الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا (1) يتأتَّى ما ذكرناه من الفرق، وإنما يتعينُ حملُ (على) على ذروة الشرف؛ لأنه لو لم يكنْ كذلك لما حصل الاستشهادُ الذي قصدَهُ الشاعرُ، ونظرَ به.
قال الأُبَّدي، فيما وجدناه عنه: أو يكون الترتيب بالنسبة إلى النظر في السيادة، فكأنه يقول: إن من نظر في سيادته، فوجده سيداً، ثم نظر في سيادة أبيه، فوجده كذلك، ثم نظر في سيادة جدِّهِ (2) فوجده كذلك، وهذا ممكنٌ - أيضًا -.
الثامنة:
في ذكر طريق أُخرى يَخرجُ بها بعضُ الألفاظ التي تنفي الترتيب أو التراخي، والفرقُ بين هذه الطريقة، وبين الطريقةِ السابقةِ من جَعْلِ [(ثم)] (3) بمعنى الواو: أن (4) هذه الطريقةَ تُخصِّصُ جعلَها بمعنى الواو ببعض المواضع، وهذه الطريقة وجدناها في كلامٍ منسوبٍ إلى العلامة أبي محمَّد بن بري النحوي المصري (5)، فأردتُ أن أذكرَ
(1) في الأصل: "هل يتأتى"، والمثبت من "ت".
(2)
في الأصل: "هذه"، والتصويب من "ت".
(3)
زيادة من "ت".
(4)
"ت": "وأن"، والصواب ما أثبت.
(5)
هو الإِمام العلامة، نحوي وقته أبو محمَّد عبد الله بن بري بن عبد الجبار ابن بري المقدسي ثم المصري الشافعي، كان عالمًا بكتاب سيبويه وعلله، قيما باللغة وشواهدها، له حواشي على "الصحاح" للجوهري، وصل فيها إلى أثناء حرف الشين، وقيل: سماها: "التنبيه والإفصاح عما وقع من الوهم في كتاب الصحاح" وهو أجود تآليفه، وكان أستاذه ابن القطاع قد ابتدأها، وبنى ابن البري على ما كتب أستاذه، وله حاشية أخرى على "درة =
كلامه بكماله (1)، وإن كانَ المقصودُ [الآن](2) بعضَهُ لغرابته، وحصولِ (3) فوائدَ أخرى منه.
والذي وجدناه: أنه سُئِلَ أبو محمَّد بن بري رحمه الله عن قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11] إلى قوله عز وجل: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17]؛ ما معنى (ثم)(4) هنا؟
فقال: الجواب: اعلمْ أنَّ الأصلَ السابعَ في (ثم) أن تكونَ لترتيب الثاني على الأول في الوجود لمُهلَةٍ بينهما في الزمان؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [المؤمنون: 31] وكقولك: جاء زيد، ثم جاء عمرو، قال سيبويه: هما مَجيئان، ويجيءُ كثيرًا لتفاوتِ ما بين رتبتين (5) في قصد المتكلم، وهذا على أقسام: فمنه: تفاوتٌ بين رتبتي الفعلِ مع السكوت عن تفاوتِ رتبتي الفاعل؛ نحو قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] فـ (ثم)
= الغواص" للحريري، توفي سنة (582 هـ).
انظر: "إنباه الرواة" للقفطي (2/ 110)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (21/ 136)، و"كشف الظنون" للحاجي (1/ 741)، (2/ 1073)، و"هدية العارفين" للبغدادي (1/ 237).
(1)
"ت": "بكلامه".
(2)
زيادة من "ت".
(3)
"ت": "وبحصول".
(4)
"ت": "ها هنا".
(5)
"ت": "الرتبتين".
ها هنا (1) لِتفاوتِ روتبة الخلق والجعل من روتبة العدل، مع السكوت عن وصف العادلين، ومثل ذلك الآية المسؤولُ عنها؛ لأن (ثم) فيها [تُثبت تفاوتَ رتبةِ الفَكِّ والإطعام من مرتبة الإيمان، إلا أنَّ فيها](2) زيادةَ تعرضٍ لوصف المؤمنين بقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 17، 18].
ومنه: تفاوتٌ بين رُتبتي الفاعل بالنسبة إلى فعله، نحو قولك: قارئُ القرآن في الصلاة له بكلّ حرفٍ [مئةُ حسنة، ثم قارئ القرآن في غيرِ صلاةٍ له بكلِّ حرفٍ](3) عشرُ حسنات، والمُصلِّي بالمسجد الحرام أفضلُ من المصلي بغيره (4)، ثم المصلي بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضلُ من المصلى بغير المسجد الحرام، ثم المصلي بالمسجد الأقصى أفضلُ من المصلي بغير المسجدِ الحرام والمسجد النبوي، فـ (ثم) ها هنا لتفاوتِ رتبة مُصَل من مصلٍّ بالنسبة إلى صلاته، وقارئٍ من قارئٍ بالنسبة إلى قراءته.
ويجيءُ هذا المعنى أيضًا مقصودًا بالفاء العاطفة؛ نحو: خذِ الأفضلَ فالأكملَ، واعملْ الأحسنَ فالأجمل، ونحو:"رحم الله المحلقين فالمقصرين"(5)، فالفاء في المثال الأول لتفاوتِ رتبة الفضلِ
(1)"ت": "هنا".
(2)
زيادة من "ت".
(3)
زيادة من "ت".
(4)
في الأصل "من". والمثبت من "ت".
(5)
كذا ذكره الزمخشري في "الكشاف"(4/ 37) وعنه أخذ ابن بري كلامه =
من (1) الكمال، والحسنِ من الجمال، وفي المثال الثاني لتفاوت رُتبة المحلِّقين من المقصِّرين، بالنسبة إلى تحليقهم وتقصيرهم.
وقولُهُ تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)} [الصافات: 1 - 3] تحتمل الفاء فيه المعنيين معًا، فيجوزُ [أن يُرَادَ بها تفاوتُ رُتبةِ الصفِّ من الزجر، ورتبة الزجر من التلاوة](2)، ويجوزُ أن يُرادَ بها تفاوتُ رُتبةِ الجنسِ الصافِّ من رتبة الجنس الزاجر، بالنسبة إلى صفِّهم وزجرهم، ورُتبة الجنس الزاجر من التالي، بالنسبة إلى زجره وتلاوته.
ومنه: تفاوتٌ بين رُتبتي الفاعل، لا بالنسبة إلى فعله؛ [نحو] (3): مات الأنبياء، ثم الصديقون، ثم الصالحون، و (ثم) هاهنا لتفاوت رُتبَةِ المذكورين بخصائصهم في صفاتهم، لا بالنسبة إلى الموت؛ لأنه لا يقبل التفاوت بدليل امتناع: زيدٌ أَمْوَتُ من عمرو، ولو
= في الفاء العاطفة. قال المناوي في "الفتح السماوي في تخريج أحاديث البيضاوي"(3/ 954): لم أقف عليه، انتهى. والحديث رواه البخاري (1640)، كتاب: الحج، باب: الحلق والتقصير عند الإحلال، ومسلم (1301)، كتاب: الحج، باب: تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ:"رحم الله المحلقين" مرة أو مرتين، وقال في الرابعة:"والمقصرين".
(1)
في الأصل: "على"، والمثبت من "ت".
(2)
زيادة من "ت".
(3)
في الأصل: "ثم"، والمثبت من "ت".
جيءَ بالواو موضعَ (ثم) في هذه الأقسام لم تُفدْ تفاوتًا، ولم تُفهمْ منها رُتب، وهذا أولى من قول من يقول: هي لترتيب الجمل في الأخبار، لا لترتيب المخبَرِ به في الوجود؛ لأنه ضعيفٌ في المعنى لبعدِ المهلة (1) حقيقة فيه، - واستدلَّ القائلون به بقول:
إنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبوه
وأجيب:
إنها (2) لتفاوت رُتبةِ الابن من أبيه، أو لتفاوتِ رُتبةِ سيادته من سيادة أبيه، ومجازُ استعمالها للتفاوتِ أنها موضوعة للمُهلة، والتفاوتُ مهلةٌ في المعنى، ولأنَّ بينهما قَدْرًا مُشتَركًا، وهو الانفصالُ.
وتستعمل [ثم](3) أيضًا في التفصيل في أفعالٍ مُبِيْنَةٍ لمبهَمٍ مُتقدم، نحو قولك: زيدٌ كريمٌ يعطي المال، ثم يحمِلُ الكَلَّ، ثم يفكُّ العاني، وزيد ليس بظالم، لا يَغصِبُ المال، ثم لا يقتل الجار، ثم لا يسبي الحريمَ، فـ (ثم) في هذا ونحوه لا يُقصَدُ بها (4) ترتيبٌ (5) ولا مُهلةٌ زمانية، وإنما يُراد تبيينُ الوصف المتقدم بما بعده، وتفصيلُهُ به، وفيها
(1)"ت": "المماثلة".
(2)
"ت": "بأنها".
(3)
زيادة من "ت".
(4)
"ت": "فيها".
(5)
في الأصل "الترتيب"، والمثبت من "ت".
تراخٍ معنوي، وهو أنَّ كل فعل ذكر يفيد (1) في إثبات الوصف المذكور أولًا إن كان مثبتًا، وفي نفيِهِ إن كانَ منفيًا، ألا ترى أن قولَك: يعطي المالَ، مثبتٌ لصفة الكرم (2)، وقولك: لا يغصبُ المال، نافٍ لصفة الظلم، فكأن المتكلمَ قصد بالفعل الأول الاستقلال بالبيان، ثم لما فرغ منه قصد بيانًا ثانيًا مستقلًا بالبيان (3)، فتركُ الانتقالِ عن قصد الاستقلال بالأول إلى قصد إنشاء بيان ثانٍ [نزَّله](4) منزلة تراخٍ في الوجود، كما عطف (الآخِرَ) على (الأول) في قوله تعالى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3]، لما قُصد الاستقلالُ بكل منهما، وامتنع العطف في قولك: الرمانُ حلوٌ حامضٌ، لما قُصِدَ عدمُ استقلال كلٍّ (5) منهما.
وهذا المعنى بعينهِ يستعملُ في الفاء؛ نحوَ قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227]، فالفاء دخلت لتبيينِ حكمِ المُولي في زمن التربّصِ بجملتي الشرط بعدها، لا لتعقيبهما زمنَ التربص؛ هكذا قال أبو حنيفةَ رحمه الله (6)، ومثلُهُ قولُ العرب:
(1)"ت": "مقيدًا".
(2)
في الأصل: "الكريم"، والمثبت من "ت".
(3)
في الأصل: "بالمال"، والمثبت من "ت".
(4)
زيادة من "ت".
(5)
في الأصل "الاستقلال بكل"، والمثبت من "ت".
(6)
انظر: "شرح فتح القدير"(4/ 191).
أقيم عندَكُمْ (1) شَهْرًا فإنْ أحمدتُ مقامي وإلا تحوَّلت.
ولا يُقصَدُ بـ (ثمَّ) والفاء في هذا المعنى ترتيبٌ وجودي، بل تفصيل معنوي، ألا ترى أن قولك: اغتسلَ وأفاضَ الماءَ على شقِّهِ الأيمن، ثم على الشق (2) الأيسر، [ثم على رأسه]، (3) ثم على بطنه، ثم على ظهره، لم يكنْ قصدُك إلا البيانَ، لا الترتيبَ، ولو قَدَّمتَ وأَخَّرتَ جاز.
وكذلك لو أتت (الفاء)(4) موضعَ (ثم)، فإن كان الموضعُ يحتمل ترتيبًا جاز أن يُقصَدَ الترتيبُ، وجاز أن يُقصَدَ التفصيلُ؛ نحو: توضأَ فغسلَ وجهه، ثم يديه، فإن أردتَ الترتيبَ لا يجوز لك التقديمُ والتأخير، [أوإن أردت التفصيلَ، جاز التقديمُ والتأخير](5).
وإنما استُعْملَت (ثم) و (الفاء) للتفصيل حَمْلًا على (أو) في نحو قولك: الجسمُ ساكنٌ أو متحرك، الإنسان ذكر أو أنثى، ومنه قوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية، (أو) منها عندَ الشافعيِّ رحمه الله للتفصيل، وهي عند مالك رحمه الله للتخيير (6).
وهذا الذي ذكرناه عن الشيخ أبي محمد بن بَري في أن التفصيلَ
(1)"ت": "عندك".
(2)
"ت": "شقه".
(3)
زيادة من "ت".
(4)
"ت": "لو أتيت (بالفاء").
(5)
سقط من "ت".
(6)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 153).
للمبهم لا يُوجبُ (1) الترتيبَ ولا بدَّ، قد (2) وجدناه عن بعض من أدركناه، وتأخَّرَ عن زمن أبي محمد، فلا أدري أذكره تقليدًا له، أو من وجه آخر؟ ونسوق ما وجدناه عنه، وإن كان فيه زيادة عما ذكرناه من أمر التفصيل.
قال: الفاءُ للترتيبِ، وهو على ضربين (3): ترتيب في المعنى، وترتيب في الذِّكْر.
والمرادُ بالترتيب في المعنى أن يكونَ المعطوفُ بها لاحقًا متصلًا بلا مُهْلةٍ، كقوله تعالى:{خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7]، والأكثرُ على كون المعطوف [سببًا](4) عمّا قبله، كقولك: أملته فمال، وأقمته فقام، وعطفته فانعطف.
وأما الترتيبُ في الذكر فنوعان:
أحدهما: عطفُ مُفصَّلٍ على مُجمل هو هو في المعنى؛ كقولك: توضَّأَ فغسلَ وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه، ومنه قوله تعالى:{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] الآية.
الثاني: عطفٌ لمجرد المشاركة في الحكم بحيث يَحسنُ بالواو، كقول امرئ القيس [من الطويل]:
(1) في الأصل: "لا يجب"، والمثبت من "ت".
(2)
"ت": "وهذا لابد وقد".
(3)
"ت": "وهي ضربين".
(4)
"ت": "بها"، وبعدها بياض بمقدار كلمة.