الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعن هذا المعنى عبَّر الزركشي تفصيلًا، فقال:"الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الناس"(1)، وهذه هي الحاجة الأصولية.
ثم قال: "الحاجة الخاصة تبيح المحظور"(2).
وهذه هي الحاجة الفقهية التي تلحق في المعنى بالضرورة؛ وجمعًا بين الحاجة العامة والخاصة قيل في نص القاعدة: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة"(3).
بين الحاجة الأصولية والضرورة:
والمقصود بالحاجة هنا الحاجة الأصولية، بدليل بقاء حكمها واستمراره بدون احتياج لتحققها في آحاد أفرادها.
وهي الحاجيات عند الأصوليين على ما قرره الشاطبي بقوله: "ما يفتقر إليها من حيث التوسعة، ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، وإذا لم تُرَاعَ دخل على المكلفين -على الجملة- الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة، وهي جارية في العبادات، والعادات، والمعاملات، والجنايات"(4).
وهل الحاجة تنزل منزله الضرورة بإطلاق؟
هذا يحتاج إلى معرفة الفرق بين الحاجة والضرورة، ومدى اعتبار أن الحاجة قائمة مقام الضرورة بصفة مطلقة.
ومن المتفق عليه أن الحاجة والضرورة قد يطلقان لغةً بمعنى واحد، وهو
(1) المنثور في القواعد، للزركشي، (2/ 24).
(2)
المرجع السابق، (2/ 25).
(3)
الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 88).
(4)
الموافقات، للشاطبي، (2/ 10 - 11).
الاضطرار، والافتقار، ونحوهما.
ومن الجهة الاصطلاحية فكلا المصطلحين يتعلقان بمعنى واحد، وهو المشقة، وكل منهما يستدعي التيسير والتخفيف.
ولأجل هذا بُنيت قواعد فقهية متعددة، ومتفرعة على القاعدة الكلية الكبرى:"المشقة تجلب التيسير" ومن ذلك:
- الضرورات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها.
- الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة.
وإذا كانا على هذا النحو من التقارب اللغوي، فهل هذا يصل إلى حدِّ التطابق الاصطلاحي؟
لو كان الأمر كذلك ما جاز التفريق بينهما بذكر قاعدتين منفصلتين، ولكان الأصوب أن يقال: الضرورات والحاجات تبيح المحظورات.
لكن الصواب أن الحاجة لا يمكن اعتبارها قائمةً مقامَ الضرورة اصطلاحًا، ومطابقةً لمعناها ومؤديةً لمقتضاها تمامَ المطابقة والاقتضاء.
والأصل أن الضرورات وحدها هي التي تبيح المحظورات، وأن هذا الحكم لا ينسحب على الحاجات، وقد قال الشافعي رحمه الله:"وليس يحل بالحاجة محرم إلَّا في الضرورات"(1).
وقال أيضًا: "الحاجة لا تحق لأحد أن يأخذ مال غيره"(2).
وإذا كان الأمر كذلك فإن المصالح الحاجية لا تبيح ما تبيحه المصالح الضرورية، وذلك مبني على أن المشقة الحاصلة في الثانية أفدح منها في الأولى، حتى يطلق على المصالح الضرورية أنها من باب درء المفاسد، كما يطلق على المصالح الحاجية أنها من باب جلب المصالح (3).
(1) الأم، للشافعي، (4/ 52).
(2)
الأم، للشافعي، (3/ 194).
(3)
منهج التشريع الإسلامي وحكمته، للشنقيطي، (ص 16 - 24)، حقيقة الضرورة الشرعية، د. الجيزاني، (ص 47 - 48).
وأكثر العلماء رأوا أن المصالح الحاجية لا يترتب عليها حكم (1).
قال الطوفي (2): "لا يجوز للمجتهد أنه كلما لاح له مصلحة تحسينية أو حاجية اعتبرها ورتب عليها الأحكام حتى يجد لاعتبارها شاهدًا من جنسها"(3).
وقال ابن قدامة: "فهذان الضربان (يعني: ما يقع في الحاجيات والتحسينيات) لا نعلم خلافًا في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل، فإنه لو جاز ذلك كان وضعًا للشرع بالرأي، ولما احتجنا إلى بعثة الرسل"(4).
وذلك "لأن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدًا بما هو جارٍ على أصولها، وليس تتبع الرخص، ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها"(5).
فالترخص بارتكاب الحرام القطعي وإباحته لا بد فيه من أعلى الرتب التي تبيح المخالفة للنص، وتحقق الاستثناء منه.
قال القرافي: "الفرق الحادي والثلاثون والمائة: بين قاعدة الانتقال من الحرمة إلى الإباحة، ويشترط فيها أعلى الرتب، وبين قاعدة الانتقال من الإباحة إلى الحرمة يكفي لها أيسر الأسباب"(6).
فالحاجة ليست من أعلى الرتب، بخلاف الضرورة التي تبيح ارتكاب النهي الذي
(1) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص 205).
(2)
أبو الربيع، نجم الدين، سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد، الصرصري ثم البغدادي الفقيه الأصولي، الطوفي الحنبلي المشارك في كثير من العلوم، من تصانيفه: الإكسير في قواعد التفسير، وشرح أربعين النووي، ومقدمة في علم الفرائض، ومختصر الروضة وشرحه، ولد سنة بضع وسبعين وسبعمائة من الهجرة، وتوفي سنة 716 هـ. الذيل على طبقات الحنابلة، لعبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، تحقيق: د. عبد الرحمن ابن سليمان العثيمين، مكتبة العبيكان، ط 1، 1425 هـ - 2005 م، (4/ 404)، المقصد الأرشد، لابن مفلح، (1/ 425).
(3)
شرح مختصر الروضة، للطوفي، (3/ 207).
(4)
روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 170).
(5)
الموافقات، للشاطبي، (4/ 145).
(6)
الفروق، للقرافي، (3/ 813).
يدل على الحرمة غالبًا، والتحريم على رتب أيضًا، فمنه ما يحرم تحريم المقاصد، ومنه ما يكون تحريم وسائل وذرائع، والأول أشدُّ من الثاني.
يقول القرافي: "موارد الأحكام على قسمين؛ مقاصد: وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد"(1).
وعليه: فإن النص الدال على التحريم لا يُعارَض إلَّا بالضرورة، ولا تقوى الحاجة -في الأصل- على معارضته، بل الحاجة لا تؤثِّر حيث يوجد نص بخلافها، ولا تعتبر عندئذٍ.
يقول ابن نجيم: "المشقة والحرج إنما يعتبران في موضعٍ لا نص فيه، وأما مع النص بخلافه فلا؛ ولذا قال أبو حنيفة ومحمد -رحمهما الله- بحرمة رعي حشيش الحرم المكي وقطعه إلَّا الإذخر"(2).
وعليه: فيمكن أن نرصد بين الضرورة والحاجة التي تنزل منزلة الضرورة الفروق التالية:
1 -
الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة ليس فيها مخالفة لنص معين غالبًا.
أما الضرورة فإنها من قبيل الأحكام الاستثنائية التي وردت على خلاف النص.
ولذلك فالحاجة -غالبًا- إنما تعتبر في موضع لا نص فيه بخلاف الضرورة، فإنها تعتبر ولا بد في موضع النص.
فالضرورة تُعْرَفُ بمعارضتها للنص ومخالفتها له، والحاجة تجري على وفق النص ولا تقوى على معارضته.
2 -
وقد انبنى على هذا الفرق أثر كبير؛ حيث إن الترخص لأجل الضرورة مشروط ومقيد بزمن محدد، وحالٍ معينة، وهي حال قيام العذر، كأكل الميتة لمن أشرف على الهلكة.
(1) المرجع السابق، (2/ 451).
(2)
الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 93).
أما الترخص لأجل الحاجة فإنه يأخذ صفة الدوام والاستمرار -غالبًا-، ويكون لكل أحد، وينتفع به المحتاج وغيره.
3 -
النصوص التي شرعت ما يتعلق بالضرورة من استثناء، ويرتبط بها من أحكام، نصوص واضحة محددة، تتعلق برفع حرج وشدة من نوع خاص، كآيات إباحة الميتة للمضطر، والنطق بكلمة الكفر للمكرَه، في حين أن النصوص التي شرعت ما يتعلق بالحاجة من أحكام تتعلق برفع الحرج بصفة عامة، فهي أعمُّ من نصوص الضرورة، وأقلُّ تحديدًا، كنصوص إباحة السَّلَم والإجارة ونحوها.
4 -
الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة في المعنى الفقهي تختص بارتكاب منهي ضعف دليله، وتدنَّت مرتبته في سُلَّم المنهيات، وهو ما يعرف بالمحرم لغيره، وما كان تحريمه من باب تحريم الوسائل لا المقاصد، وهو ما يعبر عنه بقولهم: ما فهي عنه سدًّا للذريعة.
بخلاف الضرورة فإنها تبيح ارتكاب المحرم لغيره، وتبيح ارتكاب المحرم لذاته، وهو ما نهي عنه وحرم تحريم المقاصد، ومن القواعد: ما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة (1).
ومعلوم أن ما حرم سدًّا للذريعة أخفُّ مما حرم تحريم المقاصد (2).
قال ابن القيم: "وما حرم سدًّا للذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة، كما أُبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أُبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أُبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب والمعامل من جملة النظر المحرم.
(1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 161)، زاد المعاد، لابن القيم، (3/ 488).
(2)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 159)، صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 228 - 229)، حقيقة الضرورة الشرعية، د. الجيزاني، (ص 54 - 56).
وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال حرم لسدِّ ذريعة التشبه بالنساء الملعون فاعله، وأُبيح منه ما تدعو إليه الحاجة" (1).
وعليه: فإن أهم الفروق الجوهرية بين الضرورة والحاجة تتبدى في جهات ثلاث، هي:
1 -
مرتبة المشقة: فهي في أعلى الرتب في حال الضرورة، ودون ذلك في حال الحاجة.
2 -
مرتبة النهي: فالنهي المرتَكَبُ في حال الضرورة هو ما كان من قبيل المقاصد والوسائل، وأمَّا في حال الحاجة فيقتصر على ما هو من قبيل الوسائل، أو ما نهي عنه سدًّا للذريعة.
3 -
مرتبة الدليل: فما ارتبط بالضرورة من أدلة كانت واضحة ومحددة، تتعلق برفع حرج من نوع خاص، وما ارتبط بالحاجة فكانت الأدلة أعم منها في حال الضرورة، وتعلقت برفع الحرج إجمالًا.
وبناءً على هذا فإن الحاجات لا تبيح ما كان النهي فيه قويًّا، أو من باب المقاصد، وهذا لا يجعل قولهم:"الحاجة تنزل منزلة الضرورة" مطَّردًا.
وعلاوةً على ذلك فإن الحاجة لا ترفع النص، ولا تُوقف العملَ به، كما في الضرورة، وغاية مجالها هو: تخصيص العموم عند من يراها، وبخاصة ما كان تناوله بالعموم ضعيفًا، وقد تُخالف قياسًا، أو تَستثني من قاعدة فقهية.
والحق أنها تخصص استنادًا للاستصلاح أو الاستحسان الذي يعتمد على الحاجة (2).
وبالجملة فإن ما ذكر من الحاجة التي تبيح المحرم إنما هي في حقيقتها توسع في معنى الضرورة وزيادة في نطاقها لا غير، حيث يشترط في تلك الحاجة المبيحة أن تكون موصوفة بقدر من المشقة الزائدة والشدة الظاهرة.
(1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 161).
(2)
صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 231 - 232).
وذلك بأن يعم البلاء بهذه الحاجة ويكثر، أو يجري عليها تعامل، أو يكون لها نظير في الشرع يمكن إلحاقها به، واشترط أيضًا أن تكون الحاجة مؤقتة غير دائمة؛ ذلك أن الحاجة منها ما يلتحق بالضرورة في كونها تقدر بقدرها، مثل: خروج المعتكف من المسجد لحاجته، ونظر الطبيب إلى عورة المريض إذا دعت حاجة إلى ذلك (1).
ولأجل هذا المعنى قسَّم بعضُ العلماء الحاجةَ إلى عادية: لا تبيح ارتكاب المحظور الشرعي، وضرورية وهي التي تنزل منزلة الضرورة في إباحة ارتكاب النهي (2).
ومن ثَمَّ قُسِّمت الحاجة الضرورية إلى نوعين: مؤقتة، ودائمة.
فالدائمة هي الحاجة العامة للمحتاج وغيره، مثل: إباحة السَّلَم، والإجارة، فهذا النوع لا يُقدَّر بقدره، وهذا ما قد يسميه بعض العلماء بالمعدول به عن القياس، أو المخالف للقياس، وليس ثمة إباحةٌ لمنهيٍّ أو ارتكابٌ للنهي.
وأما الحاجة المؤقتة فهي المقيدة بسبب خاص، وتعلقت بمحتاج دون غيره، كاطلاع الطبيب على عورة مريض، أو مداواة الرجل للنساء والعكس، وخروج المعتكف لحاجة، فهذا النوع ينزل منزلة الضرورة، وعليه فلا تزيد هذه الحاجة عن أن تكون توسيعًا لمعنى الضرورة الفقهية المبيحة للمحظور.
وتلخيصاً لما تقدم يمكن أن يقال: إن الضرورة والحاجة لها معنيان: أصولي، وفقهي، على النحو التالي:
فالضرورة في معناها الأصولي: كلي ينتظم الأحكام التي بها قوام الأديان والأبدان.
والضرورة في معناها الفقهي: شدة وضيق في المرتبة القصوى تبيح المحرم.
والحاجة في معناها الأصولي: كلي أَورث عدمُ اعتباره مشقةً وحرجًا للعامة، وأدَّى
(1) حقيقة الضرورة الشرعية، د. الجيزاني، (ص 51 - 52).
(2)
الحاجة الشرعية حدودها وقواعدها، لأحمد كافي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1424 هـ، (ص 51 - 52).