الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي كل الأحوال تكون الأحكام الشرعية الخمسة قد أَخرجت المكلَّفَ من دائرة هواه وشهواته ونزواته.
وإدراك هذه القاعدة وامتثالها ينبه إلى أمور ووسائل مهمة، منها:
1 -
كل عمل كان المتَّبَع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير فهو باطل بإطلاق.
2 -
اتباع الهوى طريق إلى المذموم، وإن جاء في ضمن المحمود؛ لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة، فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفًا.
3 -
اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على أغراضه، فتصير كالآلة المعَدَّة لاقتناص أغراضه، كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة سُلَّمًا لما في أيدي الناس (1).
تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات:
من المعلوم أن خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين لا يفرق بين مسلمٍ يعيش في الشرق وآخرَ في الغرب، ومعلوم أيضًا أن خصوصية المجتمع الذي تعيش فيه الأقلية المسلمة بعيدًا عن ديار الإسلام لا يصلح أن يحمل المسلمين في تلك الديار إلى حالةِ تَلَمُّسٍ للرخص وتفتيش عن الضرورات، وانتقاء للحاجيات؛ لئلَّا يتحول هذا إلى نوع من الترخيص السلبي الذي لا ينسجم مع كليات الشرع، وخصائص الأمة والرسالة.
وفي نفس الوقت تنبغي المحافظة على حياة هذه الأقليات المسلمة، ورعاية هويتها الإسلامية، وتعهد الأجيال المتعاقبة حتى لا تتعرض لحملات التذويب، وطمس الهوية، وتغييب الثقافة الإسلامية.
(1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 173 - 176).
والجمع بين المتطلبين السابقين يستلزم فقيهًا يوصف بفقه النفس، وبعد النظر، وسعة الصدر ورجاحة الفكر، وصدق الإيمان، ورسوخ التقوى.
وكل من الفقيه المفتي، والسائل المستفتي عليه أن يحسن قصده، ويضبط قوله بضوابط الشرع المطهر.
أما المفتي فيعلم أنه يمارس صفة مركبة تبدأ بالتشخيص والتكييف الفقهي للمسألة، وتمرُّ بتَلَمُّسِ الدليلِ، وعلاقاته بالواقع، ومن ثم تصدر الفتيا، ولا يتم إلا بعلم وعمل ودرية وتجربة ومشورة.
وليحذر المفتي والمستفتي من الوقوع تحت ضغط الواقع والمجتمع، أو التقديم بين يدي الله ورسوله بقول، أو رأي، وقد قال تعالى:{وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119].
والأصل هو وجوب التحاكم إلى الشرع المطهر داخل ديار الإسلام وخارجها، فإن الأحكام الشرعية تخاطب المسلم حيثما كان، وتحكيم الشريعة عند القدرة على ذلك أحد معاقد التفرقة بين الإيمان والنفاق (1).
وعليه، فلا يحل لمسلم أن يتحاكم إلى غير كتاب ربه، فإن فعل اختيارًا لم يكن من أهل الإسلام.
قال ابن حزم رحمه الله: "لا خلاف بين اثنين من المسلمين أن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأتِ بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام"(2).
وقال ابن تيمية رحمه الله: "والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدَّل الشرع المجمع عليه كان كافرًا باتفاق الفقهاء"(3).
ويرخص في اللجوء إلى القضاء الوضعي عندما يتعين سبيلًا لاستخلاص حقٍّ أو دفع مظلمة في بلد لا تحكمه الشريعة؛ لانعدام البديل الشرعي القادر على ذلك، سواء
(1) قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، كوبنهاجن، الدنمارك، 1425 هـ - 2000 هـ، (ص 21).
(2)
الإحكام، لابن حزم، (5/ 173)، بتصرف يسير.
(3)
مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (3/ 267).
أكان ذلك داخل بلاد الإسلام، أم كان خارجها، ويقيد ذلك بما يلي:
- تعذر استخلاص الحقوق، أو دفع المظالم عن طريق القضاء، أو التحكيم الشرعي لغيابه، أو العجز عن تنفيذ أحكامه.
- اللجوء إلى بعض حملة الشريعة لتحديد الحكم الشرعي الواجب التطبيق في موضوع النازلة، والاقتصار على المطالبة به، والسعي في تنفيذه؛ لأن ما زاد على ذلك ابتداءً أو انتهاءً خروجٌ على الحق، وحكمٌ بغير ما أنزل الله.
- كراهية القلب للتحاكم إلى القضاء الوضعي، وبقاء هذا الترخص في دائرة الضرورة والاستثناء.
دلَّ على ذلك قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]، وقوله:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145]، وقوله:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115]، كما يستفاد ذلك من القاعدة الفقهية:"الضرورات تبيح المحظورات"، ودلائلها المعروفة في كتب القواعد الفقهية.
كما يدل على ذلك أيضًا قصةُ لجوءِ الصحابة رضي الله عنهم للمثول أمام الحاكم النجاشي الكافر -يومئذٍ- مرتين بسبب مطالبة كفار قريش بهم، وللذود عن حقهم في إبطال مزاعم قريش الباطلة فيهم، ومن قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بشأن الرواية التي كتبها المدعو سلمان رشدي [القرار الثالث: يعلن المجلس أنه يجب ملاحقة هذا الشخص، بدعوى قضائية جزائية تقدم عليه، وعلى دار النشر التي نشرت له هذه الرواية، وفي المحاكم المختصة في بريطانيا، وأن تتولى رفع هذه الدعوى عليه منظمة المؤتمر الإسلامي التي تمثل الدول الإسلامية، وأن توكِّلَ لهذه الدعوى أقوى المحامين المتمرسين في القضايا الجنائية أمام محاكم الجزاء البريطانية] (1)، وواضح من القرار تجويزهم
(1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي، (ص 252).
التحاكم إلى المحاكم البريطانية في تلك النازلة.
وأما ما يدل على القيد الأول: تعذر استخلاص الحقوق أو دفع المظالم عن طريق القضاء الشرعي، فهو أنه إذا أمكن استخلاص الحق أو دفع المظلمة عن طريق القضاء الشرعي لم تكن هناك ضرورة تلجئ إلى التحاكم إلى القانون الوضعي الذي حكمه التحريم، كما تقدم لغير الضرورة.
وأما ما يدل على القيد الثاني: معرفة حكم الشرع في النازلة وعدم المطالبة بزيادة، فهو أن المطالبة بزيادة على حكم الشرع ظلم، والظلم حرام، دلَّ على ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع، فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44]، ومن أدلة السنة: الحديث القدسي: "إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا"(1)، ومن دلائل ذلك: أن المسلم يجب عليه في حالة سلوك الوسيلة المباحة، وهي التحاكم إلى الشرع، ألا يأخذ مال غيره، وإن حكم له به الحاكم الشرعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها، أو فليتركها"(2)؛ فمن باب أولى لا يبيح له حكم الحاكم غير الشرعي أن يظلم غيره.
ومن دلائل ذلك أيضًا: القاعدة الفقهية: "الضرورة تقدر بقدرها"، ودلائلها المعروفة، ولأن الضرورة أباحت سلوك وسيلة محرمة لاستخلاص الحق ودفع الظلم،
(1) أخرجه: مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، (2577)، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله سبحانه وتعالى أنه قال:"يا عبادي؛ إني حرمت الظلم. . ." فذكره.
(2)
أخرجه: البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب: إثم مَن خاصم في باطل وهو يعلمه، (2458)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، (1713)، من حديث زينب بنت أم سلمة عن أمها أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال. . . فذكره.