الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السابعة:
في ذكر تأويلاتِ من أبي أن تكون (ثم) بمعنى الواو في الاستعمالات التي ذكرناها، أما قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11] فيقول: على [تقدير:](1) خلقنا أباكم، ثم جعلناه صورةً ناطقة حية، ثم قلنا للملائكة: اسجدوا، إلا أنه حُذِفَ المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مقامَهُ، فيكون إذ ذاك مثلَ قوله:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام: 2] ألا ترى أن التقديرَ: خَلَقَ أباكم من طين، وهذا أولًا قد يُنازَعُ في أن التقدير: خلق أباكم من طين؛ لأن ابتداءَ الغاية الذي تشرَّبَ معنى التسبب (2) لا يوجبُ أن لا يكونَ ثَمَّ واسطةٌ.
ثم نقول: الذي ذكر من التأويل لا يكفي في الخروج عن السؤال؛ لأن التراخي الذي بين التصوير والخلق، وبين السجود، إن صحَّ بهذا التأويل أنْ [يكونَ](3) المرادَ، فيحتاج إلى تأويل آخر في التراخي بين الخلق والتصوير، إذا (4) جعل التصوير لآدمَ عليه السلام كما قيل؛ لأن الخلقَ بمعنى: الإيجاد للجملة، لا يتراخى عنه التصوير، بل هو معه، فإن أُوِّلَ بمجاز (5) زاد المجاز، وإن كان المرادُ تصويرَ بنيه، فهو متراخٍ
(1) زيادة من "ت".
(2)
"ت": "التسبيب".
(3)
زيادة من "ت".
(4)
في الأصل "إذا"، والمثبت من "ت".
(5)
"ت": "فإن الأول مجاز".
عن سجود الملائكة لآدم، فالسؤالُ المهروبُ [منه](1) في (ثم) بالنسبة إلى تَأخُّرِ خلق البنين (2) عن السجود عائدٌ فيها بالنسبة إلى تراخي التصوير عن الخلق.
وأما {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6][فقيل فيه بأن معناه: خلقكم من نفس واحدة، ثم جعل منها زوجها](3) بعد التوحدِ، فعطف الجملة التي هي:{جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} على {وَاحِدَةٍ} ؛ لأنها صفة، والجملةُ إذا كانت صفةً في تأويل المفرد، فشاع عطفُهَا على المفرد [لذلك](4)، وعبَّر بعضهم عن هذا (5): بأن الفعلَ، الذي هو (جعل)، معطوف على ما في (واحدة) من معنى الفعل، وكأنه قال من نفسٍ وُحِّدَتْ، أي: أفردت، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ، ومعلوم أن جعل زوجها منها إنما كان بعد إفرادها.
وأما قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] الآية، واقتضاؤها؛ لأن خلقَ الأرضَ متقدّمٌ على خلق السماء، وهو متأخر بدليل:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]، فأُجيب عنه بوجهين:
(1) زيادة من "ت".
(2)
في الأصل: "البني"، والمثبت من "ت".
(3)
سقط من "ت".
(4)
زيادة من "ت".
(5)
"ت": "ذلك".
أحدهما: أن الدَّحوَ غيرُ الخلق، فإنه البَسطُ، والمعنى: بعد خلق السماء بَسَطَها، وإذا كان غيرَهُ، لم يلزمْ تأخرُ خلقِ الأرض عن خلق السماء، بل جازَ أن يتقدمَ خلقُها خلقَ السماء، و [يتأخرَ](1) بسطُها عن ذلك.
والثاني: أن تكون (بعد) بمعنى (مع)، فيكون التقدير: والأرضَ مع ذلك دحاها، واستُشْهِدَ [على] (2) أنَّ (بعد) بمعنى (مع) بقوله تعالى:{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] وبقولِ الشاعر [من الطويل]:
فَقُلْتُ لها فيئِي إِليكِ فإِنّنَي
…
حَرامٌ وإنّي بَعْدَ ذاكِ لَبِيبُ (3)
وفُسِّرَ اللبيبُ بالملبي، والتلبيةُ مع الإحرام، وعن قراءة مجاهد:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} (4)[النازعات: 30].
والوجه الأول ينبني على أنَّ خلقَ الأرض قبل خلق السماء، وقد رُوي ذلك عن غير واحد من المفسرين (5).
(1) الأصل: "بتأخرها"، والمثبت من "ت".
(2)
زيادة من "ت".
(3)
البيت للمُضَرِّب بن كعب، كما في "الأمالي" للقالي (2/ 171)، و"الصحاح" للجوهري (1/ 217)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 729)، (مادة: ل ب ب)، وانظر:"خزانة الأدب"(2/ 96).
(4)
زيادة من "ت".
(5)
انظر: "تفسير الطبري"(1/ 193).
وأما قولُهُ تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] فَأُوِّلَ بأن المرادَ دائمٌ على الاهتداء، وكذلك:{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 90]؛ أي: دوموا، وكذلك:{ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93]: ثم داموا على الانتقاء والإيمان، ثم داموا على الانتقاء والإحسان.
ولقائل أن يقول: ليس في هذا بيانٌ واضحٌ يُتخلَّصُ به عن سؤال التراخي، فإن الدوامَ هو الاستمرارُ في الزمان، فإذا أُخذَ فيه الزمن الأول بعد انقضاء زمن المعطوف عليه، فالذي هُرِبَ منه في أمر التراخي بالنسبة إلى الاهتداء عائدٌ بالنسبة إلى الدوام.
وأما قوله تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 7 - 9]، فقد أُوِّل بأن معناه: وبدأ خلق آدمَ من طين، ثم [جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، فيكون النفخُ والتسوية متأخرين عن](1) حكم الله (2) بجعل نسله من سلالة من ماء مهين، وذكر هذا [المؤوِّلُ أنه بيّنٌ] (3) أنَّ العربَ تقول: فعل، بمعنى: حكم بالفعل، قال: إن جعلت النفخ والتسوية لآدم عليه السلام؛ كما أنهما له في قوله سبحانه وتعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
(1) زيادة من "ت".
(2)
لفظ الجلالة (الله) سقط من "ت".
(3)
سقط من "ت".
فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71 - 72] وإن جعلتهما لنسله (1) لم نحتج في الآية إلى تأويلٍ.
ولا يخفى عليك أن (2) هذا ليسَ من باب تضمين الفعل معنى فعلٍ آخرَ ليُعدَّى تعديتَهُ؛ لأنَّ تعدي {جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ} [السجدة: 8] لا يحتاج في التعدي إلى تضمين، وإنما هذا تَجَوُّزٌ بجعل فَعْل موضعَ فِعْل، ثم لا بيانَ فيما ذكر يَخلُصُ به من معنى التراخي، فإن (3) الحكمَ بجعلِ منسله من سلالة يسأل عنه، وهل حملُهُ [على (4) العلم، أو](5) على ما يلازمُ العلمَ على مذهب المتكلمين المثبتين لكلام النفس، أو على غير هذين؟
والأولان يستحيلُ فيهما التراخي عن شيء من الأشياء، وغيرُهُما يحتاج إلى ذكره وبيانه.
وأما قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83] ، فقد أُوِّل على أن (ثم) فيه للبُعدِ المعنوي الذي بين المعطوف والمعطوف عليه، لا للبُعدِ الزماني؛ لأن من عرف شيئًا ينبغي أن يكونَ أبعدَ الناس من إنكاره، واستعمالُها حيثُ زاد (6) البعدُ بين الشيئين من
(1) في الأصل: "نسله"، والمثبت من "ت".
(2)
"ت": "بأن".
(3)
"ت": "لأن".
(4)
في الأصل: "إلى" والصواب ما أثبت.
(5)
سقط من "ت".
(6)
"ت": "يزاد".
غير جهة الزمان سائغٌ في الكلام نحو قول القائل: أشعرُ الناسِ فلانٌ، ثم فلان (1)، إذا تباعدَ ما بينهما في جودة الشعر.
وهذا أيضًا ليس إلا مجازًا في استعمال التراخي، الذي هو حقيقة في الزمان، في البعد المعنوي، فلابد فن ترجيحه على المجاز الذي ادعاه خصومهم.
وأما قول الشاعر: سألتُ ربيعةَ
…
البيت.
فقد حمله على البعدِ المعنوي، وَوُجِّهَ: بأن الشرَّ الذي يلحق الشخصَ في الانتساب من قبل أبيه أشدُّ من الشر الذي يلحقه من قبل أمِّهِ من جهة: أن الاعتمادَ في الانتساب إنما هو على الآباء، فتفاوتُ ما بين الشرين كذلك، وهذا كالذي قبله في أنه مجاز يقابَلُ بمجاز (2)، ويحتاج إلى الترجيح.
وأما [قوله](3): إنَّ منْ سَادَ ثمَّ سادَ أبوه
…
البيت.
فقال أبو الحسن الأُبَّدِي (4)، فيما وجدتُهُ عنه: وأما البيتُ فيتخرجُ
(1)"ت": "قال".
(2)
"ت": "مقابل لمجاز".
(3)
زيادة من "ت".
(4)
هو الحسن علي بن محمَّد بن محمَّد بن عبد الرحمن الخشني الأُبَّدي بضم الهمزة وتشديد الباء الموحدة، وبعدها قال مهملة، نسبة إلى أبدة مدينة بالأندلس من كورة جيان، بناها عبد الرحمن بن الحكم وجددها ابنه محمَّد. انظر:"اللباب في تهذيب الأنساب" لابن طاهر (1/ 23)، و"معجم البلدان" لياقوت (1/ 64)، و"نفح الطيب" للتلمساني (2/ 551).
على ظاهره من سؤدَدِ الممدوحِ أولًا، ثم سؤدَد أبيه بعده، ثم سؤددِ الجدِّ بعده، فيكون مثل قول الآخر [من البسيط]:
وكمْ أبٍ قدْ عَلَا [بابْنٍ](1)، ذُرَى حَسَبٍ
…
كَمَا عَلَتْ بِرَسُولِ اللهِ عَدْنَانُ (2)
لِتَبقَى (ثم) على بابها، ومما يبينُ أن (ثم) على بابها قولُهُ بعد ذلك:(جده).
وهذا الذي ذكره من العمل والاستشهاد بالبيت، فقد وجدناه عن أبي الحسن بن عُصفُور أيضًا، وأنشدَ في البيت: ذُرَى شَرَفٍ (3).
ولقائل أن يقول: لا نسُلِّمُ أنه تبقَى (ثم)(4) على بابها على تقديرِ
(1) زيادة من "ت".
(2)
البيت لابن الرومي، كما في "ديوانه"(6/ 424).
(3)
لم أقف عليه عند ابن عصفور في "شرح الجمل". قال المرادي في "الجنى الداني": ما ذكره ابن عصفور في تأويل البيت لا يساعد عليه قوله: "قبل ذلك"، يعني قوله في البيت الذي مضى: ثم ساد قبل ذلك جده.
قال الدماميني في "الحاشية الهندية": وذلك لأن مضمون الكلام على ما أجاب به ابن عصفور أن سؤدد الابن سابق لسؤدد الأب، وسؤدد الأب سابق لسؤدد الجد، والسابق للسابق لشيء سابق لذلك الشيء، فتكون سيادة الابن سابقة لكل من سيادة أبيه، وسيادة جده، وسيادة الأب سابقة لسيادة الجد، وقول الشاعر:"قبل ذلك" منافٍ لهما بلا شك، انتهى. وانظر:"خزانة الأدب" للبغدادي (11/ 39).
(4)
"ت": " (ثم) تبقى".
الحملِ على هذا المعنى الذي استشهدَ بالبيت عليه، وذلك لأنَّ المعطوفَ هو سؤددُ الأب على سؤدَدِ الابن، ثم سؤدَدُ الجدِّ على سؤدد الأب، أو على سؤدد الابن.
وإذا اعتبرتم هذا المعنى الذي ذكرتموه، فلا يتراخى سؤدَدُ الأب، ولا سؤددُ الجدِّ الممدوح، بل يحصلان معًا، نعم يتراخى سؤددُ الأب والجد عن وجود الممدوح، ولم يقعِ العطفُ بـ (ثم) بين سؤدد الأب والجد، وبين وجود الممدوح، وإنما وقعَ بين السؤددين.
فإن قال: ها هنا ترتُّب بين السؤددين، وهو الترتبُ (1) بين العلة والمعلول.
قلنا: وهذا قد يمكنُ في الترتيب، فأين التراخي بين العلة والمعلول؟
فيحتاج إلى أن يَرُدَّ الأمرَ إلى الترتيب، لا إلى التراخي، إلا على استكراهٍ وتعقيدٍ.
وأيضًا فذُروةُ الشيء أعلاه، ولا تَتساوى دلالةُ هذا اللفظ مع دلالة لفظِ (ساد)؛ لأن ظاهرَ لفظ (ساد) حصولُ أصل السيادة، [والعلوُّ إلى الذروة، لا يقتضي ظاهرُه عدمَ حصولِ أصل الشرف؛ لأن العلوَّ إلى الذروة أخصُّ من مطلق العلو، فإذا قيل: إن المفهومَ يقتضي عدمَ الحصول في أعلى الذروة، فلم يقتضِ حصولَ أصل العلو؛ لأن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم.
(1) في الأصل: "الترتيب"، والمثبت من "ت"
إذا كان الأمرُ كذلك، وأن ظاهرَ (ساد) يقتضي حصولَ أصل السيادة] (1)، واعتبرتم هذا المعنى الذي ذكرتموه، لزم أن لا تكونَ لأبي هذا الممدوحِ وجدِّهِ سيادةٌ قبلَ وجود سيادة هذا الممدوح، وهذا رديءٌ في المدح، بل هو ذمٌّ، أو قريبٌ من الذم؛ لاقتضائه أن هذا الممدوح ليس له أصلٌ في السيادة بسؤدد أبيه وجده، وأيضًا فإذا جَعلتَ سؤددَ الجدِّ متراخياً عن سؤدد الأب لم يستقمْ مع اعتبارك هذا المعنى الذي استشهدْتَ على البيت [به](2)، فإنه على هذا التقدير يكونان معًا ناشئين عن سؤدد الممدوح.
وأما قوله: ومما يبينُ أنَّ (ثم) على بابها قولُه بعد ذلك: (جده)، فهذا قد يكفي في نفي كون (ثم) بمعنى الواو، لكنه لا يعين المعنى الذي ذكره للإرادة.
ولئن قال (3): ما ذكرتموه من الفرق بين علوِّ ذروة الشرف، وبين (ساد) مغالطةٌ؛ لأنا إنما نظرنا بين (على) و (ساد) الذي ذكر في الشعر، وهما سواء بالنسبة إلى الدلالة على أصل السيادة والعلو، [وعلى الريادة](4).
قلنا: لابدَّ أن يكونَ المرادُ علوَّ عدنان في ذُروة الشرف، وعلى
(1) سقط من "ت".
(2)
سقط من "ت".
(3)
"ت": "وقال لأن".
(4)
سقط من "ت".