الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية: التفريق بين الرضا والاختيار
.
فالحنفية يفرقون بين الرضا والاختيار.
فالاختيار: القصد إلى الشيء وإرادته.
والرضا: إيثاره واستحسانه.
فالمكره على الشيء يختاره، ولا يرضاه، ومن هنا قالوا: المعاصي والقبائح بإرادة الله تعالى، لا برضاه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى لعباده الكفر
(1)
.
فإذا وجد الرضا وجد الاختيار، فقد يجتمعان، وقد ينتفيان، وقد يوجد أحدهما ولا يوجد الآخر.
فإذا اختار العاقد العقد من غير إكراه، وكان مكلفًا راشدًا غير محجور عليه فإنه في هذه الحالة يتحقق اجتماع الرضا والاختيار في حق العاقد.
وقد ينعدم الاختيار والرضا، كما لو كان البائع مجنونًا، أو صبيًا دون التمييز، ففي هذه الحالة ينتفي في العقد الرضا والاختيار.
وقد يوجد الاختيار ولا يوجد الرضا عند الحنفية، كما لو كان البائع مكرهًا إكراهًا غير ملجئ، فالمكره مختار لما فعله، قاصد إياه؛ فهو قد اختار أهون الشرين عليه، إلا أنه قصده لا عن رضا به، بل لدفع الشر عن نفسه
(2)
.
(1)
التقرير والتحبير (2/ 259).
(2)
نقله الباحث فضيلة الدكتور علي قره داغي من كلام لأبي زيد الدبوسي من مخطوطة في دار الكتب برقم (255) أصول الفقه (ص: 910).
وعمدتهم في التفريق بين الاختيار والرضا بأن معانيهما اللغوية تدل على وجود فرق بينهما:
فالاختيار: هو ترجيح شيء على آخر
(1)
.
والرضا: هو الرغبة بالفعل والارتياح إليه، والانشراح النفسي به
(2)
، ولا تلازم بينهما، فقد يختار المرء أمرًا لا يرضاه، ولا يحبه، ولكنه لا يرضى شيئًا إلا وهو يحبه، قال تعالى:{وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} [البقرة: 216].
ذهب الجمهور إلى أن الرضا والاختيار لفظان مترادفان في الاصطلاح، فإذا قلنا: أن يكون العاقد مختارًا، بمنزلة أن أقول: أن يكون العاقد راضيًا بالعقد، وأن الاختيار لا يجتمع مع الإكراه. فمن أكره على فعل شيء لم يكن مختارًا البتة.
قال السيوطي: «فالمراد بالاختيار قصده ذلك الفعل وميله ورضاه، وأنه لم يفعله على وجه الإكراه»
(3)
.
(1)
الاختيار في اللغة: الاصطفاء والانتقاء، وتفضيل الشيء على غيره، قال تعالى: {ولقد اخترناهم على علم على العالمين [الدخان: 32].
وقال تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلًا لميقاتنا} [الأعراف: 155].
(2)
الرضا: مصدر رضى يرضى رضا ورضوانًا، ويستعمل الرضا ومشتقاته متعديًا بنفسه، وبالباء وبعلى، فيقال: رضيته، وارتضيته، ورضيت عنه، وعليه، وبه.
وللرضا معان كثيرة، منها الاختيار، قال تعالى:{ورضيت لكم الإسلام دينًا} [المائدة:3].
ومنها طيب النفس، قال تعالى:{راضية مرضية} [الفجر: 28].
ومنها الموافقة، كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصروا الغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها
…
».
(3)
فتاوى السيوطي: مخطوطة الأزهر برقم (131) فقه شافعي ورقة 143، نقلًا من حاشية كتاب مبدأ الرضا في العقود للدكتور القره داغي (1/ 208).
جاء في المطلع في تعريف المختار، قال:«وهو غير المكره، وهو اسم فاعل من اختار، ويقع على المفعول أيضًا، فيقال: اخترت الشيء فهو مختار»
(1)
.
وقال ابن القيم: «المكره محمول على ما أكره عليه، غير مختار له .. »
(2)
.
والسؤال، ما هي ثمرة الخلاف؟
[م -94] يتضح الخلاف بين الحنفية والجمهور في بيع المكره، فالإكراه إذا كان غير ملجئ كالضرب المحتمل، والقيد ونحوهما، فإن البيع ينعقد فاسدًا عند الحنفية، وليس باطلًا.
ولماذا قالوا بانعقاد البيع؟ لأن الاختيار عندهم شرط لانعقاد البيع، وقد وجد. ولماذا كان العقد فاسدًا؟ لأن الرضا الذي هو شرط للصحة لم يوجد مع وجود الإكراه.
ويفرق الحنفية بين الفساد والبطلان:
فالباطل: هو البيع الذي في ركنه خلل، كبيع المجنون، وبيع الميتة، وغير المميز.
والفاسد: ما كان مشروعًا بأصله دون وصفه
(3)
،
كما لو باع شيئًا بثمن مؤجل
(1)
المطلع (ص: 333).
(2)
إعلام الموقعين (1/ 308).
(3)
مجلة الأحكام العدلية، المادة (362، 364، 107، 108، 109، 110).
ومع أن الجمهور جعلوا الفاسد مرادفًا للباطل إلا أنهم في مسائل كثيرة فرقوا بينهما.
ففي باب النكاح فرقوا بين النكاح الفاسد وبين النكاح الباطل، وكذلك في كتاب المناسك، وفي مسائل متفرقة من الفقه، انظر كتاب المنثور في القواعد الفقهية (3/ 15)، القواعد لابن اللحام: القاعدة الحادية والعشرون (1/ 368)، والأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 286)، القواعد الفقهية لابن رجب: القاعدة (46)، الموسوعة الكويتية (8/ 114).
إلى مدة غير معلومة، أو كان البيع في حال الإكراه
(1)
.
وحكم البيع الباطل أنه لا يفيد الملك، ويجب فسخه مطلقًا، ولا ينقلب إلى عقد صحيح
(2)
.
لأن الشارع لم يأذن به، فوجوده كعدمه.
وأما البيع الفاسد ينفذ بمجرد زوال صفة الفساد، ولا ينتج أثرًا قبل القبض، وإذا تم القبض بإذن البائع، فإنه يفيد الملك، ويضمن بالقيمة لا بالمسمى
(3)
.
وقد تكلمنا عن هذا بشيء من التفصيل في الكلام على تقسيم العقود باعتبار الوصف الشرعي، فأغنى عن إعادته هنا.
بينما الجمهور يرون أن المكره عقده باطل، لعدم تفريقهم بين الفاسد والباطل،، ولعدم التفريق بين الإكراه الملجئ وغيره، لأن الإكراه يتفاوت من شخص لآخر، فألم الخوف من التهديد عند بعض الناس يعتبر إكراهًا شديدًا، والحبس اليسير يعتبر في حق بعض الناس إكراهًا، وبعض الناس قد يكون شجاعًا، فلا يؤثر فيه الضرب الشديد، فضلًا عن الضرب اليسير، فمن لحقه أذى، أو خوف على نفسه، أو ماله، أو ولده بما يؤلمه، ويقيد من حريته، فهذا من الإكراه، والله أعلم.
وسوف نفصل إن شاء الله تعالى في الفصل التالي حكم بيع المكره، أعاننا الله على ذلك بمنه وكرمه.
* * *
(1)
حاشية ابن عابدين (4/ 503)، البحر الرائق (6/ 75)، الفتاوى الهندية (3/ 3)، مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر (2/ 4)، مجلة الأحكام العدلية، المادة (106).
(2)
الحاوي (6/ 110، 95)، شرح منتهى (2/ 60)، الموسوعة الكويتية (12/ 58).
(3)
انظر المبسوط (13/ 22 - 23)، تبيين الحقائق (4/ 61)، العناية شرح الهداية (6/ 459 - 460)، الهداية مع فتح القدير (6/ 404)، البدائع (5/ 107).