الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأيضًا فإن هذا يُوجب أن يكون جميع أهل الأمصار تبعًا لأهل المدينة (1) فيما يعملون به، وأنه لا يجوز لهم مخالفتهم في شيء، فإن عملهم إذا قُدِّم على السنة فلأن يُقدَّم على عمل غيرهم أولى، وإن قيل: إن عملهم نفسه سنة لم يحل لأحد مخالفتهم، ولكن عمر بن الخطاب ومن بعده من الخلفاء لم يأمر أحد منهم أهل الأمصار أن لا يَعْملوا بما عرفوه (2) من السنة وعَلَّمهم إياه الصحابة إذا خالف عمل أهل المدينة، وأنهم لا يعملون إلّا بعمل أهل المدينة، بل مالك نفسه منع الرشيد من ذلك، وقد عزم عليه، وقال له: قد تفرَّق أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في البلاد، وصار عند كل طائفة منهم علم ليس عند غيرهم (3)، وهذا يدل على أن عمل أهل المدينة ليس عنده حجة لازمة لجميع الأمة، وإنما هو اختيار منه لما رأى عليه العمل، ولم يقل قط في "موطئه" ولا غيره لا يجوز العمل بغيره، بل يخبر إخبارًا مجردًا أن هذا عمل أهل بلده، فإنه رضي الله عنه وجزاه عن الإسلام خيرًا ادَّعى إجماع أهل المدينة في نيِّف وأربعين مسألة.
ثم هي ثلاثة أنواع (4):
أحدهما: لا يعلم أن أهل المدينة خالفهم فيه غيرهم.
والثاني: ما خالف فيه أهل المدينة غيرهم وإن لم يعلم اختلافهم فيه.
والثالث: ما فيه الخلاف بين أهل المدينة انفسهم، ومن ورعه رحمه الله لم يقل: إن هذا إجماع الأمة الذي لا يحلّ خلافه.
[هل حقًا أن عمل أهل المدينة حجة
؟]
وعند هذا فنقول: ما عليه العمل إمّا أن يراد به القسم الأول، أو هو والثاني، أو هما والثالث، فإن اريد الأول فلا ريب أنه حجّة يجب اتّباعه، وإن أريد الثاني والثالث فأين دليله؟ وأيضًا فأحق عمل أهل المدينة أن يكون حجة العمل القديم الذي كان في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه وزمن خلفائه الراشدين، وهذا كعملهم الذي كأنه مُشاهد بالحس ورأي عين في (5) إعطائهم أموالهم التي
(1) كذا في (ق) وفي سائر الأصول: "تبعًا للمدينة".
(2)
في (ن): "أن لا يعملوا إلا بما عرفوه"، وفي (ق):"ألا يعلموا إلا بما عرفوه"!.
(3)
انظر "الموافقات" للشاطبي (3/ 270، 271)، وتعليقي عليه.
(4)
انظرها مع حصر مفرداتها في رسالة الدكتور أحمد محمد نور سيف: "عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين"(ص 321 وما بعد). و"المسائل التي بناها الإمام مالك على عمل أهل المدينة" للدكتور محمد المدني بُوساق.
(5)
في المطبوع: "من".
قسمها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على من شهد معه خيبر فأعطوها اليهود على أن يعملوها بأنفسهم وأموالهم والثمرة بينهم وبين المسلمين، يقرّونهم ما أقرَّهم اللَّه ويخرجونهم متى شاءوا (1)، واستمرّ هذا العمل كذلك لا ريب إلى أن استأثر اللَّه بنبيه صلى الله عليه وسلم مدة أربعة أعوام، ثم استمرّ مدة خلافة الصدِّيق، وكلهم على ذلك، ثم استمرّ مدة خلافة عمر رضي الله عنهم، إلى أن أجلاهم قبل أن يستشهد بعام (2)، فهذا هو العمل حقًا.
فكيف ساغ خلافه وتركه لعمل حادث؟.
ومن ذلك عمل الصحابة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم على الاشتراك في الهَدْي: البَدَنة عن عشرة (3) والبقرة عن سبعة (4)، فيا له من عمل ما أحقّه وأولاه بالاتّباع، فكيف يخالف إلى عمل حادث بعده مخالف له؟.
(1) رواه البخاري (2338) في (الحرث والمزارعة): باب إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرّك اللَّه، و (3152) في (فرض الخمس): باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه.
ومسلم (1551)(6) في (المساقاة): أوّله من حديث ابن عمر.
(ملاحظة): الحديث في "صحيح البخاري" ورد في مواطن كثيرة، لكن ما أراده المؤلف موجود في الموطنين اللذين ذكرت.
وانظر "صحيح البخاري"(2285) فأطرافه هناك.
وانظر القصة مطولة في "سنن أبي داود"(3006)، و"صحيح ابن حبان"(5199)، و"سنن البيهقي"(6/ 114)، و"دلائل النبوّة" له (4/ 229)، ووقع في (ق):"متى شاء".
(2)
انظر "الأموال"(ص 99) لأبي عبيد و (407) لابن زنجويه، والمذكور نقله ابن حزم في "الإحكام"(4/ 206).
(3)
في (ق) و (ن): "سبعة".
(4)
روى أحمد في "مسنده"(1/ 275)، والترمذي في "سننه" (905) في (الحج): باب ما جاء في الاشتراك في البدنة والبقرة، والنسائي (7/ 222) في (الضحايا): باب ما تجزئ عنه البدنة في الضحايا، وابن ماجه (3131) في (الأضاحي): باب عن كم تجزئ البدنة والبقرة، وابن حبان (4007)، والطبراني (11929)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 236 - 235) من طرق عن الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد عن عِلْباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس قال: كُنَّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر النحر فذبحنا البقرة عن سبعة والبعير عن عَشَرة، ووقع في "صحيح ابن حبان" على الشك: وفي البعير سبعة أو عَشَرة، قال الترمذي: حسن غريب!
ورواه الحاكم (4/ 230) من طريق علي بن الحسن بن شقيق عن الحسين بن واقد عن عكرمة به بإسقاط علباء بن أحمر، وصححه على شرط البخاري ووافقه الذهبي. =