الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع القواعد المتعلقة بالمآلات
المطلب الأول: القواعد الأصولية والمقاصدية
القاعدة الأولى: النظير في المآلات معتبر مقصود شرعًا:
المعنى العام للقاعدة:
المآلات هي واحد المآل، وهو مصدر ميمي من آل الشيء يؤول أَوْلًا ومآلًا بمعنى: رجع، والموئل: المرجع وزنًا ومعنًى.
كما يأتي بمعنى الإصلاح والسياسة، من قولهم: آلَ المالَ، أي: أصلحه وساسه، وآل على القوم: أي: ولي عليهم (1).
واعتبار المآل من حيث معناه الإضافي بمعنى الاعتداد بالشيء وما يصير إليه.
أما المعنى الاصطلاحي لاعتبار المآلات وباعتبار هذا التركيب فله معنى لقبي خاص يضبط حقيقته، ويبين ماهيته، فإنه يدور حول تحقيق المناط في آحاد الصور بالنظر إلى مقاصد الشرع في تشريع الأحكام؛ فهو حكم على مقدمات التصرفات والأفعال بالنظر إلى نتائجها وما تفضي إليه.
وقد عبَّر عن هذا بعض الباحثين بقوله: "هو تحقيق مناط الحكم بالنظر في الاقتضاء التبعي الذي يكون عليه عند تنزيله من حيث حصول مقصده، والبناء على ما يستدعيه ذلك الاقتضاء"(2).
(1) لسان العرب، لابن منظور، (1/ 260)، القاموس المحيط، للفيروزآبادي، (3/ 320).
(2)
اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، عبد الرحمن السنوسي، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1424 هـ، (ص 19).
فهذا المبدأ يُعْنَى بمراعاة ما ينشأ عن تصرفات وأفعال المكلفين من آثار وأحوال لها دخل مباشر في تكوين مناط الحكم وتكييفه، ومن ثم إصدار الحكم على تلك الأفعال بحسب ما تنتهي إليه وتفضي من النتائج.
على أنه من المآلات ما يكون قطعيًّا في تحققه وحصوله، ومنها ما يكون ظنيًّا في تحققه، ولم يبلغ مبلغ القطع واليقين، ومنها ما يكون نادرًا، أو موهومًا.
ومحل النظر في المآلات إنما هو في الأفعال والتصرفات.
ولذا عبر عنها الشاطبي بقوله: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا"(1).
والأفعال هي كل ما يصدر عن المكلَّف، وتتعلق به قدرته من قول أو فعل أو اعتقاد أو نية (2).
فيشمل الفعل وهو أعم من الاعتقاد والقول، كما يشمل الواقع والمتوقع؛ لأنهم عبروا بالتعلق عما من شأنه أن يتعلق وإن لم يقع بعد، تسميةً للشيء باسم ما يؤول إليه (3).
ولا يشترط في هذه الأفعال أن تكون موافقة أو مخالفة، فهي عمومًا يُنْظَرُ في آثارها وما يترتب عليها من نتائجها مطلقًا.
وهذه القاعدة وثيقة التعلق بقواعد المقاصد، والتي من أهمها:"قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصده في التشريع"(4).
كما ترتبط بالقاعدة المقاصدية الأخرى: المقاصد معتبرة في التصرفات (5)، وهي قريبة من القاعدة الفقهية الكبرى: الأمور بمقاصدها (6).
(1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 194).
(2)
نهاية السول، للإسنوي، (1/ 56)، حاشية البناني على شرح المحلِّي، (1/ 49).
(3)
نهاية السول، للإسنوي، (1/ 53).
(4)
الموافقات، للشاطبي، (2/ 331).
(5)
المرجع السابق، (2/ 323).
(6)
الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 8).
والقاعدة مترتبة على مجموعة القواعد المتعلقة بالتعارض بين المصالح والمفاسد؛ وذلك لأن فعل المكلف قد يكون مشروعًا لمصلحة فيه تُسْتَجْلَبُ، أو مفسدة تُدرأ، ولكن بالنظر إلى مآله قد نجده على خلاف ما قُصِدَ فيه، فإذا أُطْلِقَ القول فيه بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي استجلاب المصلحة، أو تزيد عليها، مما قد يمنع إطلاق القول بالمشروعية.
وبالمثل إذا أُطْلِقَ القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية.
وعليه: فإن إهمال النظر إلى المآلات من حيث إفضاء الأفعال والتصرفات إلى نقيض المقصود الذي شُرِعَتْ له يُرتب أنواعًا من الخلل؛ إذ ربما أدى القول بعدم مشروعية الفعل إلى استدفاع مصلحة تربو على المفسدة التي مُنِعَ الفعلُ من أجلها.
وقد يؤدي القول بإطلاق مشروعية الفعل إلى جلب مفسدة أكبر من المصلحة التي شُرِعَ الفعل من أجلها، وهكذا تكون الآثار المترتبة على إهمال النظر إلى المآل على الضد والنقيض مما قصده الشارع وأراده، ونقيض مقصد الشارع باطل، فما يؤدي إليه مثله.
وبناءً على ذلك فإن المجتهد الناظر في هذه المسائل -لا سيما المستجدة والنازلة- عليه أن يراعي مآلات الأفعال، ونتائجها بما يتفق مع مقصد الشارع من تشريع تلك الأفعال والتصرفات، فإذا كان الفعل في مآله لا يتفق مع مقصد الشارع منعه المجتهد ابتداءً قبل وقوعه؛ لأن "الدفع أسهل من الرفع"(1).
وهذه القاعدة تتطلب من المجتهد أن يكون دقيقَ النظر عميقَ البحث، وقد علَّق الشاطبي على أهمية الدربة على هذا المعنى، فقال: "وهو مجال للمجتهد صعبُ المورد،
(1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 138).