الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والوقوف عند الجزئيات يؤدي -أحيانًا- إلى التشديد على الناس في أمور قد سهل الشرع فيها، والتضييق على الناس فيما له مخرج شرعي صحيح، وكذلك الوقوف في وجه مستحدثات العصر بالممانعة والمعارضة دون مبرر شرعي.
يقول سفيان الثوري: "إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد"(1).
وبالجملة فإنه يتعين عند التعامل مع الأدلة النصية أن يكون على منهج الطريقة السلفية الأثرية في تلقي النصوص والاستدلال بها، وأن تتجنب الطريقة المخالفة والزائغة عن الحق، وعن هذا عبر الشاطبي رحمه الله فقال: "إن أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين: أحدهما: (وهي طريقة السلف) أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار، واقتباس ما تضمنه من الحكم، ليعرض عليه النازلة المفروضة، لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم: أما قبل وقوعها فبأن توقع على وفقه، وأما بعد وقوعها فليتلافى الأمر، ويستدرك الخطأ الواقع فيها، بحيث يغلب على الظن أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة.
والثاني: (وهي طريقة الزائغين) أن يؤخذ الدليل مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة، بأن يظهر بادي الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل، من غير تحرٍّ لقصد الشارع، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكام من الأدلة" (2).
ثانيًا: العلم بالحال الواقعي:
من المقرر عند أهل العلم أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فإن الأحكام الصحيحة لا تكون في الغالب إلا بعد دراسة ممحصة للمسألة المعروضة لدى المفتي،
(1) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (1/ 784).
(2)
الموافقات، للشاطبي، (3/ 77 - 78)، بتصرف يسير.
فينبغي عليه التريث والأناة، وألا يتسرع فيصدر الحكم في مسائل لم تكن قد اختمرت بعد في ذهنه، وهذا من المزالق الخطيرة التي تزل بسببها أقدام كثير من المفتين.
فمن واجبات المفتي: أن يتعرف الواقع الذي يحيط به، والمجتمع الذي يعيش فيه، ويتعرف على الأمور المستحدثة والعادات والمعاملات المنتشرة في بلده.
فالإحاطة بهذه الأمور كلها تضيء الطريق لدى المفتي فيجتهد في المسألة ليستنبط لها حكمًا شرعيًّا بعد الدراية الكاملة بملابسات الواقعة والتصور الكامل لها، فمثلًا الاجتهاد للحكم على المعاملات الربوية المستجدة يستلزم الدراسة الكاملة للمعاملات قانونيًّا واجتماعيًّا، وصفة المعاملة وكل ما يتعلق بها عَرَضًا وجوهرًا حتى يمكن استنباط الحكم الشرعي السليم لها (1).
وقد تقدم أن الفُتيا تتغير بتغير الزمان والمكان إذا كان الحكم مبنيًّا على عرف البلد ثم تغير العرف إلى عرف جديد لا يخالف النصوص الشرعية، كألفاظ العقود والطلاق واليمين ونحوها.
وكذلك فإن المنكر إذا ترتب على إنكاره منكر أشد حرم الإنكار، بل يترك بعض المستحبات والاختيار لمصلحة أعلى كتأليف القلوب، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وعلى هذا الأساس قَعَّدَ العلماء رَحِمَهُمَا اللهُ قاعدة "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان"(2).
قال الحصكفي (3): "فإن قلت: قد يحكون أقوالًا بلا ترجيح وقد يختلفون في الصحيح، قلت: يعمل بمثل ما عملوا من اعتبار تغير العرف وأحوال الناس وما هو
(1) الضوابط الشرعية للإفتاء، د. عبد الحي عزب، (ص 71، 72).
(2)
شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص 227)، الوجيز، د. البورنو، (ص 253).
(3)
علاء الدين، محمد بن علي بن محمد، الحصني، الحصكفي، مفتي الحنفية في دمشق، فقيه، أصولي، محدث، مفسر، نحوي، من مصنفاته: تعليقة على صحيح البخاري، وخزائن الأسرار وبدائع الأفكار في شرح تنوير الأبصار. توفي سنة 1088 هـ. الأعلام، للزركلي، (6/ 294)، ومعجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (11/ 56).
الأوفق وما ظهر عليه التعامل وما قوي وجهه" (1).
ولهذه القاعدة أمثلة متعددة في كتب الفقهاء تدل على أنهم راعوا هذا الأصل وطبقوه عمليًّا في أبحاثهم وتقريراتهم وفتاويهم (2).
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في فصل: تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد:
"هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى مراتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ومصالح كلها، وحكمةٌ كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن دخلت فيها بالتأويل"(3).
فعلى المفتي مراعاة هذا الأصل وضبطه فرب فتوى تصلح لعصر دون عصر، ومصر دون مصر، وشخص دون شخص، بل قد تصلح لشخص في حال ولا تصلح له في حال أخرى.
وكلما كان الإنسان أعلم بالشريعة وأصولها وقواعدها، وأعظم ممارسة وأوسع اطلاعًا وأخشى لله وأعلم به كان اجتهاده أضبط ونظره أصوب، وكلما كان مقصرًا أو قاصرًا أخطأ وضل وأضل.
(1) الدر المختار، للحصكفي، (1/ 181)، مطبوع مع حاشية ابن عابدين.
(2)
شرح فتح القدير، لابن الهمام، (2/ 220، 209)، مجموعة رسائل ابن عابدين:(2/ 123)، شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص 227 - 229)، بحث "تغير الفتوى وضوابطه وتطبيقاته"، د. عبد الله الغطيمل، (ص 22 - 60)، من مجلة البحوث الففهية المعاصرة، العدد 35، 1418 هـ.
(3)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 3).
وكذلك كلما كان النظر جماعيًّا وتمهل الإنسان وتأنى وتثبت واستشار أهل الخبرة والاختصاص والنظر الصحيح؛ كان أوفق للحق، فإن يد الله مع الجماعة وما كان أكثر فهو أحب إلى الله {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83] (1).
بل إن أهل الفُتيا المحققين ليعلمون أنه قد لا يصلح الناس إلا الإفتاء بالقول المرجوح، فهو وإن كان مرجوحًا لكنه رجحان نسبي، فقد يختاره المفتي الرباني ويرجحه لمدرك من المدارك، وهذا لا يصلح أن يخضع للهوى والتشهي، بل يخضع لشرع الله ومراعاة المصالح العامة وجمع كلمة الناس، ونحو ذلك، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، والحاصل: أن من مارس الفُتيا ونوَّر الله بصيرته وتضلع من النصوص وكلام الأئمة وكان ناصحًا للناس خائفًا من ربه تعالى وُفق لمراعاة هذا الضابط على الوجه الصحيح؛ إذ المعروف أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله (2).
فلكل زمان حكم والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم (3).
غير أنه لا يصح أن يطلق العنان في ذلك للمفسدين والمبطلين ومتبعي الهوى ليخالفوا النصوص والقواعد بحجة مراعاة العرف والزمان والمكان، أو ليتأولوا تأويلًا باطلًا متعسفًا، أو ليطوعوا الشريعة لواقع غير إسلامي بدعوى فهم الواقع ومراعاة العرف وتغير الزمان والمكان، بل لا يقوم بهذا إلا العالم الرباني الذي امتلأ قلبه بخشية الله، واتبع رسول
(1) تغير الفتوى د. محمد عمر بازمول، دار الهجرة، الثقبة، ط 1، 1415 هـ، (ص 56)، بحث "تغير الفُتيا" د. الغطيمل، (ص 21 - 22)، من مجلة البحوث الفقهية، العدد 35، بحث "فقه الواقع: دراسة أصولية فقهية" د. حسين الترتوري، (ص 71: 114)، من مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 34، عام 1418 هـ.
(2)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 205).
(3)
المرجع السابق، (4/ 220).
الله صلى الله عليه وسلم، وتضلع من علوم الشريعة، واستعان بالله تعالى وتوكل عليه. وكذلك من أسباب الخطأ الذي يقع فيه كثير من المجتهدين: مجاراة الظروف الواقعة صحيحها وفاسدها وقبولها والإفتاء بصحتها وشرعيتها، وإن خالفت في معظم الأحوال الحكم الشرعي تأثرًا بشدة سطوة الواقع، ويأسًا من محاولة تغييره لصعوبته، وأن ينسى المفتي وظيفة الشرع الحكيم الذي جاء لإصلاح ما فسد من الأحوال والعادات، وأن الواجب تطويع الواقع للنصوص، لا تطويع النصوص للواقع؛ لأن النصوص هي الميزان المعصوم الذي يجب أن يحتكم إليه ويعتمد عليه، أما الواقع فإنه يتغير من حسن إلى سيء ومن سيء إلى أسوأ، أو بالعكس، فلا ثبات له ولا عصمة؛ ولهذا يجب أن يرد المتغير إلى الثابت، ويرد غير المعصوم إلى المعصوم، ويرد الموزون إلى الميزان.
قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59](1).
وقريب من هذا المعنى تقليد غير المسلمين، وهذا من آثار الهزيمة النفسية التي يعاني منها بعض المتصدرين للفتوى والمفتونين بزخرف الحضارة الغربية والذين يريدون أن تذوب الشخصية الإسلامية في هذه الحضارة المادية.
يقول فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي: "إن نفرًا من قومنا يعانون ما يسمونه (عقدة النقص) تجاه الغرب وحضارته وفكره، ويعتبرون الغرب إمامًا يجب أن يتبع ومثالًا يجب أن يحتذى، وما كان من أفكارنا وقيمنا وتقاليدنا ونظمنا مخالفًا للغرب اعتبروا ذلك عيبًا في حضارتنا، ونقصًا في شريعتنا، ما عليه الغرب إذًا هو الصواب، وما يخالفه هو الخطأ! "(2).
(1) الإفتاء عند الأصوليين، د. محمد أكرم، (ص 237).
(2)
الفتوى بين الانضباط والتسيب، د. القرضاوي، (ص 84).