الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالعين، لا بجناية النظر، ولهذا لو جَنَى عليه بلسانه لم يُقطع، ولو استمع عليه بأذُنه لم يجز [له](1) أن يقطع أذنه، فيقال: بل هذه السنن من أعظم الأصول، فما خالفها فهو خلاف الأصول (2)، وقولكم:"إنما شرع اللَّه سبحانه أخذ العين بالعين"، فهذا حقٌّ في القصاص، وأما العضو الجاني المعتدي الذي لا يمكن دفع ضرره وعدوانه إلّا برميه، فإن الآية لا تتناوله نفيًا ولا إثباتًا، والسنة جاءت ببيان حكمه بيانًا ابتدائيًا لِما سَكتَ عنه القرآن، لا مخالفًا لما حكم به القرآن، وهذا قسم (3) آخر غير فقء العين قصاصًا، وغير دفع الصائل الذي يدفع بالأسهل فالأسهل، إذ المقصود دفعُ ضَررِ صياله، فإذا اندفع بالعصا لم يُدفع بالسيف، وأما هذا المعتدي بالنظر المحرَّم الذي لا يمكن الاحتراز منه، فإنه إنما يقع على وجه الاختفاء والختل، فهو قسم آخر غير الجاني وغير الصائل الذي لم يتحقق عدوانُه، ولا يقع هذا غالبًا إلّا على وجه الاختفاء وعدم مشاهدة غير الناظر إليه (4)، فلو كُلِّف المنظور إليه إقامة البيّنة على جنايته لتعذَّرت عليه، ولو أُمر بدفعه بالأسهل فالأسهل ذهبت جناية عدوانه بالنظر إليه وإلى حَريمه هدرًا، والشريعة الكاملة تأبى هذا وهذا، فكان أحسن ما يمكن وأصلحه وأكفه لنا وللجاني ما جاءت به السنة التي لا مُعارض لها ولا دافع لصحتها من خذف (5) ما هنالك، وإن لم يكن هناك بصرٌ عادٍ لم يضر خذف (5) الحصاة، وإن كان هنالك بصر عادٍ فلا يلومنَّ (6) إلا نفسه، فهو الذي عَرَّضه صاحبه للتلف، فأدناه إلى الهلاك، والخاذف (5) ليس بظالم له، والناظر خائن ظالم، والشريعة أكمل وأجلّ من أن تضيع حق هذا الذي قد هُتكت حرمته وتُحيله في الانتصار على التعزير بعد إقامة البتنة، فحَكَم اللَّه فيه بما شَرَعه على لسان رسوله، ومَنْ أحسن من اللَّه حكمًا لقوم يوقنون؟
[الكلام عن وضع الجوائح]
المثال الرابع والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وضع
(1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.
(2)
انظر: "زاد المعاد"(3/ 204 و 4/ 113 - 114، 380)، و"تهذيب السنن"(6/ 380)، و"الطرق الحكمية"(ص 76 - 47)، و"أحكام الجناية"(ص 301 - 312)؛ فإنه مهم.
(3)
في المطبوع: "اسم".
(4)
في (ق) و (ك): "الناظر له".
(5)
في (ق) و (ن) بالحاء المهملة.
(6)
في المطبوع: "لا يلومن".
الجوائح، بأنها خلاف الأصول كما في "صحيح مسلم" عن جابر يرفعه:"لو بعتَ من أخيك ثمرًا فأصابته جائحةٌ فلا يحلُّ لك أن تأخذَ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ "(1)، وروى سفيان بن عُيينة، عن حُميد، عن سُليمان، عن جابر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"نَهى عن بيع السّنين، وأمر بوضع الجوائح"(2)، فقالوا: هذه خلاف الأصول، فإن المشتري قد ملك الثمرة وملك التصرّف فيها، وتمَّ نقل المُلك إليه، ولو ربح فيها كان الربح له، فكيف تكون من ضمان البائع؟
وفي "صحيح مسلم" عن أبي سعيد قال: أُصيب رجل في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ثمارٍ ابتاعها، فكثر دَيْنُه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"تصدَّقوا عليه"، فتصدَّقوا عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك"(3)، وروى مالك عن أبي الرِّجَال، عن أُمّه عمرة أنه سمعها تقول: ابتاع رجل ثَمَر حائطٍ في زَمنِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فعالجه، وأقام عليه حتى تبيَّن له النقصان، فسأل رب الحائط أن يضع عنه، فحلف لا يفعل، فذهبت أُمُّ المشتري إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"تألَّى أنْ لا يفعل خيرًا"، فسمع بذلك رب المال، فأتى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه هو له (4).
(1) رواه مسلم (1554) في (المساقاة): باب وضع الجوائح.
(2)
رواه مسلم (1536 بعد 101) في (البيوع): باب النهي عن المحاقلة والمزابنة. . . أوّله، وهو: نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع السِّنين، وقال: وفي رواية ابن أبي شيبة: عن بيع الثمر سنين.
وروى (1554) في (المساقاة): باب وضع الجوائح، الجزء الثاني منه، وهو بالسند نفسه.
وقال (و): "بيع السنين: بيع النخلة لأكثر من سنة في عقد واحد، وذكر الرافعي له تفسيرًا آخر: وهو أن يقول: بعتك هذا سنة على أنه إذا انقضت السنة؛ فلا بيع بيننا، وأردّ أنا الثمن، وترد أنت المبيع، والجوائح: جمع جائحة، وهي الآفة التي تصيب الثمار، فتهلكها" اهـ.
(3)
رواه مسلم (1556) في (المساقاة): باب استحباب الوضع من الدَّين.
(4)
هو في "الموطأ"(2/ 621)، ومن طريقه: رواه البيهقي (5/ 305)، وهذا مرسل، عمرة تابعية.
وقد وصله البخاري (2755) في (الصلح): باب هل يشير الإمام بالصلح، ومسلم (1557) في (المساقاة): باب استحباب الوضع من الدين من طريق يحيى بن سعيد عن أبي الرجال (محمد بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن حارثة) عن عمرة عن عائشة؛ فذكر نحوه مع اختلاف في القصة.
ووصله من طريق ابن أبي الرجال عن أبيه عن عمرة به: أحمد (6/ 69 و 105)، وابن حبان (5032).