الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول المعلِّمي اليماني (1) رحمه الله: "فأما السنة فقد تكفل الله بحفظها أيضًا؛ لأن تكفله بحفظ القرآن يستلزم تكفله بحفظ بيانه، وهو السنة، وحفظ لسانه، وهو العربية؛ إذ المقصود بقاء الحجة قائمة والهداية باقية، بحيث ينالها من يطلبها؛ لأن محمدًا خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، بل دل على ذلك قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]، فحفظ الله السنة في صدور الصحابة والتابعين حتى كُتبت ودُوِّنت"(2)، والتاريخ شاهد بما قيض الله لهذه السنة المطهرة من الجهابذة الأعلام الذين حفظوها ودونوها ونخلوا صحيحها من سقيمها، ومقبولها من مردودها.
المطلب السادس: صلاحيتها لكل زمان ومكان:
لم يبعث الله تبارك وتعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم ليكون نذيرًا لطائفة من الناس دون غيرهم، ولا ليكون رسولًا لأمة من البشر دون سائر الأمم، وإنما بعثه ليكون للعالمين بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، بعثه بشريعة الإسلام الخالدة إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، قاصيهم ودانيهم، أحمرهم وأسودهم، عربيهم وأعجميهم، شرقيهم وغربيهم، فهي بذلك عالمية.
وهذه الحقيقة معلومة من دين الإسلام بالضرورة؛ لأن القرآن الكريم صرَّح بها
(1) عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن محمد، العتمي، فقيه من العلماء، نسبته إلى بني المعلم من بلاد عتمة باليمن، عين أمينًا لمكتبة الحرم المكي سنة 1372 هـ إلى أن مات، من مصنفاته: التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، والأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة، ولد سنة 1313 هـ وتوفي سنة 1386 هـ، ودفن بمكة. الأعلام، للزركلي، (3/ 342).
(2)
الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة، لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، عالم الكتب، بيروت 1402 هـ - 1982 م، (ص 33).
تصريحًا مستفيضًا لا يقبل التأويل، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 158]، ففي هذه الآية الكريمة بيان "عموم رسالته صلى الله عليه وسلم، وهي عامة للثقلين كما نطقت به النصوص، حتى صرحوا بكفر منكره"(1)، وبرغم أن الآية الكريمة خاطبت الناس جميعًا برسالته صلى الله عليه وسلم إلا أنها أكدت ضمير المخاطبين بوصف:"جميعًا" الدال نصًّا على العموم؛ لرفع احتمال التخصيص (2).
ويقول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، أي:"وما أرسلناك يا محمد إلى هؤلاء المشركين بالله من قومك خاصة، ولكنَّا أرسلناك كافة للناس أجمعين العرب منهم والعجم، والأحمر والأسود، بشيرًا من أطاعك ونذيرًا من كذبك"(3).
وقال عز وجل: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، أي:"لأنذركم بالقرآن أيها المشركون، وأنذر من بلغه القرآن من الناس كلهم"(4). وقال عن القرآن الكريم نفسه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال:{وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم: 52]، أي:"وما محمد إلا ذِكْر ذكَّر الله به العالمين؛ الثقلين الجن والإنس"(5). أو: وما القرآن الكريم إلا ذكر للعالمين. ومعناه: شرف، كما قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44](6).
(1) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لمحمود شكري الألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (9/ 82).
(2)
تفسير التحرير والتنوير، لمحمد الطاهر ابن عاشور، الدار التونسية، تونس، 1984 م، (9/ 139).
(3)
تفسير الطبري، (19/ 288).
(4)
السابق، (9/ 184).
(5)
السابق، (23/ 204).
(6)
تفسير القرطبي، (18/ 256).
وهذه الحقيقة القرآنية أكدتها السنة النبوية، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأحلت لي الغنائم ولم تحلَّ لأحد قبلي، وأُعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"(1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا دخل النار"(2).
والمراد بالأمة في هذا الحديث عموم الخلق سواء من دخل فيهم في أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالمعنى الخاص فصار مسلمًا، أو من بقي منهم على كفره فكان من أمته بالمعنى العام، أي: من عموم من بعث إليهم وأمر بدعوتهم، وهم الناس جميعًا بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، وذلك بدليل ذكره لليهود والنصارى.
وإلى جانب هذه الحقيقة الراسخة عقيدة أخرى لا تقل عنها رسوخًا، وهي أن رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين والمرسلين، فلا نبي بعده ولا رسول، فرسالته الخاتمة هي الخالدة الباقية إلى يوم الدين، فلا نسخ لها ولا زوال.
فهذه عقيدة معلومة من دين الله بالضرورة، لا ينكرها إلا من كفر بالرحمن وكُتب عليه الخذلان، قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، "وخاتم النبيين الذي: ختم النبوة فطبع عليها، فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة" (3)، فهذه الآية الكريمة "نص في أنه لا نبي بعده، وإذا
(1) أخرجه: البخاري، كتاب التيمم، (335)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، (521).
(2)
أخرجه: مسلم، كتاب الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته، (153).
(3)
تفسير الطبري، (19/ 121).
كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1).
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنَّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة"، قال:"فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"(2).
هاتان الحقيقتان الراسيتان الراسختان مقدمتان لحقيقة كبرى وهي: صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان؛ لأننا لو لم نقل بذلك -مع كون رسالة الإسلام رسالة عالمية خاتمة للرسالات- للزم منه أن يكون الله عز وجل قد أجاز للبشر أن يشرِّعوا لأنفسهم في كل زمان ما يصلح لهم، وهذا أبطل الباطل، وبطلانه معلوم من دين الله بالضرورة، كما أن حاكمية الله وانفراده بالسلطان على عباده وتفرده بحق التشريع معلوم من دين الله بالضرورة، قال تعالى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، وقال:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، وقال سبحانه:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، فالذي له الخلق هو وحده الذي يملك الأمر والنهي والتحليل والتحريم والتشريع والحكم، فما من شيء في حياة البشر مهما كان صغيرًا إلا ولله فيه
(1) تفسير ابن كثير، (6/ 428).
(2)
أخرجه: البخاري، كتاب المناقب، باب: خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، (3535)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب: ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، (2286).
حكم، فيجب عليهم أن يردوا كل أمر يختلفون فيه إلى حكم الله وحده، وهذا أمر لا يخالف فيه مسلم موحد.
بل إن تعبير "صلاحية الشريعة" ليقصر عن استيعاب الدور المستغرق الدائم العام الباقي للشريعة الإسلامية؛ لأنها لا تتصف بالصلاحية فحسب، وإنما تتصف بالصلاحية والإصلاح، فهي صالحة لكل زمان ومكان، ومصلحة لكل زمان ومكان، بل لا يكفي أن نقول هذا حتى نرفع احتمال المشاركة فنقول: إنها هي وحدها الصالحة والمصلحة لأهل كل زمان ومكان.