الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الوجه الرابع: في قاعدة تتعلق بهذا الحديث وغيره:
لما كانت روايةُ مالك وخالد ووهيب وسليمان راجعةً إلَى عمرو ابن يحيَى، وكان في الألفاظِ اختلاف أفاد بقولِه: في (1) رواية خالد الواسطي في هذا الحديث، وفي رواية وُهيب في هذا الحديث، وفي رواية سليمان بن بلال في هذا الحديث: أنَّ الاختلافَ الذي وقع في الألفاظِ اختلافٌ في حديث واحد؛ لأنَّ هذه الروايات كلَّها عن يحيَى ابن يحيَى (2)، عن أبيه، وهذا يتعلقُ بقاعدة صناعية لا يكادُ أهل الفقه يعتبرونها، ولا تكاد توجدُ في تصرفاتهم، وكذلك في تصرف بعض أهل الحديث ممَّن يتكلَّم في الفقهِ.
والذي يُعْهَدُ من تصرُّفِ أهل الفقه غالباً أنهم يجعلون اختلاف الألفاظ في الرواياتِ كاختلاف الأحاديث، ويستدلون بكل لفظة علَى الحكمِ الذي يُستفاد منها.
ولأهل الحديث نظرٌ في اتحاد الحديث واختلافه يتصرَّفون بسببه فيما يتعلق بصناعتهم عندَ اختلاف الروايات، ويوجدُ في كلام بعضهم فيما يتعلَّقُ بالأحكامِ، وليس ذلك بالكثيرِ جداً، فلنتكلمْ فيما يتعلق بهذه القاعدة لتكرُّرِها في الأحاديثِ والحاجةِ إليها في الصناعتينِ جميعاً؛ أعني: في الإسنادِ وفي الاستدلال، والله الموفق للصواب (3).
(1) في الأصل: "وأفاد"، والمثبت من "ت".
(2)
"ت": "عمرو بن يحيى".
(3)
على هامش "ت": "بياض".
فنقول: إن اختلف مخارجُ الحديث، أو (1) تباعدت ألفاظُهُ، فينبغي أنْ يُجعلا حديثين مُستقلين، وإن اتحد مخرجُهُ، وتقاربت ألفاظُهُ، فالغالبُ علَى الظنِّ أنَّهُ حديثٌ واحدٌ وقعَ الاختلافُ فيه علَى شيخ واحد، لا سيَّما إذا كان ذلك في سياقةِ واقعةٍ [واحدةٍ](2) يَبعُد أنْ يتعدَّدَ مثلُها في الوقوعِ.
وإذا تبيَّنَ أنَّهُ حديثٌ واحدٌ اختلفَ (3) الرواةُ في لفظِهِ فيُنظر؛ إن (4) أمكنَ الجمعُ في اللفظِ بأنْ تزيدَ أحَدُ الروايتين لفظاً في روايةٍ لا يبعُدُ أنْ يُجمع (5) مع اللفظ الآخر قبل الزائد، وجعل بعض الرواة تاركاً لبعض اللفظ؛ إما لعدم سماعه، أو لنسيانه، أو لسببٍ [آخر](6).
وإن تعذَّرَ الجمعُ في اللفظِ ظاهراً نظرنا في أحد اللفظين، وهل يمكن أنْ يعبَّر بأحدهما عن معنَى الآخر، أو لا؟
فإنْ كَان الأولُ جمعنا، وردَدْنا إحدَى الروايتين إلَى الأخرَى.
وإنْ كَان الثاني فحينئذ نرجع إلَى الترجيحِ بزيادة الحفظ، أو الكثرة، أو غير ذلك من أسباب الترجيح.
هذا فيما إذا اتَّحدَ الحديث ظناً برجوعِهِ إلَى مخرج واحد،
(1)"ت": "و".
(2)
زيادة من "ت".
(3)
"ت": "اختلفت".
(4)
"ت": "فإن".
(5)
"ت": "يجتمع".
(6)
زيادة من "ت".
وتقارُبِ ألفاظه، أو اتحادِ واقعته. وأما إنْ لمْ يكنْ كذلك فهما حديثان يُؤخَذُ من كلِّ واحد منهما ما يقتضيه، وهذا الذي نقوله بناءً علَى غالب الظنِّ لا علَى الجزمِ، فإنه يجوزُ في أكثر هذه الاختلافاتِ أنْ تكونَ كرواياتٍ متعددة، وإن بَعُدَ (1) ذلك.
مثال ما يتَّحدُ مخرجُهُ ويظهر أنَّهُ حديثٌ واحد مع إمكان اجتماع اللفظين: حديث يحيَى بن [أبي](2) كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه في النهي عن مسِّ الذَّكَرِ باليمينِ (3)، فإنَّ الرواياتِ ترجعُ إلَى يحيَى هذا، فإذا رواه بعضهم بالنهي عن مسِّ الذكر باليمينِ مُطلقاً (4)، ورواه بعضهم بالنهي عن مسِّهِ باليمينِ في الاستنجاء، أو في البولِ، فهذا يمكن أنْ يكونَ جميعاً ملفوظاً بهما، فتُحمل روايةُ من تركه علَى رواية من ذكره، ونجعله (5)[دليلاً على](6) تقييد النهي بالاستنجاءِ أو البول (7).
ولو جعلناهما كالحديثينِ لمْ نَحكمْ بتقييد النهي بحالة الاستنجاء أو البول؛ لأنَّ الحديثَ الذي فيه النهي مُطلقاً لا يُعارِضُ الذي فيه
(1) في الأصل: "تعدد"، والمثبت من "ت".
(2)
زيادة من "ت".
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
"ت": "مطلقاً باليمين".
(5)
في الأصل: "يجعل"، والمثبت من "ت".
(6)
زيادة من "ت".
(7)
"ت": "فتحمل رواية من تركه على رواية من ذكر، ونجعله دليلاً على تقييد النهي بالاستنجاء أو البول".
النهي مُقيداً بالاستنجاءِ أو البول، وإنما يُرَدُّ أحدُ اللفظين إلَى الآخرِ في العموم [إلَى](1) الخصوص، أو الإطلاق إلَى التقييدِ، عندَ التعارض والتنافي في بعض المدلولات، اللهمَّ إلا أنْ يكونَ التقييد يقتضي مفهومُهُ مخالفةً للمُطلقِ أو العامِّ عندَ من يقول بالمفهومِ، ويرَى أنَّهُ يُخصِّصُ العمومَ.
ومثالُ ما لا يتأتَى فيه الجمعُ من الألفاظِ: ذكر حديث الواهبةِ نفسَها وما اختلفت الرواة فيه عن علي بن أبي حازم (2)، عن أبيه، عن سهل بن سعد؛ فإنها قصة واحدة، يقول بعضهم:"أنكحتُكَهَا (3) "(4)، وبعضهم:"زوَّجتُكَهَا"(5)، وبعضهم:"مَلَّكْتُكها (6) "(7)، إلَى غير ذلك من الاختلافات (8)، فهذا لا يتأتَّى أن تكون هذه الألفاظُ كلُّها قالها
(1) في الأصل: "أو"، والمثبت من "ت".
(2)
"ت": "علي ابن أبي حاتم".
(3)
في الأصل: "أنكحتها"، والمثبت من "ت".
(4)
رواه البخاري (4854)، كتاب: النكاح، باب: التزويج على القرآن وبغير صداق.
(5)
رواه البخاري (4741)، كتاب: فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، ومسلم (1425)، (2/ 1041)، كتاب: النكاح، باب: الصداق.
(6)
"ت": "ملكتها".
(7)
رواه البخاري (4742)، كتاب: فضائل القرآن، باب: القراءة عن ظهر القلب، ومسلم (1425)، (2/ 1040)، كتاب: النكاح، باب: الصداق.
(8)
"ت": "الاختلاف".
الرسول (1) صلى الله عليه وسلم في تلك الواقعة وتلك الساعة، إلا علَى سبيل التجويز العقلي المخالف للظنِّ القوي جداً، فينبغي علَى هذا أنْ يُنظرَ إلَى الترجيحِ الذي أشرنا إليه؛ لأنه ليست دلالة كل واحدٍ من هذه الألفاظ كدلالة الأخرَى في الحكمِ الذي يُؤخَذُ منها، فتقفُ الدلالةُ بلفظ:"ملَّكتُكَها" علَى انعقاد النكاح بلفظ التمليك علَى هذا التقدير إذا لمْ يتبينِ الترجيح.
وما ذهب إليه بعضُهُم - أو من (2) يذهب إليه - من أنَّ النكاحَ انعقد في القصةِ بلفظ النكاح أو التزويج، وأن لفظَ التمليك تعبيرٌ عن معنَى ما وقع، لا لفظِهِ (3)، ينعكسُ (4) عليه، ويقلبُهُ خصمُهُ عليه، وإنما الطريق في سبيل هذا الترجيح.
ولو ذهب ذاهبٌ إلَى ما يفعله الفقهاءُ من جعل الروايات المتعددة في الطرقِ للحديث الواحد كالأحاديثِ المتعددة، لزمَهُ أنْ يجيزَ النكاحَ بكل لفظةٍ من هذه الأحاديث المذكورة في الحديثِ لرواية (5) كلِّ لفظةٍ من جهة العدلِ الثقة (6).
قد نبَّهْنا علَى اختلاف الروايات في هذا الحديث، ولا تغفلَنَّ
(1)"ت": "قول الرسول".
(2)
زيادة من "ت"، وقد ألحقت في الأصل، إلا أنها مطموسة.
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 214).
(4)
"ت": "يعكسه".
(5)
"ت": "كرواية".
(6)
على هامش "ت" قوله: "بياض".