده ولم يقبله. وهذه أقوال كما ترى- قد بلغت من الفساد والبطلان والتناقض (3)، والقول على اللَّه بلا علم، وإبطال حججه، والزهد في كتابه وسنة رسوله، وتلقي الأحكام منهما، مبلغها، ويأبى اللَّه إلا أن يتم نوره ويُصدِّق قولَ رسوله:"إنه لن تخلو (4) الأرض من قائم للَّه بحجة"(5)، ولن تزال طائفة من أمته على محض الحق الذي بعثه به (6)، وأنه لا يزال يُبعث على رأس كل مئة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها (7)، ويكفي في فساد هذه الأقوال
(1) ما بين المعقوفتين من (ق).
(2)
لا يوجد باب للاجتهاد! بل له شروط. فمن توفرت فيه جاز له، واللَّه الموفق والهادي.
(3)
في (ق): "البطلان والفساد والتناقض".
(4)
في المطبوع: "لا تخلو".
(5)
قطعة من وصية علي لكميل بن زياد، سيأتي تخريجها، وفي المطبوع:"بحججه".
(6)
حديث: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق. . . " سبق تخريجه.
(7)
الحديث رواه: أبو داود (4291) في (الملاحم): باب ما يذكر في قرن المئة، وابن عدي في "مقدمة الكامل" في ترجمة الشافعي (1/ 123)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 524)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(2/ 61)، والبيهقي في "معرفة السنت والآثار" في (المقدمة): في مولد الشافعي (1/ 124) وفي "مناقب الشافعي"(1/ 137)، من طريق ابن وهب عن سعيد بن أبي أيوب عن شراحيل بن يزيد المعافري عن أبي علقمة عن أبي هريرة مرفوعًا به.
وسكت عليه الحاكم والذهبي والحافظ ابن حجر في "الفتح"(13/ 295)، ورجال إسناده ثقات من رجال مسلم.
أما أبو داود فقال: رواه عبد الرحمن بن شُريح الإسكندراني لم يجز به شراحيل.
أقول: عبد الرحمن بن شريح هذا ثقة فاضل؛ كما قال ابن حجر، وكذلك سعيد بن أبي أيوب الذي رفع الحديث من الثقات الإثبات، فلا تُعل روايته، واللَّه أعلم.
وأفرد هذا الحديث بالتصنيف جمعٌ منهم: السيوطي، واسم جزئه "التنبئة بمن يبعثه اللَّه على رأس كل مئة" وهو مطبوع عن دار الثقة بتحقيق عبد الحميد شانوحة، ولخصه ابن طولون كما في "الفلك المشحون"(ص 92)، ولعلي القاري رسالة "في تأويل حديث =
أن يقال لأربابها: فإذا لم يكن لأحد أن يختار بعد مَنْ ذكرتم فمن أين وقع لكم اختيار تقليدهم دون غيرهم؟ وكيف حرَّمتم على الرجل أن يختار ما يؤديه إليه اجتهاده من القول الموافق لكتاب اللَّه وسنة رسوله، وأبحتم لأنفسكم اختيار قول من قلَّدتموه، وأوجبتم على الأمة تقليده، وحرمتم تقليد من سواه، [ورجحتموه على تقليد من سواه](1)؟ فما الذي سوَّغَ لكم هذا الاختيار الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب، وحرم اختيار ما [دل] (2) عليه الدليل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة؟ ويقال لكم: فإذا كان لا يجوز الاختيار بعد المئتين عندك ولا عند غيرك فمن أين ساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المئتين بنحو ستين سنة أن تختار قول مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين أو مَنْ هو مثله من فقهاء الأمصار أو ممن جاء بعده؟ وموجب هذا القول أن أشهب وابن الماجشون ومُطرِّف بن عبد اللَّه وأصبغ بن الفَرَج وسحنون بن سعيد وأحمد بن المعذَّل (3) ومن في طبقتهم من الفقهاء كان لهم أن يختاروا إلى انسلاخ ذي الحجة من سنة مئتين، فلما استهل هلال المحرم من سنة إحدى ومئتين وغابت الشمس من تلك الليلة حرم عليهم في الوقت بلا مهلة ما كان مطلقًا لهم من الاختيار؟ ويقال للآخرين: أليس من المصائب وعجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والاجتهاد والقول في دين اللَّه بالرأي والقياس لمن ذكرتم من أئمتكم، ثم لا تجيزون الاختيار والاجتهاد لحفَّاظ الإسلام وأعلم الأمة بكتاب اللَّه وسنة رسوله وأقوال الصحابة وفتاواهم كأحمد بن حنبل والشافعي وإسحاق بن راهويه ومحمد بن إسماعيل البخاري وداود بن علي ونظرائهم على سعة علمهم بالسنن ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم وتحرِّيهم (4) في معرفة أقوال الصحابة والتابعين ودقة نظرهم ولطف استخراجهم للدلائل ومن قال منهم بالقياس فقياسه
= التجديد"، ولمحمد الجرجاوي: "وسيلة المجدّين في شرح حديث التجديد وتراجم المجددين" وكما في "الأعلام" (7/ 81)، وطبع في الرباط سنة 1927: "واسطة العقد النضيد في شرح حديث التجديد" لمحمد بن علي الرباطي (ت 1358 هـ).
(1)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ط) و (ن) و (ق) و (ك).
(3)
كذا في (ن) -وهو الصواب-، وفي سائر النسخ:"المعدل" بالدال المهملة والصواب ما أثبتناه، انظر "السير"(11/ 519)، "العبر"(1/ 434)، "الوافي بالوفيات"(8/ 184، 185) و"شذرات الذهب"(2/ 95، 96)، "المشتبه"(600)،" تبصير المنتبه"(1299).
(4)
في هامش (ق): "لعله: وتبحرهم".