الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا شك أن هذه الفتيا مراعًى فيها مآل استبقاء الحكم الأصلي المقتضي تحديد أجل المزارعة أو المغارسة في خصوص بلدهم؛ إذ ذلك يجرُّ بلا شك إلى اطِّراح العمل في هذين المجالين؛ مما يجعل أولئك المستثمرين -والأمة كذلك- في حرج كبير، أما المستثمرون فلتضررهم بفوات العمل الذي يتكسبون به لأنفسهم وعيالهم، وأما الأمة فتتضرر بانعدام الأوقات التي تشتد حاجتها إليها؛ وذلك بلا شك مخالف لمقاصد الشريعة في رعايتها لمصالح الخلق، ورفعها للحرج عنهم.
وهذه الاعتبارات هي التي بعثت أولئك الأساطين على توخي المصلحة العامة في ضوء الأصول العامة والقواعد الكلية للشريعة (1).
النوع الثالث: أثر اختلاف الديار في الأحكام:
قسم الفقهاء الأقدمون العالم إلى دار إسلام ودار كفر، ودار الكفر تنقسم إلى دار حرب ودار عهد (2).
ويستدل لهذا التقسيم بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه. . . "(3).
وقد ترتب على هذا التقسيم من اختلاف الأحكام المتعلقة بأهل دار الإسلام وأهل دار الكفر عند بعض الفقهاء الشيء الكثير، سواء فيما يتعلق بالمعاملات أو الأحوال الشخصية أو الجنايات، وسواء فيما يخص التعامل بين المسلم والمسلم أو بين المسلم وغير المسلم.
(1) اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، د. عبد الرحمن السنوسي، دار ابن الجوزي، ط 1، 1424 هـ، (ص 417).
(2)
أحكام أهل الذمة، لابن القيم، تحقيق: يوسف بن أحمد البكري، وشاكر بن توفيق العاروري، رمادي للنشر، الدمام، ط 1، 1418 هـ - 1997 م، (3/ 1229).
(3)
أخرجه: البخاري، كتاب الطلاق، باب: نكاح مَن أسلم من المشركات وعدتهن، (5286).
وفيما يلي بعض الأمثلة:
1 -
لو دخل مسلم دار الحرب بأمان فتعامل مع حربي بالربا أو غيره من العقود الفاسدة جاز عند أبي حنيفة ومحمد بن الحسن، ولم يجز عند أبي يوسف وجمهور الفقهاء، وقد استدل أبو حنيفة ومحمد بأن المسلم يحل له أخذ مال الحربي من غير خيانة ولا غدر؛ لأن العصمة منتفية عن ماله، فإتلافه مباح، وفي عقد الربا، المتعاقدان راضيان فلا غدر فيه، فالربا كإتلاف المال، قال محمد: وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فلا بأس بأن يأخذ منهم أموالهم بطيب أنفسهم بأي وجه كان؛ لأنه إنما أخذ المباح على وجه عرا عن الغدر، واستدل أبو يوسف والجمهور بأن حرمة الربا ثابته في حق المسلم والحربي، أما بالنسبة للمسلم فظاهر، وأما بالنسبة للحربي فلأنه مخاطب بالمحرمات، وقال تعالى:{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161](1).
2 -
إذا ارتكب المسلم ما يوجب العقوبة في دار الحرب كالزنا والسرقة وشرب الخمر، أو قَذَفَ مسلمًا أو قَتَلَهُ، فإنه لا يكون مستوجبًا للعقوبة عند الحنفية خلافًا للجهور حتى ولو رجع إلى دار الإسلام؛ لأنه لم يقع الفعل موجبًا للعقاب أصلًا؛ لعدم ولاية إمام المسلمين على دار الحرب، وليس لأمير السريَّة إقامة الحد في دار الحرب، وكذلك إذا وقعت الجريمة في دار الإسلام، ثم هرب الشخص إلى دار الحرب فلا تسقط عنه إقامة الحد لوقوع الفعل موجبًا للعقاب فلا يسقط بالهرب (2). أما إذا وقع من المسلم في دار الحرب ما يوجب تعزيرًا لا حدًّا أي: مما
(1) الرد على سير الأوزاعي، لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، تصحيح وتعليق: أبي الوفاء الأفغاني، لجنة إحياء المعارف النعمانية، حيدر آباد، ط 1، (ص 96 - 98)، بدائع الصنائع، للكاساني، (5/ 192).
(2)
الرد على سير الأوزاعي، لأبي يوسف، (ص 80 - 83)، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي، المطبعة الكبرى الأميرية، القاهرة، ط 1، 1313 هـ، (3/ 267)، التشريع الجنائي=