الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اعتبارها طريقًا لبيان أحكام ما يَجِدُّ من النوازل، وذلك وفقًا لما تقتضيه المصالح التي لم يرد بشأنها نص خاص، وكانت داخلة في إطار المصالح المشروعة المستفادة من اعتبار أجناس أعلى منها، فهي من الأدلة الحيوية التي يتحقق بها إثراء الفقه الإسلامي، وتجديد خصوبته (1).
وفي المجال التطبيقي المعاصر ذهبت طائفة من الباحثين المعاصرين إلى أن مما يدخل في مجالها: تحديد أجور العمال، أو تحديد ملكية الأراضي الزراعية، أو تحديد أجور المساكن، أو إرسال بعثات دراسية إلى بلاد غير المسلمين، ومكافأة المجدين، وتشريع بعض اللوائح والنظم كاشتراط إثبات عقد الزواج بورقة رسمية لسماع دعوى الإنكار لقيام الزوجية، واشتراط تسجيل البيع في الدوائر المختصة لنقل الملكية، وتحريم ذبح إناث الحيوانات الصغيرة محافظة على الثروة الحيوانية، والإلزام بحمل البطاقة الشخصية أو العائلية، والإلزام بقواعد خاصة لاستخراج جواز السفر والخروج من البلاد، ووضع قواعد المرور في الطرقات العامة.
ومما يدخل في ذلك: إنشاء دوائر خاصة للمحافظة على الحقوق، كدوائر التسجيل العقاري، والجوازات والبلديات وغيرها (2).
القاعدة الثانية: الاستحسان:
الاستحسان -لغةً-: مصدر استحسن، أي: عَدَّ الشيء حسنًا أو طلب الأحسن (3).
واصطلاحًا له عند الأصوليين ثلاثة معانٍ:
الأول: ما يستحسنه المجتهد بعقله ويرجحه بمحض رأيه.
(1) قاعدة المشقة تجلب التيسير، د. يعقوب الباحسين، (ص 312).
(2)
أصول الفقه الإسلامي، د. زكريا البري، (ص 148 - 149)، قاعدة المشقة تجلب التيسير، د. يعقوب الباحسين، (ص 312 - 313).
(3)
لسان العرب، لابن منظور، (3/ 180)، التوقيف على مهمات التعاريف، لعبد الرءوف المناوي، تحقيق: د. عبد الحميد صالح حمدان، عالم الكتب، القاهرة، ط 1، 1410 هـ - 1990 م، (ص 47).
الثاني: ما ينقدح في نفس المجتهد ولا يقدر على التعبير عنه.
"وبطلان هذين التعريفين ظاهر؛ لأن المجتهد ليس له الاستناد إلى مجرد عقله في تحسين شيء، وما لم يعبر عنه لا يمكن الحكم له بالقبول حتى يظهر ويعرض على الشرع"(1).
وإذا كان العقل لا يستقل بالتحسين، وما ينقدح في النفس لا يكون مقياسًا؛ فإنه من المستبعد أن يقصد العلماء من الاستحسان ما يستحسنه المجتهد برأيه، أو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسُر عبارته عنه (2).
وعليه فإن هذين الاتجاهين في فهم الاستحسان وتعريفه مرفوضان.
الثالث: هو العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص يقتضي ذلك.
وهذا هو التعريف الصحيح الذي قصده القائلون بالاستحسان.
ومن التعريفات الصادرة عن هذا الفهم الصحيح:
1 -
قول الكرخي الحنفي (3): "الاستحسان هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه؛ لوجه يقتضي العدول عن الأول"(4).
2 -
وقال عنه ابن رشد: "الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعم من القياس، هو أن يكون طرد القياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم فيختص به ذلك الموضع"(5).
(1) مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر، لمحمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط 1، 1426 هـ، (ص 259).
(2)
الاعتصام، للشاطبي، (2/ 138).
(3)
أبو الحسن، عبيد الله بن الحسين بن دلال، البغدادي الكرخي الفقيه، مفتي العراق، شيخ الحنفية، انتهت إليه رئاسة المذهب، وكان من العلماء العباد، ولد سنة 260 هـ، وتوفى سنة 340 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (15/ 426)، والجواهر المضية، لمحيي الدين القرشي، (2/ 493).
(4)
كشف الأسرار، لعبد العزيز البخاري، (4/ 4).
(5)
البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، تحقيق: د. محمد حجي وآخرين، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1408 هـ - 1988 م، (4/ 156).
وعليه فقد دارت تعريفات الأصوليين للاستحسان حول معنى استثناءِ جزئيةٍ ما من حكم دليل، أو قاعدة أغلبية (1)، دون تعرض في أغلب التعريفات للداعي والحامل على هذا الاستحسان، أو المعنى المشترك الذي يربط بين الأدلة التي يتحقق بها هذا الاستثناء، ولا شك أن هذا الاستثناء إنما دعا إليه وجود الحرج أو المشقة والعنت، وجدير بالذكر أن السرخسي في "المبسوط" قد تناول التعريف نقلًا عن بعض شيوخه بعبارات تدل على اعتبار المشقة أو الحرج وما يقتضيه ذلك من التخفيف، فقال:"كان شيخنا الإمام يقول: الاستحسان ترك القياس، والأخذ بما هو أوفق للناس، وقيل: الاستحسان طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلى به الخاص والعام، وقيل: الأخذ بالسعة، وابتغاء الدَّعة، وقيل: الأخذ بالسماحة، وابتغاء ما فيه الراحة"(2).
وهذا القدر يكفي في بيان ارتباط الاستحسان بقاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، بل قد صرح السرخسي بذلك حين قال:"وحاصل هذه العبارات أنه ترك العسر لليسر، وهو أصل في الدين، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال صلى الله عليه وسلم: لأبي موسى ومعاذ رضي الله عنهما، حينما وجههما لليمن: "يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا" (3)(4).
وإذا كان الكرخي الحنفي عرف الاستحسان بأنه: العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى، فإن هذا الوجه هو التخفيف الذي تقتضيه
(1) أصول السرخسي، (2/ 200)، الإحكام، للآمدي، (4/ 163 - 165)، الموافقات، للشاطبي، (4/ 207)، رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، للباحسين، (ص 277 - 288).
(2)
المبسوط، للسرخسي، (10/ 145).
(3)
أخرجه: البخاري، كتاب الجهاد، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة مَن عصى إمامه، (3038)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب: في الأمر بالتيسير وترك التنفير، (1733)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(4)
المبسوط، للسرخسي، (10/ 145).
المشقة، أو ينشئه الحرج (1).
وقد يكون الدليل الدال على استثناء الجزئية وتغير حكمها للمشقة الطارئة هو النص، أو الإجماع، أو الضرورة أو القياس الخفي، فينقسم الاستحسان إلى أنواع أربعة بناء على ذلك، كما هو مذهب الحنفية (2).
وقد يرى غيرهم أن العرف وعمل أهل المدينة، والمصلحة، ومراعاة الخلاف، ورفع المشقة أنواع أخرى للاستحسان، كما هو عند المالكية (3).
والأنواع بجملتها -كما قدمنا- تعود إلى نفي المشقة ورفع الحرج.
وبتتبع الاستحسانات التي قال بها الحنفية في فقههم نخلص إلى نتيجة إجمالية، وهي: أنه ما من حكم قيل به استحسانًا إلا وهو أخف من الحكم المتروك، وفيما يأتي من أمثلة البرهنة على صحة هذه النتيجة:
1 -
لو أمر حاكم بقطع يد السارق اليمنى فأخطأ المنفذ فقطع اليسرى، فإن على المنفذ الضمان في القياس الظاهر؛ لأن اليسرى معصومة، فتكون عند إتلافها مضمونة، وقد عدل عن هذا استحسانًا لقياس خفي، وهو: أنه لا شيء على المنفذ؛ لأنه أتلف وأخلف من جنسه ما هو خير منه، فلا يعد إتلافًا، وصار كما لو شهد اثنان على رجل ببيع عبد بألفين، وقيمته ألف، أو شهدا بمثل قيمته، ثم رجعا بعد القضاء لا يضمنان شيئًا (4).
ولو أن حكم القياس الظاهر جرى هنا لأدى إلى مشقة وحرج، فعدل عن حكمه إلى ما يحقق التيسير.
(1) الإحكام، للآمدي، (4/ 164)، قاعدة المشقة تجلب التيسير، للباحسين، (ص 318).
(2)
التوضيح، لصدر الشريعة، (2/ 17).
(3)
الموافقات، للشاطبي، (4/ 208)، المحصول في أصول الفقه، للقاضي أبي بكر ابن العربي المالكي، تحقيق: حسين علي البدري، دار البيارق، الأردن، ط 1، 1420 هـ - 1999 م، (ص 131).
(4)
شرح فتح القدير، لابن الهمام، (5/ 398).