الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اغترابها خارج الوطن الإسلامي. (1).
خامسًا: تجاوز فقه الترخيص إلى فقه العزائم:
الأصل في الوجود الإسلامي خارج دياره أنه طارئ مؤقت بحاجات لا تلبث أن تزول، فيعود الأمر إلى نصابه، ويرجع المغترب إلى بلاده، كما كان الأصل السابق أن الإفتاء لأولئك المغتربين إنما هو فتيا لأفراد قليلين مبعثرين ومستضعفين.
وما فتئ الزمان يدور حتى تغير الحال، فزالت تلك الحاجات وبقيت الأقليات في تلك البلاد لم تبرحها، ووجد من أهلها الأصليين من دخل في دين المسلمين، ولم يرغب عن بلاده وموطنه، وتكاثر الناس في جماعات وطوائف، وانتقل وجودهم من عارض طارئ وفردي إلى ثابت مستقرٍّ وجماعي.
ولم يكن بدٌّ من تغير الفتيا بتغير الظروف والأحوال، واستقواء المستضعفين بأنواع منوعة من أسباب القوة المادية والمعنوية، فبدأ الفقه يتجاوز مرحلة الظروف الطارئة والاستثنائية في حياة الأقليات الإسلامية، وينتقل عبر مرحلة انتقالية إلى فقه يقوم على القواعد والأصول الأساسية، وينشئ بها فقهًا تأسيسيًّا على المستقر الثابت من الأحكام، ولتبقى دائرة الأحكام والفتيا في الأمور الطارئة والاستثنائية في تقلُّص دائم، وتراجع مستمر.
وإذا كان المفتون في مرحلة سابقة أفرادًا مشتتين فقد غَدَوا منتظمين في مجامع فقهية، ومجالس علمية، تعنى بالشأن الفقهي الخاص بالأقليات ولا سيما في بلاد الغرب أوروبا وأمريكا.
وإذا كانت السمة الغالبة على فقه المرحلة السابقة هو فقه الرخصة المبيحة، وفقه الضرورة الملجئة، والحاجة التي تنزل منزلة الضرورة؛ فإن فقه العزائم ينبغي أن يحلَّ في محله وأن يأخذ مكانه باستحداث أوضاع قارَّة، وأحوال تتمكن فيها الأقليات من ممارسة إسلامها ومتابعة أحكامها بشكل صحيح ومستقرٍّ.
(1) نحو منهج أصولي لفقه الأقليات، د. عبد المجيد النجار، (ص 54 - 55).
"فإذا أفتى -مثلًا- على سبيل الترخيص بجواز القرض بالفائض من أجل شراء البيوت فإن ذلك يجب أن يكون استثناءً مقترنًا بوجوب أن يسعى المسلمون سعيًا حثيثًا إلى استحداث المؤسسات التي تُقرض على أساس غير ربوي"(1).
ولا شك أن النظر في مآلات استمرار الفتيا على نحو من هذا الترخيص سيفضي إلى مآلات لا تحمد عقباها.
وإذا كانت الجاليات غير المسلمة التي تعيش في تلك البلاد قد فرضت احترامًا لعقائدها ومقدساتها وأحكامها فإن على الطائفة المسلمة في تلك الديار أن تحقق مكتسباتها وأن تحرز انتصاراتها، ولا يسوغ أبدًا أن تستنيم لفقه ترخيصي أو تسويغي شدت إليه حاجة ملحة أو ضرورة ملجئة.
ولا شك أنه مما يعين على تحقيق هذا المقصد المهم في حياة الأقليات: السعي إلى تكوين المؤسسات وتدشين الجهات والهيئات التي ترعى الأقليات في تلك البلاد وفي بلاد الإسلام على حد سواء.
ووضع تصور واضح المعالم لمستقبل تلك الأقليات المسلمة في ديار غربتها؛ ليفضي بها إلى دفع غربتها في دينها وفي مجتمعاتها.
وهذا إنما يمكن رسم معالمه وإنضاج شكله المستقبلي من خلال بحوث علمية ومداخلات فقهية استشرافية، وتأصيل منهجي، ومشاركة حضارية يثبت للمسلمين حقهم في الريادة والقيادة، واستحقاقهم للمشاركة في تنمية وهداية تلك المجتمعات.
(1) فقه الأقليات بين فقه الترخيص وفقه التأسيس - المجلس الأوروبي للإفتاء أنموذجيًّا، د. عبد المجيد النجار، (ص 18).