الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والشافعيةُ لما استحبُّوا التكرارَ في مسح الرأس تكلموا في أنَّ الذهابَ والردَّ مسحة واحدة، [أو](1) الذهابُ وحدَهُ مسحةٌ.
فقيل: إنْ لمْ يكنْ علَى رأسه شعر، أو كان عليه شعر لا ينقلب بذهابه باليدِ ورده لكونه ظفيرة معقوصة، أو لطوله، فإمرارُهُ من المقدمِ إلَى المؤخرِ [مسحةٌ](2) واحدة.
قال الرافعي رحمه الله: قالَ في "التهذيب": ولا يُحسبُ الردّ -[و](3) الحالةُ هذه - مسحةً أخرَى؛ لصيرورةِ البلل مستعملًا بحصول مسح جميع الرأس.
وإنْ كَان علَى رأسه شعرٌ ينقلب بالذهابِ باليدِ وردِّها فهما جميعًا مسحةٌ واحدة، يستوعبُ البللُ جميع الرأس، فإنَّ منابتَ الشعر مختلفةٌ؛ فمنها (4) ما يكون وجهُهُ [إلَى المقدم، ومنها ما يكون وجهُهُ](5) إلَى المؤخر (6)، فبالذهابِ تبتلُّ بواطنُ القسم الأول وظواهرُ الثاني، وبالردِّ تبتل ظواهرُ الأول وبواطنُ الثاني (7).
الثالثة والخمسون:
الاتفاقُ علَى أنَّهُ إذا حصل القدرُ الواجب في
(1) جاء في الأصل و "ت": "إذ"، والمثبت من هامش "ت".
(2)
سقط من "ت".
(3)
زيادة من "ت".
(4)
"ت": "منها".
(5)
سقط من "ت".
(6)
"ت": "مؤخره".
(7)
انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 424 - 426).
المسحِ علَى اختلاف المذاهب فيه (1) كفَى مِن غيرِ اشتراط هيئةٍ مخصوصة في ذلك، وإنما الاختلافُ في الهيئةِ المستحبَّهِ، وقد اختلفوا في ذلك بعد اعتبار الاستيعاب علَى مذاهبَ:
المذهب الأول: أنْ يبتدئَ الماسحُ من مبدأ الشعر مما يلي الوجهَ، ويذهبَ بيديه إلَى قفاه، ثم يردهما إلَى المكانِ الذي بدأ منه، وهو مبتدأُ الشعر مما يلي الوجه، ويُستدلُّ له بهذا الحديث (2).
إلا أنَّهُ عُورضَ بقولهِ في الحديث: "فأقبَلَ بهما [وأدبَرَ] (3) "، فإنَّ الإقبالَ المرورُ [إلَى جهة القُبُل، والإدبارَ المرورُ إلَى جهة الدُّبُر](4)، وعلَى هذهِ الهيئة المذكورة، يكون الإقبالُ المرورَ إلَى جهة الدبر، والإدبارُ المرورَ إلَى جهة القبل، فكان مُقتضَى الصفة المذكورة أنْ يقال: فأدبر بهما وأقبل، وأجيب عن هذا الاعتراض بوجوه:
الأول: أنَّ (الواو) لا تقتضي ترتيبًا فلا فرقَ بين أقبل وأدبر (5)، وأدبر وأقبل، فحُمِلَ علَى الثاني؛ لظهورِ الدلالة علَى ذلك من قوله: "بدأ بمقدم رأسه
…
" إلَى آخره، وقصورِ دلالة المعارض الذي ذكره عنها، وتؤيدُ ذلك روايةُ البخاري في حديث سليمان بن بلال: "ثمَّ أَخَذَ بيَدَيهِ مَاءً فمَسَحَ رأسَه، فأدبَرَ بيديه وأقبَلَ".
(1) في الأصل: "به"، والمثبت من "ت".
(2)
وهذا مذهب مالك والشافعي رحمهما الله.
(3)
سقط من "ت".
(4)
سقط من "ت".
(5)
في الأصل: "فأدبر"، والمثبت من "ت".
وفي كلام بعضهم إشارةٌ إلَى أن سببَ التقديم في الإقبالِ معنى التفاؤل، وهذا إبقاءٌ للفظِ الإقبال والإدبار علَى معناه الإفرادي الذي اعتقده، وهو أنَّ الإقبالَ المرورُ إلَى جهة القبل، والإدبار المرور إلَى جهة الدُّبر، ولكنه تصرَّف في اللفظِ بالتقديم (1) والتأخير.
الوجه الثاني: أنَّ الإقبالَ والإدبار من الأمورِ الإضافية؛ تختلف بالنِّسبَةِ إلَى ما إليه يُقبَلُ، وعنه يُدبَرُ، فما كان إقبالًا إلَى شيء فمقابلُهُ الإدبارُ عنه، فيمكن أنْ يكونَ الإقبالُ منسوبًا إلَى مؤخر الرأس والإدبار منسوبًا إليه أيضًا؛ أي: يكون إليه الإقبالُ، وعنه الإدبار.
وهذا تصرفٌ في المعنى الإفرادي بالنِّسبَةِ إلَى اللفظينِ؛ أعني: الإقبال والإدبار؛ لأنه لمْ يجعلِ الإقبالَ هو المرور إلَى جهة القبل، بل أعمَّ من هذا، وهو المرورُ إلَى الجهة (2) المقصود إليها، والإدبار عن الجهةِ التي أقبل عليها كيفَ ما كانت الجهةُ، وفيه مع ذلك إبقاءُ الهيئة علَى ما هي عليه [من](3) الابتداءِ بمنابت الشعر التي تلي الوجهَ إلَى القفا، ثم الرجوعِ إلَى حيثُ بدأ.
الوجه الثالث: أنَّ الفعلَ يُطلَقُ باعتبار مُبتَدَئِهِ [تارةً](4) ومُنتهاه أخرَى، فيُقَال لمن ابتدأ بمقدم رأسه: أدبر؛ لأنه فعلٌ إلَى الدبرِ، فسمَّاه بما يؤول إليه، وبهذا المعنى تُؤُوِّلت روايةُ من روَى: "فأدبَرَ
(1)"ت": "في التقديم".
(2)
في الأصل: "جهة"، والتصويب من "ت".
(3)
سقط من "ت".
(4)
سقط من "ت".
وأقبَلَ": علَى أنَّهُ بدأ بمقدم رأسه، وسماه إدبارًا؛ لأنه فعلٌ إلَى الدبرِ، فسماه بما يؤول إليه.
قالَ بعضُ المصنفين: وهي مسألةُ خلافٍ في أصول الفقه، هل يُسمَّى الفعل بمبتدئه، أو بمنتهاه؟ (1)
قلت: فعلَى هذا يُقَال أيضًا لمن بدأ بمؤخر رأسِهِ: أقبل؛ باعتبار المُنتهَى (2)، فيتساوَى الاصطلاحان، ولكنَّهما يفترقان فيمن بدأ بمقدم رأسه ذاهبًا إلَى مؤخره (3)، فصاحب الاصطلاح الأول [لا] (4) يقول: أقبل؛ لأنه لمْ يمرَّ إلَى جهة القبل، وصاحب الثاني يقول: أقبل؛ باعتبار الابتداء.
الوجه الرابع: نُقِلَ عن العابدِ المشهور الموصوف بالولايةِ مُحرِزُ ابن خلف المغربي (5): أنَّ (أقبل) هاهُنا مأخوذ من (القَبَلِ) في العينِ، وهو ميل الناظر (6)، وكثيرًا ما يكون في الخيلِ، يقال: فرسٌ أقبلُ، فمعنى:"أقبل بهما"؛ [أي:](7) أمالهما.
(1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 52).
(2)
"ت": "اعتبارًا بالمنتهى".
(3)
"ت": "آخره".
(4)
سقط من "ت".
(5)
هو الإمام العابد الزاهد أبو محفوظ محرز بن خلف بن زرين، من نسل أي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد تهافتَ عليه الناس لسماع كلامه، توفي سنة (413 هـ).
انظر: "شجرة النور الزكية في طبقات المالكية" لابن مخلوف (2/ 202).
(6)
في الأصل: "وهو مثل الناظر".
(7)
زيادة من "ت".
الوجه الخامس: أنْ يكونَ (أقبل) من باب (أفعل) الذي يأتي (1) علَى أن غيره أدخله في الفعلِ؛ نحو: أدخله، وأخرجه (2)، فيكون معنى "أقبل بيديه": أدخلهما في القبلِ، وقد قالوا: إنَّ هذا مطَّردٌ في غير المتعدي، سماعٌ في المتعدي، و (أقبل) مِن غيرِ المتعدي، وإنما عُدِّيَ بالباء.
الوجه السادس: إن معنى (أقبل) دخل في قُبُل الرأس؛ كما يقال: أَنْجَدَ، وأَتْهَمَ، إذا دخل نَجدًا، وتِهامةَ.
المذهب الثاني: أنْ يبدأَ الماسحُ من مؤخر رأسه إلَى مبتدأ الشعر، ثم يردَّ إلَى المؤخر، وهذا يحافظ علَى أن (أقبل) ذهب إلَى القبلِ، و (أدبر) ذهب إلَى الدبر، وقد جاءت البُدأة بالمؤخرِ في حديث الرُّبيِّع بنت معوِّذ، وحديثُهَا عندَ أبي داود والترمذي وابن ماجه مختصرًا ومطوَّلًا (3).
وهذا وإن حافظَ علَى ما ذكرناه، إلا أنَّهُ يصادمُهُ قوله:"بَدَأَ بمقدّمِ رأسِهِ" مُصادمة يتعذَّرُ عليه دفعها، والأوْلَى أنْ يحمل حديثُ الرُّبيع علَى بيان الجواز، ولا تعارضَ بين الفعلين إذا اختلف وقتاهما.
(1)"ت": "التي تأتي".
(2)
في الأصل: "فأخرجه"، والمثبت من "ت".
(3)
رواه أبو داود (126)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، والترمذي (33)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أنه يبدأ بمؤخر الرأس، وابن ماجه (438)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في مسح الرأس. قال الترمذي، هذا حديث حسن، وحديث عبد الله بن زيد أصح من هذا أو أجود إسنادًا، وقد ذهب بعض أهل الكوفة إلى هذا الحديث منهم وكيع بن الجراح.
وذكر الحافظ أبو بكر بن العربي قال: ولا أعلم أحدًا قال: إنَّهُ يبدأُ بمؤخر رأسه، إلا وكيعُ بن الجرَّاح؛ كمَا ذَكرَهُ أبو عيسَى عنه، والصحيحُ البُداءة بالمقدمِ، وهي رواية الحفاظ كلِّهم (1).
ورأيت في كتاب "الأنوار" أنَّ الحسنَ بن حيًّ قال: يُبدأ بمؤخر الرأس (2).
المذهب الثالث: أنَّهُ يَبدأ بناصيته، ثم يقبِلُ بيده إلَى مقدم رأسه، ثم يُدبِرُ بهما إلَى قفاه، ثم يردُّهما إلَى ناصيته، وهو الذي بدأ منه، ومعنى هذه الصفة مرويٌّ عن أحمد بن داود المنسوب إلَى المالكيةِ، وهذه الصفةُ كانَّهُ قَصَدَ بها الجمعَ (3) بين قوله:"فأقبل وأدبر"؛ [بتفسير (أقبل): مرَّ إلَى جهة الإقبال، (وأدبر):](4) مرَّ إلَى جهة الإدبار، وبين قوله:"بدأ بمقدّم رأسه"؛ أما أقبل فلأنَّه مر في هذه الصفة إلَى جهة القبل، وأما كونه بدأ بمقدّم رأسه، فإنَّ الناصيةَ تسمَّى مقدّم الرأس (5)، فيصدق عليه أنَّهُ بدأ بمقدّم رأسه.
لكني لمْ أقفْ في روايةٍ من الرواياتِ علَى فعل هذه الصفة من الراوي، ولا من النبي صلى الله عليه وسلم، وما كانَّها أُخِذَت إلا لمجرَّدِ قصد الجمع بين اللفظين؛ أعني: البداءة بمقدم الرأس، وقوله:"أقبل وأدبر"، فإنْ لمْ تردْ
(1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 51).
(2)
وكذا نقله ابن عبد البر في "التمهيد"(20/ 124).
(3)
"ت": "جامعة" بدل "كأنه قصد بها الجمع".
(4)
سقط من "ت".
(5)
في الأصل: "رأسٍ"، والمثبت من "ت".