الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحياة -كل ذلك من ثمرات التقوى التي بها يسعد الإنسان في الدنيا، وحصول النجاة، ودخول الجنات، ومجاورة الأنبياء، ورؤية وجه رب الأرض والسموات- كل ذلك من ثمرات التقوى التي بها يسعد الإنسان في الآخرة.
تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات:
كما تقدم فإن تطبيق هذه القاعدة في حياة الناس كافة، سواء أكانوا في ديار الإسلام أم خارجها -من شأنه أن يقيم الحياة ويحفظها، ويرعى ضروراتها، ويضبط مسيرتها.
وانطلاقًا مما تشهده تلك الديار من تطور مذهل وتقدم هائل في كافة المجالات، بل اعتدادًا بما يغشى عالم السياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية في تلك الديار من تغيرات حثيثة، وتنظيمات متلاحقة، وتطورات متعاقبة؛ لذلك فإن توجيه مسائل الأقليات وتسديدها بتعاليم الدين ينبغي أن يقوم على اعتصام رشيد بالأصول الكلية، والقواعد العامة، والمقاصد الشرعية (1).
وإذا تحقق أن الشريعة تحفظ مقاصدها في الخلق بإقامة المصالح، ودفع المفاسد في كل زمان ومكان، فلا بد إذن من إعمال هذه القاعدة في حياة الأقليات، وهذا الإعمال يحتاج إلى استيعاب ما كتبه الأقدمون في المقاصد والمصالح، وتفهُّم ما قيده المعاصرون، ورتبوه وطبقوه على قواعد الأقدمين.
وفي أمثال ما كتبه القفال الكبير في محاسن الشريعة، والباقلاني في الأحكام والعلل، وما كتبه الجويني في البرهان، والغياثي، والغزالي في شفاء العليل، والعز ابن عبد السلام في قواعد الأحكام، والقرافي في الفروق، وابن تيمية في كثير من مصنفاته، وابن القيم في إعلام الموقعين، والطرق الحكمية، وبدائع الفوائد، والشاطبي في الموافقات،
(1) نحو منهجية رشيدة للتعامل مع مسائل الأقليات المسلمة، د. قطب سانو، (ص 4).
والاعتصام، وابن عاشور في مقاصد الشريعة، وعلال الفاسي في المقاصد الشرعية، ويوسف حامد العالم، ومحمد البلتاجي وغيرهم من المعاصرين -في ذلك كله ثروة فقهية أصولية عظمى لمن كملت آلته واستعدت قريحته للتصدي لحفظ حياة الأقليات، ورعاية المقاصد الشرعية في ظروفهم العادية والاستثنائية، على حدٍّ سواء، وبما لا يفضي إلى تعطيل النصوص الشرعية الجزئية، أو إهمالها، مع ما قد يقع من تجاذب، أو تنازع بين المصالح والمقاصد والنصوص.
يقول العلامة ابن بيه:
عُقُودُ الْمُسْلِمِيْنَ بِدَارِ غَربٍ
…
تَجَاذَبُهَا الْمَقَاصِدُ وَالْفُرُوْعُ
وَمِيْزانُ الْفَقِيْهِ يَجُوْرُ طَوْرًا
…
إِلَى طَرَفٍ فَيُفْرِطُ أَوْ يَضِيْعُ
فَفِي الْجُزْئِيِّ ضِيْقٌ وَانْحِسَارٌ
…
وَفِي الْكُلِّيِّ مُنْفَسَحٌ وَسِيْعٌ
وَنُوْرُ الْحَقِّ مَصْلَحَةٌ تُوَازَى
…
بِجُزْئِيِّ النُّصُوْصِ لَهُ سُطُوْعُ
والمتصدرون لمثل هذه المسائل الشائكة في بلاد الأقليات المسلمة حين يعملون هذه القاعدة وغيرها قد يخرجون بأحكام أو بفتاوي قد تستنكر في بادي الرأي، لكنها قد تثبت عند المناقشة والموازنة والترجيح، كما انتهى إليه نظر عمر رضي الله عنه في إيقاف سهم المؤلفة قلوبهم، وقطع يد السارق، ومنع الزواج بالكتابية، والإلزام بالطلقات الثلاث، والزيادة في حد الشرب إلى ثمانين. . . وغير ذلك من التصرفات العمرية التي تعتبر اجتهادًا مقاصديًّا مع أنه رضي الله عنه هو الذي أعمل النص الجزئي عند تقبيل الحجر الأسود، والاضطباع، والرَّمَل. . . وغير ذلك.
ومن قبل اجتهد مقاصديًّا بعض الصحابة فراعوا المقاصد فصلوا العصر في الطريق إلى بني قريظة، واجتهد غيرهم فلم يصلها إلا بعد العشاء في بني قريظة، فكان الأولون
مع المقصد والمعنى، وكان الآخرون مع النص والمبنى، ولم يكن أحد الفريقين ينقصه
الهدى أو التقى، ولكنه الاجتهاد البشري الذي قد يراعي جانبًا أكثر من جانب،
والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خطَّأ أحد الفريقين، ولا ثرَّب على أحد من المجتهدين.
وينبغي لمن يتصدى لبحث مسائل الأقليات أن ينظر إلى اجتهادات النبي صلى الله عليه وسلم المكية
زمن القلة والضعف، كما قال الله تعالى:{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} [الأنفال: 26]، وكيف اعتمد صلى الله عليه وسلم سياسة الصبر والكف، ولم
يستجب لاستفزاز أو استعداء خارجي، كما قال له -تعالى شأنه-:{وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]؛ وذلك لحفظ شأن هذه الأقلية، ورعاية أمر هذه الدعوة الإسلامية، فلما قويت الشوكة وبُنيت الدولة كانت الاجتهادات على وفق ذلك، فلئن صبر النبي صلى الله عليه وسلم وكفَّ هو وأصحابه أيديهم لما قُتلت سمية وياسر رضي الله عنهما في مكة تحت التعذيب، فإنه لم يصبر على مجرَّد كشف عورة مسلمة في سوق بني قينقاع، فجرَّد لذلك الأمرِ حربًا على يهود، حتى أجلى بني قينقاع عن المدينة.
وهو أمرٌ يؤكد على رعاية الأولويات في فقه الأقليات، والنظر إلى المقاصد والمصالح والمآلات (1).
وإعمال تلك القواعد والأصول الحاكمة يكون باعتمادها إطارًا لمعالجة الوقائع والنوازل التي يحتاج في معالجتها إلى ورع دقيق، وفقه عميق، وفطنة وملكة صحيحة.
ونوازل الأقليات المسلمة وما تواجَهُ به من تأصيل لأحكامها وتقعيد لمسائلها ينبغي أن يُراعَى فيه الفروق بين الضرورة الفردية، والضرورة الجماعية العامة، فالأولى مؤقتة، والثانية دائمة.
والأولى قد تَتحقق بسهولة، ويُتَعَرَّفُ على وجودها بيسر، والثانية لا تتحقق إلا بعد
(1) الضوابط المنهجية لفقه الأقليات المسلمة، د. صلاح سلطان، (ص 33 - 36).
طول نظر، وفحص وبحث.
ولهذا رأينا الشارع الحكيم يراعي ضرورة المضطر إلى الميتة فيبيح له الأكل منها، ثم يراعي الحاجة العامة فيبيح -مثلًا- بيعَ السَّلَم والعرايا. . . ونحو ذلك، والأكل من الميتة أمرٌ شخصي مؤقت، والتعامل في السَّلَم أمرٌ عام في المجتمع ودائم.
فالشارع الحكيم له قصد في أن تتعدى إباحة الفعل إلى غير محتاج إليه؛ لما له من الأثر النافع للعموم، كما هو في سائر الرخص في المعاملات؛ لما يترتب عليه من رواج الأسواق وتحصيل الأقوات، وتوفير الأعمال والأشغال.
ومن الخطأ البين: الخلطُ بين الحاجات، والضرورات لدى الأفراد والمجتمعات، ومن المعلوم أن الحاجة في حق الكافة تنزل منزلة الضرورة في حق الفرد، يقول الجويني -وهو يتناول موضوع الكسب الحرام فيما لو عمَّ الزمانَ وأهلَه، فلم يوجد إلى طلب الحلال سبيل-:
"فلهم أن يأخذوا منه -أي: الحرام- قدر الحاجة، ولا يشترط الضرورة التي ترعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد الناس، بل الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر، فإن الواحد المضطر لو صَابَرَ ضرورتَهُ ولم يتعاطَ الميتة لهلك، ولو صابر الناس حاجاتهم وتعدوها إلى الضرورة لهلك الناس قاطبةً، ففي تعدي الكافة الحاجة من خوف الهلاك ما في تعدي الضرورة في حق الآحاد"(1)؛ إذ لا يراعى فيما يعمُّ الكافة الضرورة، بل يُكْتَفَى بحاجة ظاهرة.
كما تنبغي مراعاة الفروق بين أحكام يعود تفويتها بالضرر على المجتمع في مجمله، وبين الأحكام التي يعود تفويتها بالضرر على شخص المسلم في خاصة نفسه، ودينه
(1) غياث الأمم، للجويني، (ص 345).
ومروءته؛ فإنه يُسْتَخَفُّ في الأولى، ما لا يُسْتَخَفُّ في الثانية.
والنوع الأول هو لحفظ مصالحَ جماعيةٍ تتحقق بامتثال الأمة في مجملها، والثاني لحفظ مصالحَ تتعلق بامتثال آحاد الناس.
ومثال الأول: النهي عن بيع الطعام قبل قبضه على تعليل الرهون لذلك برواج السلع في الأسواق.
ومثال الثاني: وجوب الصلاة، والزكاة، والصوم، وسائر العبادات، والنهي عن السرقة، والغش، وسائر المحرمات، التي تناقض ما يلزم للنفس من التزكية، والاستقامة.
وكلا النوعين مطلوب امتثالًا؛ لكن النظام العام للمجتمعات الأوروبية رُسمت قوانينه على نظر آخر للصلاح والفساد؛ ولذلك فتفويت المسلم للنوع الأول في هذه المجتمعات، هو أقلُّ ضررًا من تفويت النوع الثاني؛ ولذلك ينبغي أن تكون درجات المصالح بإزاء الترخص متفاوتة (1).
"ومما يُسهم في ترشيد فقه الأقليات: التركيزُ على الأقلية باعتبارهم جماعةً متميزةً، لها هويتها وأهدافها ومشخصاتها، ولا يمكنها أن يُتغافل عنها، وينبغي لأهل الفقه أن ينظروا إلى هذا الكيان الجماعي، وما يتطلبه من مقومات، وما له من ضرورات وحاجات، وكيف تستطيع الجماعة أن تعيش بإسلامها في مجتمع غير مسلم، قويةً متماسكةً، مؤمنةً بالتنوع في إطار الوحدة.
وقد لاحظتُ أن أهل الفقه -عادةً- حينما يتحدثون عن الضرورات التي تبيح المحظورات، وعن الحاجة التي قد تُنَزَّل منزلةَ الضرورة، إنما يُركزون على ضرورة الفرد المسلم وحاجته، غيرَ معنيين كثيرًا بضرورات الجماعة المسلمة وحاجاتها.
وأعتقد أن من المهم واللازم للفقيه -لتكون فتواه عن بينة- أن يهتم بالجماعة وضروراتها وحاجاتها المادية والمعنوية، الآنية والمستقبلة، وألا يُغْفِلَ تأثيرَ هذه
(1) منطلقات لفقه الأقليات، أ. العربي البشري، (ص 241).
الضرورات والحاجات في سَيْرِ الجماعة وقوتها الاقتصادية، وتماسكها الاجتماعي، وسلوكها الأخلاقي، وتقدمها العلمي والثقافي، وقبل ذلك: هويتها الإيمانية.
لقد عُني القرآن والسنة بالجماعة؛ ولهذا كان الخطاب القرآني بأحكام الله تعالى خطابًا للجماعة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، سواء تعلَّق التكليف بالتعبد:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، أم تعلَّق بالمعاملات:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، أم تعلَّق بشئون الأسرة:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، أم تعلَّق بالعقوبات والتشريع الجنائي:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178].
بل يخاطب القرآن الجماعة أو الأمة كلها بما ينفذه الولاة والأمراء، مثل: إبرام المعاهدات مع الأعداء، ومثل: إقامة الحدود على الجناة، كقوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 4].
وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38].
وهذه النصوص وغيرها تؤكد أهمية الجماعة، ومسئوليتها التضامنية في إقامة شرع الله، وتطبيق أحكامه في الأرض.
والأحاديث النبوية تؤيد هذا الاتجاه وتقويه، كقوله صلى الله عليه وسلم:"يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار"(1).
(1) أخرجه: الترمذي، كتاب الفتن، باب: لزوم الجماعة، (2167)، والحاكم في "مستدركه"(1/ 115، 116)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ولأوله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وغيره.
والفقه الإسلامي يبارك هذه النزعة الجماعية بأحكام كثيرة، بعضها يتعلق بالجانب الاجتماعي، وبعضها يتعلق بالجانب الاقتصادي، وبعضها بالجانب السياسي.
وحسبنا أنه يُقدم حق الجماعة على حقوق الأفراد الخاصة، فعندما يغزو العدو أرضًا، تنفر الجماعة كلها للمقاومة، فيخرج الابن بغير إذن أبويه، وتخرج المرأة بغير إذن زوجها، والمرءوس بغير إذن رئيسه؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا حق لفرد أمام حرمات الأمة.
ويذكر الإمام الغزالي هنا مسألة (التترس) وهو أن يَتَّخِذَ العدوُّ المحاربُ بعضَ المسلمين تروسًا بشرية يَحتمي بهم، ويضعهم في مواجهة الخطر، ويجيز الإمام الغزالي وغيرُهُ من الفقهاء التضحيةَ بهؤلاء المُتَتَرَّسِ بهم، إذا كان في الإبقاء عليهم خطرٌ على الجماعة كلِّها؛ لأنَّ الإبقاء على الكل أهم من الإبقاء على الجزء.
ومن ثَمَّ كان لا بد للفقه المطلوب هنا: أن يراعي مصالح الجماعة المسلمة، ولا يجعل كلَّ همه الاقتصارَ على حفظ مصالح الأفراد، فالفرد قليل بنفسه كثير بجماعته.
ومن حقِّ الجماعة المسلمة في ديار الغرب ونحوها: أن تكون جماعة قوية متعلمة متماسكة قادرة على أن تؤدي دورها، وتتمسك بدينها، وتحافظ على هويتها، وتُنَشِّئَ أبناءَها وبناتها تنشئةً إسلامية حقَّةً، وتبلغ رسالتها من حولها بلسان عصرها" (1).
ومما يلتحق برعاية الضرورات والحاجات في بلاد الأقليات المسلمة: الاعترافُ بحالات استثنائية، وظروف طارئة وبلوى عامة، والتعامل مع كلٍّ بما يناسبه، فيحقق المصلحة ويدرأ المفسدة.
فإذا خلت تلك الديار عن ولاية شرعية تُرَدُّ إليها المنازعاتُ، وتفصل في الخصومات، ولم يوجد من تتحقق أهليته الشرعية لذلك، فلا حرج أن يُعتبر الأمثل
(1) في فقه الأقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، (ص 46 - 48).
فالأمثل من أهل تلك الديار، أو المقيمين بها.
وقد قال ابن القيم رحمه الله: "إذا لم يجد السلطان من يوليه إلَّا قاضيًا عاريًا عن شروط القضاء، لم يعطل البلد عن قاضٍ، وولَّى الأمثلَ فالأمثلَ.
ونظيرها لو غلب الحرامُ المحض أو الشبهة حتى لم يجد الحلالَ المحض فإنه يتناول الأمثلَ فالأمثلَ.
ونظيرُ هذا لو كان الفسق هو الغالب على أهل تلك البلد، وإن لم تقبل شهادة بعضهم على بعض وشهادته له لتعطلت الحقوق وضاعت، قُبِلَ شهادةُ الأمثلِ فالأمثلِ.
ونظيرُ هذا لو شهد بعض النساء على بعض بحق في بدن أو عرض، أو مال، وهن منفردات، بحيث لا رجلَ معهن، كالحمَّامات، والأعراس، قبلت شهادةُ الأمثلِ منهن" (1).
"ولا يضع الله ورسوله حقَّ المظلوم، ويعطل إقامة دينه في مثل هذه الصور أبدًا، بل نبه الله على قبول شهادة الكفار على المسلمين في السفر في الوصية في آخر سورة نزلت ولم ينسخها شيء ألبتة، ولا نسخ هذا الحكم كتاب ولا سنة، ولا اجتمعت الأمة على خلافه، ولا يليق بالشريعة سواه، فإن الشريعة شُرِعَتْ لتحصيل مصالح العباد بحسب الإمكان، وأي مصلحة لهم في تعطيل حقوقهم إذا لم يحضر أثناء تلك العقود شاهدان حُرَّان ذكران عدلان؟ بل إذا قلتم: نقبل شهادة النساء حيث لا رجلَ، وينفذ حكم الفاسق إذا خلا الزمان عن قاضٍ عادل عالم، فكيف لا تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعضهم إذا خلا جمعهم عن مسلم"(2).
(1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 197).
(2)
الفواكه العديدة في المسائل المفيدة، لأحمد بن محمد بن منقور، تحقيق: زهير الشاويش، شركة الطباعة العربية السعودية، ط 5، 1407 هـ - 1987 م، (2/ 182 - 183)، مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 1، 1411 هـ - 1991 م، (ص 123 - 125)، في فقه الأقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، (ص 55 - 56).
وأخيرًا فإن التأكيد على رعاية هذه المصالح يجب أن يكون بميزان الحق، لا الهوى، والعدل، لا الجور، فمن المصالح ما هو غير معتبر، فلا يصلح إذن أن يُنادَى في غرب ولا شرق ولا في أقلية ولا أكثرية بمساواة الأنثى للذكر مثلًا في الإرث؛ نظرًا لتساويهم في الأخوة؛ وذلك لقوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11].
كما لا يصلح لمسلمة أن تنزع حجابها في دار غير المسلمين؛ لتعمل في وظيفة، أو تتلقى تعليمًا، فضلًا عن أن تفعل هذا مسايرةً أو تقليدًا، والله تعالى يقول:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31].
ولا يحلُّ لمسلم أن يُنشئ مصنعًا لبيع الخمور، أو أن يفتح محلًّا للتجارة فيها، لا في ديار المسلمين؛ بحجة تشجيع السياحة، وتنمية الاقتصاد، وزيادة الدخل القومي، ولا في ديار غير المسلمين؛ بحجة الحاجة، أو ضيق ذات اليد، والله تعالى يقول:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90].
ولا يحلُّ لمسلم أن يعمل ببلاد الغرب، أو الشرق في بيع أوراق اليانصيب (القمار)، ولا الخنزير، ولو تَوَهَّمَ أن في ذلك مصلحةً.
إن المصلحة راجعة إلى خطاب الشارع الحكيم، والفرق واضح بين المصلحة القائمة على أوامر الشرع المطهر، والمتوهمة الراجعة إلى داعية الهوى والتشهي، قال تعالى:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].