الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك لمجانسةِ حكم اليدين
…
إلَى آخر ما ذكرناه عنه (1).
الحادية والسبعون:
هذا الحديثُ وحديث عثمان وغيرهما، فيها ترتيبُ الأعضاءِ بعضِها علَى بعض، ولا خلافَ في طلبيَّة ذلك، وإنما الخلافُ في الوجوبِ، فالمحقَّقُ من الحديثِ هو الطلبُ المشتركُ بين الوجوب والاستحباب، وخصوصُ الوجوب يحتاج إلَى دليل، وفي تحريره مُرتَّبا (2) إشكالٌ؛ لأنَّ بعضَهم يستندُ [فيه](3) إلَى ترتيب الواو، وقد ثبت من لسان العرب خلافُ ذلك علَى ما تقرر في فنِّ الأصول [و](4) العربية.
والخلافيُّون يذكرون حديثًا فيه كلمة (ثم) المقتضيةِ للترتيب، ولا اعتدادَ به؛ لأنه يتوَقَّفُ علَى وجوده، ثم علَى صحته، ولم تتحققْ.
ورُبَّما يُستدلُّ بقوله - السِلام عَليه -: "ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأ اللهُ بِهِ"، وهي لفظَةٌ من الحديثِ الطويل في الحجِّ الذي أخرجه مسلم (5)، ورُبَّما يُتوهَّمُ أنها كذلك في رواية مسلم، وإنما الذي فيه:"نبدأ"، أو "أبدأ" علَى صيغة الخبر، لا الأمر، ولا يدلُّ ذلك علَى الوجوب، وأما صيغةُ الأمر فمروَّية من جهة بعض الرواة، والأشهرُ خلافُها، ثمَّ إنَّهُ لفظٌ لمْ يُقصَدْ به العمومُ وتأسيس القواعد، والسياقُ يقتضي التخصيصَ.
(1) وانظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 212).
(2)
في الأصل: "متبينًا"، والمثبت من "ت".
(3)
زيادة من "ت".
(4)
زيادة من "ت".
(5)
برقم (1218) كما تقدم.
وأقوَى ما قيل فيه (1): [إنَّه - تعالَى -](2) أدخلَ المسحَ بين الغسلين، وقطع (3) النظيرَ -[وهو الغسل](4) - عن النظيرِ، وإنَّ العربَ لا تفعلُ ذلك إلا للترتيب، لا يقول القائل منهم: ضرب فلانٌ زيدًا، وخلع علَى بكرٍ، وعمرًا، فيُدخلُ الإكرامَ بين الضربين، إلا لقصد الترتيب.
والذي أجاب [به](5) بعضُ الفضلاء من المالكيَّةِ المتأخرين عن هذا بأنَّهُ يُسلَّمُ أنَّ الترتيبَ مطلوبٌ؛ كما يقتضيه التفريق المذكور، وأما أنَّهُ واجبٌ، فلا.
[وهذا](6) فاسدٌ؛ لأنه إذا سَلَّمَ أنَّ هذا النظمَ يقتضي الترتيبَ في لغة العرب كان [ذلك](7) داخلًا تحت الأمر، فيكون واجبًا، [لكن](8) لعلَّهُ أنْ يُطالِبَ مطالبٌ بإثبات ذلك من لغة العرب، وهم يستدلُّون بالمثالِ المذكور، وشبهه.
وقد قدمنا عن بعض الفضلاء المالكية محاولةَ الجواب عن ذلك
(1)"ت": "وأقوى ما فيه أن يقال" بدل "وأقوى ما قيل فيه".
(2)
سقط من "ت".
(3)
"ت": "فقطع".
(4)
سقط من "ت".
(5)
زيادة من "ت".
(6)
زيادة من "ت".
(7)
سقط من "ت".
(8)
زيادة من "ت".
بأنَّ الغسلَ والمسحَ من جنس واحد، وأنه قد يُسمَّى الغسلُ مسحًا، و [كان](1) حاصلُ هذا منعَ [قطع](2) النظير عن النظيرِ في اللفظِ، أو إبداءَ قيدٍ في هذا اللفظ المذكور في الآيةِ يمنعُ إلحاقَها بالقاعدةِ المذكورة، وهو أنَّ الغسلَ والمسح من جنس واحد، والحكمُ لفظيٌّ، لا معنوي.
وليُتنبَّهْ؛ لأنَّ هذا الدليلَ لا يفيدُ المطلوبَ بنفسه، بل لا بدَّ من ضميمة مقدِّمةٍ إليه علَى طريقٍ جدلي، والطرقُ الجدلية تُستمدُّ من سعة الخيال، ودقة الوهم، ودُرْبة الاستعمال، والسيف فيها بضاربه لا بحدِّة مَضَارِبِه (3)، وهي بمعزل عن الطريقِ التي تجبُ علَى المجتهدِ المحقِّقِ أنْ يسلكَهَا في إثبات الأحكام الشرعيَّة، ولذلك لا تجد شيئًا من هذه الجدليَّاتِ المتأخرة في شيء من كلام المتقدِّمين الذين رجعَ الناسُ إليهم في الأحكام.
وبعد تقرير هذه المقدِّمة على (4) الطريق الجدلي، [و](5) قد يُعارَض بأمر جدلي، والمقدمة المذكورة هي: أنَّهُ لا قائل بالفرق؛ لأنَّ دلالةَ الدليل المذكورة قاصرةٌ علَى الترتيبِ بين غسل اليدين ومسح الرأس، وبين مسح الرأس وغسل الرجلين، ولا تدلُّ علَى الترتيبِ
(1) سقط من "ت".
(2)
زيادة من "ت".
(3)
"ت": "والسيف فيها بضاربه لا بحده بضاربه"، ثم كتب فوقها:"كذا".
(4)
"ت": "على".
(5)
سقط من "ت".
مُطلقًا كما هو المُدَّعَى، فيتبيَّنُ أنَّهُ يحتاج إلَى هذه المقدمة، وأنَّ الدليلَ المذكور لا يفي بالمطلوبِ بنفسه (1).
ومستندُ المجتهد يجبُ أنْ يكونَ منشأَ الحكم والموجبَ لفتواه، ولا يجوزُ أنْ يكونَ الدليلُ الخاصُّ مشأً للحكم العام، ولا موجبًا للفتوَى به.
والواجبُ علَى المجتهدِ أن لا يعلمَ مخالفةَ حكمِهِ للإجماع، [لا أنْ يعلمَ عدمَ مخالفتِهِ للإجماعِ](2)، وبينهما فرقٌ؛ لأنَّ المعنى الثاني يقتضي أنْ يعلمَ موافقةَ حكمه للإجماع، أو وقوعَ الخلاف، ولو كان هو الواجبُ لكانت الواقعةُ الحادثة للمجتهدين إذا لمْ يُعلمْ فيها تقدمُ إجماعٍ، ولا خلاف، أنْ يمتنعَ الحكمُ فيها عليهم مع وجود الدلائل الشرعية غيرِ الإجماع علَى الحكمِ، وهذا باطلٌ، فتعيَّنَ أنَّ المجتهدَ ينظر إلَى المستندِ الذي يبني (3) عليه الحكم، ويعتبرُ شرائطَهَ، ومنها أن لا يخالف الإجماع في نفس الأمر.
وأما المعارضةُ الجدليَّةُ فهي أنْ يقال: لو ثبتَ ما ذكرتموه من دلالة التفريق بين النظير والنظير علَى وجوب الترتيب، لثبتَ عدمُ الدلالة علَى وجوب الترتيب في حق بعض الأعضاء؛ لعدم المُوجب فيه، ولو ثبت عدمُ الوجوب في بعض الأعضاء، لثبت في كلِّ الأعضاء بعينِ الإجماع الذي ذكرتموه؛ من أنَّهُ لا قائلَ بالفرقِ.
(1)"ت": "نفسه".
(2)
زيادة من "ت".
(3)
"ت": "ينبني".
ولئنْ (1) قالَ: ما ذكرتموه من الأصلِ السالمِ عن المعارضِ، وإن دلَّ علَى عدم الوجوب، لكنِ الإجماعُ علَى أنَّهُ لا يفترقُ (2) حكمُ الأعضاء في الترتيبِ، يعارضُهُ، وينفي العملَ به.
قلنا: الإجماعُ قائمٌ في نفس [الأمر](3)، أو علَى تقدير ثبوت ما ذكرتموه من الدلالةِ؛ الأول (4) مُسلَّم، ولا يفيدكم ثبوتُه علَى تقدير ما ذكرتموه، والثاني ممنوع؛ أعني: ثبوتَ ذلك الإجماع علَى تقدير ما ذكرتموه.
ثم (5) لمْ ينقضِ الحديثُ، بل بتنازع الجدليات (6) ملأه الحصرُ في الجدلِ، وَيحوزُ السبقَ أقواهما منه، وأشدُّهما محكًّا.
وقد استدلَّ بعضُ الناس علَى المسألةِ بما [جاء](7) في حديث عمرو بن عَبَسَةَ: "مَا مِنْكُمْ من أَحَدٍ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ" إلَى أنْ قال (8): "ثمَّ يغسِلُ وجهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ"(9)، و (ثم): للترتيب.
(1)"ت": "قال لأن".
(2)
في الأصل: "يفرق"، والمثبت من "ت".
(3)
سقط من "ت".
(4)
"ت": "الأولى".
(5)
"ت": "بل "بدل "ثم".
(6)
"ت": "الحديثان".
(7)
سقط من "ت".
(8)
"ت": "قال".
(9)
سيأتي تخريجه مفصلًا.
والاعتراضُ عليه أنْ يُقَال له: [أتدَّعي](1) أنَّ (ثم) هاهُنا دالةٌ علَى الترتيبِ في الغسلِ بين الرِّجلين والرأس، لا أنها تدلُّ علَى أنَّ اللهَ أمرنا بالترتيبِ، أو تدلُّ علَى الترتيبِ في الغسلِ، وعلَى أمرِ اللهِ به بصيغة (ثم) هذه، أو تدعي أنَّهُ أمرَ به لا من جهةِ صيغة (ثم) هذه، إما بالإشارةِ إلَى القرآنِ في قوله عليه السلام:"كما أمره الله"، أو حكمٍ ثابت بالسنةِ غيرِ مأخوذ من (ثم) هذه؟
فهذه ثلاث احتمالات؛ فإنْ كَان المدَّعَى هو الأولُ لمْ يلزمْ وجوبُ الترتيب؛ لأنَّ الحديثَ إنما دلَّ علَى ترتيب ثوابٍ مخصوص علَى فعل مخصوص مرتَّبٍ، فلا يلزم من ذلك وجوبُ الترتيب؛ لأنَّ انتفاءَ الثواب المخصوص، الذي [هو](2) خرورُ الخطايا، علَى تقدير عدم الترتيب، لا يلزمُ منه انتفاءُ أصل الإجزاء.
وإنْ كَان المدَّعَى دلالةَ (ثم) هذه علَى [أنَّ](3) اللهَ أمر بالترتيبِ بها، وحرف العطف يقتضي التشريكَ بين المعطوف والمعطوف عليه، والمعطوفُ هاهُنا هو غسل الرجلين مقيَّدًا؛ إما بالصفةِ، أو الحاليَّة؛ [أعني قوله:"كما أمره اللهُ تعالَى"] (4)، فصار ذلك داخلًا في المعطوفِ، فيكون في دلالة (ثم) هذه عليه تفاوتًا في الرتبةِ بالنسبة (5)
(1) سقط من "ت".
(2)
زيادة من "ت".
(3)
زيادة من "ت".
(4)
سقط من "ت".
(5)
في الأصل: "في النسبة"، والمثبت من "ت".