الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وشرابَه" (1)، فإنه يشعر أنه لم يبق معه إلا تركُ الطعام والشراب، وذلك مجرَّدُهُ ليس بعبادة، وإذا انتفت العبادة انتفى الصوم.
الحادية والعشرون:
في بحث على هذا الاستدلال، وهو أن نقولَ: قولنا: المقصود من هذا الكلام كذا، يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون ذلك الكلام استعمل للدلالة على ذلك [المعنى](2) بالمطابقة حقيقةً، أو مجازًا.
ويحتملُ أن يكونَ يدلّ عليه بطريق اللزوم، أو السياق.
فعلى الأول: يقرُبُ أن يكونَ اللفظ بمعنى ما دل عليه به، وأن ينزَّل منزلتَهُ، على نظرٍ فيه. وعلى الثاني: لا يلزم ذلك، فتأمَّلْه جيدًا، فَبِهِ تظهر صحةُ هذا الاستدلال، [أو عدمُها](3).
الثانية والعشرون:
قوله عليه السلام: "لخُلوفُ فمِ الصائمِ" تستدلُّ به الشافعيةُ على كراهة السواك للصائم بعد الزوال، قال الشافعي رحمه الله: وأكرهُهُ بالعشي؛ لما أحبهُ من خُلوف فم الصائم (4).
وقد حكينا عن جماعة من أهل اللغة: أن الخُلوف: التغير من
(1) رواه البخاري (1804)، كتاب: الصوم، باب: من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
زيادة من "ت".
(3)
سقط من "ت".
(4)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 101). وقد تقدم أن المختار عند الشافعية عدم الكراهة، كما ذكر النووي في "المجموع"(1/ 341).
غير تخصيص، ومقتضاه لا يوجب تخصيصَ الكراهة بما بعد الزوال، إلا أن يُدَّعى أن التغيير لا يحصل إلا بعد الزوال، والوجود قد لا يساعد على ذلك.
أو يقال: إن التغيير قد يحصل قبل الزوال، [و](1) لكنه لا يُسمَّى خلوفًا إلا بعد الزوال، وهو خلاف ما نقلناه عن هؤلاء الجماعة من أهل اللغة، ولا نعلم أحدًا منهم خصَّصَ الخلوف بما بعد الزوال.
أو يقال: إن المراد تغيرٌ يحدث عن الصوم، والتغيرُ الحادث عن الصوم إنما هو بعد الزوال.
ولما استدل بالحديث بعضُ الشافعية قال: والخُلوف: بضم الخاء واللام، وهو الرائحة، وذلك يحدث من الزوال إلى آخر النهار (2).
وهذا فيه أمران:
أحدهما: النزاع في أن التغير عن الصوم لا يكون إلا بعد الزوال، فإن ذلك غير منضبط، وربما اختلف بحسب أمزجة الناس، وقوة المعدة وضعفها، وطول النهار وقصره.
والثاني: أنه - على تقدير التسليم فيه - خروجٌ عن الإطلاق، فإن تغير فم الصائم يحصل قبل الزوال جزمًا، فيندرج تحت اللفظ، فإن كان ذلك مقتضيًا لكراهة الإزالة، فاللفظ يقتضيه.
(1) سقط من "ت".
(2)
وانظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 340)، و "فتح الوهاب" لزكريا الأنصاري (1/ 26).
وتقييدُه (1) بـ: تغير يحدث عن الصوم؛ بخصوصه، خلافُ الإطلاق، لكنه قد يؤخذ من جهة أن المقصود: إظهار شرف الصوم [والترغيب فيه، وذلك يناسب اعتبار سببية الصوم](2)، وهذا الاعتبار لا يدفع المنع المذكور.
وعلى الجملة: فليس هذا بالظاهر القوة، والعموماتُ التي تدل على استحباب السواك عند كل صلاة، أو عند كل وضوء، تقتضي خلافَهُ، واقتضاؤها له أظهرُ من الاستدلال على الكراهة بهذا الحديث؛ لما يحتاج إليه من المقدمات التي نبَّهنا عليها، ولأن دلالة حديث الخلوف على ما ذكر ليست مقصودة، ودلالةُ استحباب السواك عند كل صلاة وعند كل وضوء مقصودةٌ.
والذي يقتضيه الظاهر: [أنه](3) حيثُ حصل مسمَّى الخلوف؛ قبل الزوال، أو بعده، وثبت أن الحديث يقتضي كراهةَ إزالته، أن يثبت الحكمُ بثبوت الخلوف مطلقًا، وذلك بعد استيفاء النظر في الترجيح بين العمومات الدالة على استحباب السواك عند الصلوات الواقعة بعد الزوال، وبين دلالة هذا الحديث، وقد بيَّنا أوجه (4) الترجيح آنفًا.
قال شيخنا أبو محمد بن عبد السلام: وأمَّا تحملُ الصائم مشقة رائحة الخلوف، فقد فضَّله الشافعي رحمه الله على إزالة الخلوف
(1) في الأصل: "يقيده"، والمثبت من "ت".
(2)
زيادة من "ت".
(3)
سقط من "ت".
(4)
"ت": "وجه".
بالسواك، مُستدلاً بأن ثوابَه أطيبُ من ريح المسك، ولم يُوافقْ الشافعيُّ على ذلك، إذ لا يلزم من ذكر [ثواب العمل أن يكون أفضلَ من غيره؛ لأنه لا يلزم من ذكر](1) الفضيلة حصول الرجحان بالأفضلية، ألا ترى أن الوترَ عند الشافعي - في قوله الجديد - أفضلُ من ركعتي الفجر، مع قوله عليه السلام:"ركعتَا الفجرِ خيرٌ منَ الدُّنيا وما فيها"(2)؟! وكم من عبادة قد أثنى الشرع عليها، وذكر فضيلتها، مع أن غيرها أفضلُ منها.
وهذا من باب تزاحم المصلحتين اللتين لا يمكن الجمع بينهما، فإن السواك نوع من التطهير المشروع لإجلال الرب؛ لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الأفواه تعظيم لا يُشَكُّ فيه، ولأجله شُرعَ السواك، وليس في الخلوف تعظيم ولا إجلال، فكيف يقال: إن فضيلة الخلوف تربو على تعظيم ذي الجلال بتطييب الأفواه؟
ويدل على أن مصلحةَ السواك أعظمُ من مصلحة تحمُّلِ مشقةِ الخلوف قولُه صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشقَّ على أمَّتي، لأمرتُهُم بالسِّواكِ عندَ كلِّ صلاةٍ"(3)، ولولا أن مصلحته أتمُّ من مصلحة تحمل مشقة الخلوف، لما أسقطَ إيجابَهُ لمشقته، وهذا يدل على أن مصلحتَهُ انتهت إلى رتبِ الإيجاب، وقد نصَّ على اعتباره بقوله: "لولا أنْ أشقَّ على أمَّتي،
(1) زيادة من "ت".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
لأمرتُهُم بالسّواكِ عندَ كلِّ صلاةٍ".
والذي ذكره الشافعي رضي الله عنه تخصيصُ العام بمُجرَّد (1) الاستدلالِ المذكور المعارَضِ بما ذكرناه، ولا يصحُّ قياسُه على دم الشهيد؛ لأن المستاكَ مُناجٍ لربه، فشرع له تطهر فِيْهِ بالسواك، وجسد الميت قد صار جيفةً غيرَ مُناجية، فلا يصح مع ذلك الإلحاق، انتهى (2).
واعلم أن القولَ بأن إزالة الخلوف مكروهة لا يَلزمُه (3) أن عليه تقديم (4) مصلحة تحمل مشقة الخلوف على مشقة السواك (5).
وقد أجاب المالكية - أو من أجاب منهم - عن الاستدلال بهذا الحديث من هذا الوجه: بأن الخلوف من المعدة، وأن السواك لا يزيله، فقال بعضهم: بل يزيده (6).
فيقال عليه: إن أردت بكونه من المعدة: أن سببَهُ ومنشأه منها،
(1) في الأصل: "لمجرد"، والمثبت من "ت".
(2)
انظر: "قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام (1/ 33 - 34).
(3)
في الأصل: "يلزم"، والمثبت من "ت".
(4)
في الأصل: "ذلك تقديم"، والمثبت من "ت".
(5)
جاء في هامش "ت"، "بياض" إشارة إلى وجود تتمة للكلام بعد قوله:"مشقة السواك".
(6)
انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 256)، و "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 62).