الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخمر (1)، كما أن عقوبة التغريب أو النفي لم تكن حدًّا (2).
فقد نظر الصحابة إلى المقصد من الحد والتعزير، وهو زجر الناس عن محارم الله، فداروا مع ما يحقق مقصد الحكم مع تغير الزمان والأحوال، ولم يجمدوا على ما كان الناس عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان مجرد الإتيان بشارب الخمر وإحضاره أمام ملأ الصحابة كافيًا في ردعه وزجره، لكن لما استهان الناس بالعقوبة تغير الحكم تحقيقًا للمقصد منه.
النوع الخامس: تبدل الفتيا وتغيرها تغليظًا وتخفيفًا:
فقد ينقلب المباح مكروهًا أو الحرام مباحًا، أو الحلال مكروهًا، وهكذا بحسب أحوال المكلفين وما يحتفُّ بهم من ظروف وأحوال وقرائن وملابسات، ومن هذا ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فخلا بها، فقال:"والله إنكم لأحبُّ الناس إليَّ"(3).
فقد يتوهم بعض المسلمين أن هذا الحكم عام في سائر المكلفين، فيجوز لكل أحد أن يخلو بالمرأة عند الناس لمسارَّتها بما يشاء وإن طال الوقت، بدعوى أن امرأة أقبلت على النبي صلى الله عليه وسلم فكلَّمها في منأى عن الصحابة بحيث لم يسمع أحد منهم كلامهما، وأن الحديث مخرج عند البخاري (4)، وأنه ترجم له بقوله: "باب ما يجوز أن يخلو الرجل
(1) السنن الكبرى، للنسائي، (5166).
(2)
المبسوط، لشمس الدين محمد بن أبي سهل السرخسي، دار المعرفة، بيروت، 1409 هـ - 1989 م، (9/ 44)، ضوابط المصلحة، للبوطي، (ص 179 - 180).
(3)
أخرجه: البخاري، كتاب النكاح، باب: باب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس، (5234)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب: من فضائل الأنصار رضي الله عنهم، (2509).
(4)
أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه، البخاري، روى عن مكي بن إبراهيم، وعبدان بن عثمان، وعلي بن الحسن بن شقيق، والفريابي وابن أبي أويس، وروى عنه خلق كثير، منهم: أبو عيسى الترمذي، وأبو حاتم، وإبراهيم بن إسحاق الحربي، من مصنفاته: الصحيح، والأدب المفرد، وخلق أفعال العباد، ولد سنة 194 هـ، وتوفي سنة 256 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (7/ 191)، =
بالمرأة عند الناس" (1). ويذهل عن المخرج وقرائن الأحوال في الزمان والمكان، وقد يسوِّغ هذا لنفسه ويفتن الناس به فتقع الكوارث والطامَّات.
فإنه في زمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وجود الناس وحضور رقابة المجتمع مانعة حقيقة من حصول الخلوة أو حدوث ما حرَّم الله؛ لأنهم كانوا حقًّا في مجتمع الطهارة الذي تعد فيه النظرة النشاز والكلام الزائد عن الحاجة قادحًا في المروءة والدين، أما في مجتمعات المسلمين اليوم والتي أصبح وجود الناس فيها وحضور رقابتهم وعدمها سواء فإن الفتيا والعمل بمثل هذا جرأة لا تحمد، مع الاختلاف الظاهر في الزمان والقرائن والأحوال.
وقد علَّق الحافظ ابن حجر على الحديث بقوله: "قال المهلِّب: لم يُرد أنس أنه خلا بها بحيث غاب عن أبصار من كان معه، وإنما خلا بها بحيث لا يسمع من حضر شكواها، ولا ما دار بينهما من الكلام؛ ولهذا سمع أنس آخر الكلام فنقله، ولم ينقل ما دار بينهما. . . وفيه أن مفاوضة المرأة الأجنبية سرًّا لا يقدح في الدين عند أمْنِ الفتنة، ولكن الأمر كما قالت عائشة: وأيكم يملك إربه كما كان صلى الله عليه وسلم يملك إربه"(2).
فهذا مما تتغير فيه الفتيا حسب القرائن والأحوال، فيقيد بشرط أمْنِ الفتنة فإن تحقق المناط فبها، وإلا فلا.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التقاط ضالة الإبل بقوله: "وما لك
= وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (12/ 391).
(1)
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، 1379 هـ، (9/ 333):"وأخذ المصنف قوله في الترجمة: "عند الناس" مِن قوله في بعض طرق الحديث: "فخلا بها في بعض الطرق أو في بعض السكك" وهي الطرق المسلوكة التي لا تنفك عن مرور الناس غالبًا".
(2)
المصدر السابق، (9/ 333).
ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها، تَرِدُ الماء وترعى الشجر، فذرها حتى يلقاها ربُّها" (1).
وظل هذا الحكم مستقرًّا إلى آخر عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولما جاء عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه أمر بالتقاط ضوال الإبل وبيعها على خلاف ما كان معمولًا به فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها، ومَرَدُّ هذا إلى فسادِ الذممِ ونقصِ الأمانةِ اللَّذَيْنِ دبَّا بين الناس (2).
وعليه فقد صان هذا الحكمُ الأموالَ وحفظها من أيدي العابثين، ولو بقي هذا الحكم على ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم لَلَحِقَ الضررُ بالمجتمع (3).
وفي إحياء الأرض الموات قال صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له"(4)، وكان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تحفيزًا للمسلمين على إحياء الأراضي الموات واستغلالها واستثمارها، وذلك أيام كان المسلمون يعون مقاصد الأحكام ويلتزمونها، فلم يكن من غرضهم حوزُ الأراضي أو السطوُ عليها ثم إماتتها بعد ذلك كما آل إليه حال من جاء بعدهم.
فلما تغير الحال وظهر الجشع والطمع، فصار بعض المسلمين يحوزون من الأرض ما لا يطيقون استغلالَهُ وإحياءَهُ وإنما لضمان ملكيته وحوزته، تغيرت الفتيا زمنَ عمرَ
(1) أخرجه: البخاري، كتاب العلم، باب: الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، (91)، ومسلم، كتاب اللقطة، (1722)، من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
(2)
المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1420 هـ - 1999 م، (8 - 70 - 72)، مناهج الاجتهاد، د. محمد سلام مدكور، (ص 302 - 303).
(3)
محاضرات في تاريخ الفقه الإسلامي، د. محمد يوسف موسى، دار الكتاب العربي، مصر، 1955 م، (ص 8 - 9)، المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقا، (2/ 950 - 951).
(4)
أخرجه: أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب: في إحياء الأموات، (3073)، والترمذي، كتاب الأحكام، باب: ما ذكر في إحياء أرض الموات، (1378، 1379)، من حديث سعيد بن زيد وجابر رضي الله عنهما-عند الترمذي-، وسعيد وحدَه -عند أبي داود-. قال الترمذي في حديث سعيد:"حديث حسن غريب"، وقال في حديث جابر:"حديث حسن صحيح".
وأخرج البخاري، كتاب المزارعة، باب: مَن أحيا أرضًا مواتًا، (2335)، من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَن أعمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق". قال عروة: قضى به عمر رضي الله عنه في خلافته.