الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأولى عندي أنه يلزمه اتباع الأفضل" (1).
وقال القرافي رحمه الله: "فإن اختلف عليه العلماء في الفتوى، فقال قوم: يجب عليه الاجتهاد في أعلمهم وأورعهم؛ لتمكنه من ذلك.
وقال قوم: لا يجب ذلك؛ لأن الكل طرق إلى الله تعالى، ولم ينكر أحد على العوام في عصرٍ تركَ النظر في أحوال العلماء.
وإذا فرَّعنا على الأول فإن حصل ظن الاستواء مطلقًا فأمكن أن يقال: ذلك متعذر، كما قيل في الأمارات، وأمكن أن يقال: يسقط عنه التكليف، ويفعل ما يشاء.
وإن حصل ظن الرجحان مطلقًا تعين العمل بالراجح.
وإن حصل من وجه: فإن كان في العلم والاستواء في الدين، فمنهم من خيَّر، ومنهم من أوجب الأخذ بقول الأعلم.
قال الإمام: وهو الأقرب؛ ولذلك قدم في إمامة الصلاة.
وإن كان في الدين والاستواء في العلم فيتعين الأدين، فإن رجح أحدهما في دينه والآخر في علمه، فقيل: يتعين الأدين، وقيل: الأعلم، قال: وهو الأرجح كما مرَّ" (2).
وأيًّا ما كان الأرجح في هذا الأمر فإن الشاهد من إيراد هذه المسألة بتفاصيلها هو بيان أن التسهيل والتيسير والتخفيف مطلقًا كان سببًا في ذهاب بعض العلماء المعتبرين إلى الترجيح بالأخف.
القاعدة الرابعة: عموم البلوى:
معنى القاعدة:
العموم -لغةً-: هو مصدر عمَّ يَعُمُّ، بمعنى الكثرة والشمول، ومنه سميت العامة لكثرتهم
(1) المستصفى، للغزالي، (ص 373 - 374).
(2)
الذخيرة، للقرافي، (1/ 147 - 148).
وعمومهم، ولأن العامة تُعَمُّ بالشر: أي: يشملها، ويقال: عم المطر البلاد، أي: شملها، وعم الشيء بالناس، أي: بلغ المواضع كلها، كما أنها تعني العلو، وتعني كذلك السفول (1).
وأما البلوى -لغةً-: فهي الاختبار، يقال: بلوت الرجل وابتليته، أي: اختبرته وامتحنته، ويكون بالخير وبالشر، قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، أي: نختبركم بالشدة والرخاء، والحلال والحرام.
كما تعني: البِلَى والإخلاق، يقال: بَلِيَ الميت، أي: أفنته الأرض، ويَلِيَ الثوب، أي: صار خَلِقًا (2).
وعلى هذا فيكون معنى (عموم البلوى) في اللغة من حيث التركيب الإضافي هو: شمول الاختبار.
فإن أردنا أن نطبق هذا المعنى اللغوي على الحقائق الشرعية أمكن أن نقول: إن عموم البلوى يعني: "شمول التكليف بما فيه مشقة"، وذلك على أساس أن الاختبار والابتلاء يتحقق في الشرع بالتكليف الذي فيه شدة، قال تعالى:{وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4].
أما عموم البلوى في الاصطلاح الشرعي العام فهو:
شمول وقوع الحادثة مع تعلق التكليف بها، بحيث يعسر احتراز منها أو استغناء المكلف عن العمل بها إلا بمشقة زائدة تقتضي التيسير والتخفيف، أو يحتاج إلى معرفة حكمها؛ مما يقتضي كثرة السؤال عنها واشتهارها (3).
(1) لسان العرب، لابن منظور، (9/ 406)، المصباح المنير، للفيومي، (2/ 430)، كتاب العين، للخليل، (1/ 94)، معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (4/ 15 - 18).
(2)
لسان العرب، لابن منظور، (1/ 497)، (4/ 299)، المصباح المنير، للفيومي، (1/ 62) القاموس المحيط، للفيروزآبادي.
(3)
عموم البلوى دراسة نظرية تطبيقية، مسلم بن محمد الدوسري، مكتبة الرشد، الرياض، (ص 61).
هذا هو تعريف (عموم البلوى) وعليه فيمكن تعريف (ما تعم به البلوى) بأنه: الحادثة التي تقع شاملة مع تعلق التكليف بها بحيث يعسر احتراز المكلف منها أو استغناء المكلف عن العمل بها إلا بمشقة زائدة تقتضي التيسير والتخفيف، أو يحتاج إلى معرفة حكمها مما يقتضي كثرة السؤال عنها وانتشارها (1).
وقد يعبر عنها بما تمس إليه الحاجة في عموم الأحوال (2)، أو بالضرورة العامة أو حاجة الناس العامة، ونحو هذا من عبارات.
ومن تأمل في التعريف السابق وفي الوقائع والحالات التي عمت فيها البلوى تبين له أن عموم البلوى يظهر في موضعين:
الأول: مسيس الحاجة في عموم الأحوال، بحيث يعسر الاستغناء عنه إلا بمشقة زائدة.
والثاني: شيوع الوقوع والتلبس، بحيث يعسر على المكلف الاحتراز عنه أو الانفكاك منه إلا بمشقة زائدة، ففي الموضع الأول ابتلاء بمسيس الحاجة، وفي الثاني ابتلاء بمشقة الدفع (3).
والنظر في عموم البلوى يرجع إلى ضابطين رئيسين (4):
الأول: نزارة الشيء وقلته وتفاهته.
والمعنى: أن مشقة الاحتراز من الشيء، وعموم الابتلاء به قد يكون نابعًا من قِلَّته ونزارته، من أجل ذلك عفي عما ترشش من الشوارع مما لا يمكن الاحتراز عنه، وما
(1) المرجع السابق، (ص 62).
(2)
كشف الأسرار، للبزدوي، (3/ 24).
(3)
رفع الحرج، د. يعقوب الباحسين، (ص 434 - 435)، رفع الحرج، د. صالح بن حميد، (ص 262).
(4)
الجامع في فقه النوازل، د. صالح بن عبد الله بن حميد، مكتبة العبيكان، الرياض، ط 1، 1424 هـ - 2003 م، (ص 23)، صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 219 - 220).