الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
416 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ
(1)
، وَفِي رِوَايَةٍ:«كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» .
(2)
المسائل والأحكام المستفادة من الأحاديث
مسألة [1]: حكم قصر الصلاة في السفر
.
• ذهب جماعة من أهل العلم إلى وجوب القصر، وهو قول الحنفية، والظاهرية، وحماد، والثوري، ومالك في رواية، وحُكِي عن قتادة، والحسن، وعمر بن عبد العزيز، واحتجوا على ذلك بأدلة:
1) حديث عائشة رضي الله عنها الذي في الباب.
2) حديث ابن عباس رضي الله عنهما في مسلم (687)، قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم صلاة الحضر أربعًا، وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الخوف ركعة.
3) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: صلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفطر
(1)
صحيح لغيره. أخرجه أحمد (2/ 108)، وابن خزيمة (950)، وابن حبان (2742)(3568)، وغيرهم من طرق عن حرب بن قيس، عن نافع، عن ابن عمر به. ورجال الإسناد ثقات إلا حرب ابن قيس، فقد روى عنه ثقتان، وقال عمارة بن غزية: كان رضا. فلا بأس إن شاء الله بتحسين حديثه. وللحديث شاهد يصح به عن ابن عباس رضي الله عنهما:
أخرجه الطبراني (11/ 323) برقم (11880) فقال: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا الحسين بن محمد الذراع، ثنا حصين بن نمير، ثنا هشام بن حسان، عن عكرمة، عن ابن عباس به بلفظ:«كما يحب أن تؤتى عزائمه» وإسناده صحيح، رجاله ثقات.
(2)
هذه الرواية هي عند ابن حبان بالرقم الثاني المتقدم، وهو لفظ حديث ابن عباس الذي ذكرناه قريبًا، فهي رواية صحيحة، والله أعلم.
ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه.
(1)
4) أثر ابن عباس رضي الله عنهما، عند ابن المنذر (4/ 334)، أنه قال: من صلَّى في السفر أربعًا، فهو كمن صلَّى في الحضر ركعتين.
5) أثر ابن عمر رضي الله عنهما، عند ابن المنذر (4/ 333)، أنه قال: صلاة السفر ركعتان، من خالف السنة كفر.
• وذهب جمهور العلماء إلى عدم وجوب القصر، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101].
فهذه الآية تدل على أن القصر مباح، ومن لازمه أنَّ الإتمام جائزٌ أيضًا؛ وذلك لأنَّ نفي الجناح يدل على الإباحة.
وقد أجيب على استدلال الجمهور بهذه الآية بأنَّ المراد بالقصر فيها إنما هو قصر هيئة الصلاة، لا قصر عددها، وهذا الجواب لا يصح؛ لما أخرجه مسلم في «صحيحه» برقم (686) من حديث يعلى بن أمية، أنه سأل عمر بن الخطاب عن هذه الآية، فقال: كيف وقد أمن الناس؟ فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا
(1)
أخرجه أحمد (257)، والنسائي (3/ 111، 118، 183)، وابن ماجه (1063)، من طريق: عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن عمر، وهو منقطع؛ لأنَّ عبدالرحمن لم يسمع من عمر رضي الله عنه، وقد جاءت رواية عند ابن ماجه (1064) بذكر الواسطة (كعب بن عجرة)، وهي رواية غير محفوظة، وقد أعلها أبو حاتم كما في «العلل» (585)، والدارقطني في «العلل» (150).
صدقته»، فهذا الحديث يدل دلالة صريحة على أنَّ قصر عدد الصلاة مما هو مرادٌ بالآية؛ لأنَّ قصر العدد هو الذي استمر في حالة الأمن، لا قصر الهيئة، والله أعلم.
وأُجيب عن استدلال الجمهور بهذه الآية بأنَّ الآية دليل عليهم؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قد قال عند أن سأله عمر: «فاقبلوا صدقته» ، والأمر يقتضي الوجوب.
وأجاب الجمهور: بأنَّ الأمر للندب؛ لأنه وقع جوابًا لسؤالهم، ولأنَّ الآية تدل على عدم الوجوب؛ لقوله فيها:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} .
وأُجيب عن استدلال الجمهور بهذه الآية بأنها دلَّت على إباحة القصر، وقد استُفيدَ الوجوب من أدلة أخرى، وقد تقدمت، فيؤخذ بها لأنَّ فيها زيادة.
وأجاب الجمهور على ذلك بما سيأتي إن شاء الله عند الجواب على أدلة القائلين بالقصر.
واستدل الجمهور على أنَّ القصر غير واجب بحديث عائشة الذي في الباب، أنَّ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يقصر في الصلاة، ويتم. وهو حديث باطلٌ، واستدل الجمهور أيضًا على عدم الوجوب: بإتمام عائشة، وعثمان، ولا يُعلم أنَّ أحدًا من الصحابة حكم على صلاتهما بالبطلان، بل كانوا يُصلُّون خلف عثمان.
وقال ابن عبد البر رحمه الله في «التمهيد» : وفي إجماع الجمهور من الفقهاء على أنَّ المسافر إذا دخل في صلاة المقيمين، فأدرك منها ركعة أنه يلزمه أن يصلي أربعًا، فلو كان فرض المسافر ركعتين لم ينتقل فرضه إلى أربع، كما أنَّ المقيم إذا
دخل خلف المسافر لم ينتقل فرضه إلى اثنتين، وهذا واضح لمن تدبر وأنصف. اهـ
واستدل الجمهور على أنَّ القصر غير واجب بقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «صدقة تصدق الله بها عليكم» ، فسمَّاها صدقة، والصدقة والرخصة لا يجب العمل بها.
وقد ردَّ الجمهور على أدلة القائلين بالوجوب بما يلي:
1) حديث عائشة: «فُرِضت الصلاة ركعتين ركعتين
…
».
أُجيب عنه بأجوبة أحسنها إجابة الحافظ في «فتح الباري» .
قال رحمه الله (350): وَاَلَّذِي يَظْهَر لِي -وَبِهِ تَجْتَمِع الْأَدِلَّة السَّابِقَة- أَنَّ الصَّلَوَات فُرِضَتْ لَيْلَة الْإِسْرَاء رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمَغْرِب، ثُمَّ زِيدَتْ بَعْد الْهِجْرَة عَقِب الْهِجْرَة إِلَّا الصُّبْح، ثُمَّ بَعْد أَنْ اِسْتَقَرَّ فَرْض الرُّبَاعِيَّة خُفِّفَ مِنْهَا فِي السَّفَر عِنْد نُزُول الْآيَة السَّابِقَة، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} .
قال: فَعَلَى هَذَا المُرَاد بِقَوْلِ عَائِشَة: (فَأُقِرَّتْ صَلَاة السَّفَر)، أَيْ: بِاعْتِبَارِ مَا آلَ إِلَيْهِ الْأَمْر مِنْ التَّخْفِيف، لَا أَنَّهَا اِسْتَمَرَّتْ مُنْذُ فُرِضَتْ، فَلَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقَصْر عَزِيمَة. انتهى بتصرف.
قلتُ: ويؤيد ما قاله الحافظ حديث أنس بن مالك الكعبي عند أبي داود (2408)، والنسائي (4/ 190)، وأحمد (4/ 347)، وغيرهم مرفوعًا:«إنَّ الله وضع شطر الصلاة عن المسافر» وإسناده حسن، فهذا الحديث يدل على أنَّ القصر
تخفيف حصل بعد أن كانت على المسافر أربعًا، كالمقيم، والله أعلم.
2) أثر ابن عباس رضي الله عنهما.
قال ابن قدامة رحمه الله في «المغني» : وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ قَوْلِهَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مِنْهَا؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ فَرْضِ الصَّلَاةِ فِي سِنِّ مَنْ يَعْقِلُ الْأَحْكَامَ، وَيَعْرِفُ حَقَائِقَهَا، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا، أَوْ كَانَ فَرْضُهَا فِي السَّنَةِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا؛ فَإِنَّهَا فُرِضَتْ بِمَكَّةَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ حِينَ مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِي حَدِيثِهِ مَا اُتُّفِقَ عَلَى تَرْكِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالْخَوْفُ رَكْعَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا أَرَادَتْ عَائِشَةُ مِنْ ابْتِدَاءِ الْفَرْضِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ أَتَمَّ بِالْإِعَادَةِ. اهـ
قلتُ: ويُحتمل أن يكون ذلك اجتهادًا من ابن عباس رضي الله عنهما، بدليل أنَّ صلاة الخوف ليست مفروضة ركعة واحدة، وسيأتي بيانه إن شاء الله في صلاة الخوف.
3) قال ابن قدامة رحمه الله: وَقَوْلُ عُمَرَ: (تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ)، أَرَادَ بِهَا تَمَامٌ فِي فَضْلِهَا غَيْرُ نَاقِصَةِ الْفَضِيلَةِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُورَةِ الرَّكَعَاتِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ إذْ الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ. اهـ
قلتُ: ومع ذلك فهو منقطعٌ كما تقدم.
4) أثر ابن عباس رضي الله عنهما، من طريق: الضحاك بن مزاحم عنه، والضحاك لم يلق
ابن عباس؛ فهو منقطعٌ
(1)
، ضعيفٌ.
5) أثر ابن عمر رضي الله عنهما، عند ابن المنذر إسناده ضعيف؛ لأنه من رواية معمر عن قتادة، ولكن أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (4/ 373)، بإسناد صحيح، ثم قال: الكفر ها هنا كفر النعمة، وليس بكفر يَنْقُل عن المِلَّة، كأنه قال: كفرٌ لنعمة التأسي التي أنعم الله على عباده بالنبي صلى الله عليه وسلم، ففيه الأسوة الحسنة في قبول رخصته، كما في امتثال عزيمته صلى الله عليه وسلم.اهـ
• ثم اختلف القائلون بعدم وجوب القصر في حكم الإتمام على أقوال:
الأول: الإتمام أفضل، وهو قول للشافعي.
الثاني: قول من يُسوِّي بينهما، كبعض أصحاب مالك. وهو قول سعيد بن المسيب، وأبي قلابة الجرمي، كما في مصنف ابن أبي شيبة (2/ 452).
الثالث: قول من يقول: القصر أفضل، كقول الشافعي الصحيح، وإحدى الروايتين عن أحمد.
الرابع: قول من يقول: الإتمام مكروهٌ، كقول مالك في إحدى الروايتين، وأحمد في الرواية الأخرى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في «مجموع الفتاوى» (24/ 9): وأظهر الأقوال قول من يقول: إنه سُنَّة -يعني القصر-، وإنَّ الإتمام مكروه. اهـ
(1)
في إسناده أيضًا: حميد بن علي العقيلي، يرويه عن الضحاك، قال البخاري في «التاريخ»: مرسل. وحميد فيه ضعف، وصحَّ عن ابن عباس بمعناه في «الأوسط» لابن المنذر (4/ 333).