الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما الشريعة الربانية فتمتد من الدنيا إلى الآخرة، وتجمع بين الجزاء الدنيوي والأخروي.
وبالجملة فهذه الشريعة ربانية في غايتها، إلهية في مقصدها؛ إذ غايتها من الإلزام والالتزام: التعبد لله وطلب رضاه، قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].
وهي ربانية في أصولها واستمدادها ومنهجها وطريقتها.
المطلب الثاني: الثبات والديمومة مع المرونة:
ثبات الشريعة مستمد من كونها حقًّا لا يتغير، وصدقًا لا يتبدل، وختامًا لشرائع الله تعالى فلا تنسخ، قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]، فلا معقب لحكمه في الدنيا ولا في الآخرة (1)، فالعصمة ثابتة لها في حفظها وفي بيانها، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقال تعالى:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42].
ومنعُ القرآن من الخلل والفساد، وحفظه وإتقانه، كل ذلك من معاني الإحكام الواردة في قوله تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، "وهو كله من جملة الحفظ، والحفظ دائم إلى أن تقوم الساعة، فهذه الجملة تدلك على حفظ الشريعة وعصمتها عن التغيير والتبديل"(2).
وإذا كان التكليف إلى يوم القيامة فإنه لا يتحقق إلا بثباتها ودوامها وسلامتها من التغيير والتبديل، قال الغزالي رحمه الله (3): "السلف من الأئمة مجمعون على دوام
(1) تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، دار طيبة، الرياض، ط 2، 1420 هـ - 1999 م، (3/ 322).
(2)
الموافقات، للشاطبي، (2/ 58).
(3)
أبو حامد، محمد بن محمد الغزالي، الملقب بحجة الإسلام، ولد سنة 450 هـ، تلقى العلم على إمام الحرمين الجويني وغيره، له تصانيف كثيرة، منها: إحياء علوم الدين، والمستصفى في الأصول، توفي سنة 505 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (19/ 322)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (6/ 191).
التكليف إلى يوم القيامة" (1).
وقد حرص الصحابة والتابعون لهم بإحسان على العمل على ثبات أحكام الشريعة الإسلامية، فلا ترقى المستحبات إلى مرتبة الواجبات، ولا تنزل المحرمات إلى رتبة المكروهات؛ لأن هذا يعدُّ تغييرًا في الشريعة وتبديلًا لأحكامها.
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله (2): "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننًا؛ الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في شيء خالفها، من عمل بها مهتد، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا"(3)(4).
وفي تأكيد ثبوتها يقول الشاطبي رحمه الله في كلام محكم: "فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخًا، ولا تخصيصًا لعمومها، ولا تقييدًا لإطلاقها، ولا رفعًا لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال، بل ما أثبت سببًا فهو سبب أبدًا لا يرتفع، وما كان شرطًا فهو أبدًا شرط، وما كان واجبًا فهو واجب أبدًا، أو مندوبًا فمندوب،
(1) المستصفى في علم الأصول، لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1413 هـ، (1/ 148).
(2)
أبو حفص، عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، أمير المؤمنين الإمام العادل، والخليفة الصالح، ولي الخلافة تسعة وعشرين شهرًا مثل ولاية أبي بكر الصديق، روى عن أنس بن مالك وصلى أنس خلفه، وكان ثقة مأمونًا روى أحاديث كثيرة، توفي عام 101 هـ الطبقات الكبرى، لابن سعد، (5/ 330)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 114).
(3)
كتاب الشريعة، لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري، تحقيق: د. عبد الله بن عمر الدميجي، دار الوطن، الرياض، ط 2، 1420 هـ - 1999 م، (1/ 408).
(4)
الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية، د. عابد بن محمد السفياني، دار الفرقان، القاهرة، ط 1، 1408 هـ - 1988 م، (ص 121 - 129).
وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك" (1).
ومع ذلك كله فإن بالشريعة سعة ومرونة ومنطقة من العفو تركت قصدًا للناس من غير نسيان، ففي الحديث:"ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو فأقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئًا"، ثم تلا هذه الآية:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64](2)، ثم فتح الباب للاجتهاد في هذه المنطقة، ولإلحاق النظير بنظيره.
كما يلحظ بجلاء أن نصوص الشريعة عنيت بالأحكام الكلية في بعض القضايا أكثر من عنايتها بالجزئيات التفصيلية؛ فإن كثيرًا من قضايا السياسة الشرعية في الإسلام جاءت النصوص فيها عامةً تضع الأطر وتترك التفاصيل، وهذا ملحوظ في نظام القضاء وتطوره، ونظام الحسبة والمظالم، وطرائق الشورى، وغير ذلك، والحكمة في هذا متجلية في تحقيق مرونة التطبيق بعد ثبات التوثيق.
ومن أسباب ثباتها -مع السعة في أحكامها، والمرونة في تطبيقها على اختلاف العصور وتغير البيئات-: ابتناؤها على جلب الصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، فهي شريعة
(1) الموافقات، للشاطبي، (1/ 79).
(2)
أخرجه: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري في "مستدركه على الصحيحين"، دار المعرفة، بيروت، مصورة عن الطبعة الهندية، كتاب التفسير، تفسير سورة مريم، (2/ 375)، -وعنه: البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الضحايا، باب: ما لم يُذكَر تحريمه ولا كان في معنى ما ذُكر تحريمه مما يؤكل أو يشرب، (10/ 12) -، وأبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في "مسنده":"البحر الزخار"، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة -المملكة العربية السعودية، ط 1، 1409 هـ / 1988 م، (4087)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. قال الحاكم:"صحيح الإسناد"، وقال نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد"، بتحرير الحافظين الجليلين: العراقي وابن حجر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408 هـ / 1988 م، مصورة عن ط القدسي بالقاهرة، (1/ 171):"إسناده حسن، ورجاله موثقون" اهـ، وقال في موضع آخر (7/ 55):"رجاله ثقات" اهـ.