الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن لم يتأتَّ له ذلك لم يُمنع (1)، وهذا إنما ينطلق من التحقق من مفسدةِ هذا العمل مآلًا.
2 -
أن يكون النظر على وفق مقاصد الشريعة:
وذلك لأن المآلات ربما وقع فيها تعارضٌ بين مصلحة ومفسدة، وفي حال التزاحم لا بدَّ من الاحتكام إلى مقاصد الشريعة، فلا عبرةَ بمفسدة هيئة في جنب مصلحة عظمى.
فالتصرف إذا كان سيفضي إلى مفسدة أكيدة، أو إبطالِ مقصدٍ شرعيٍّ مُنِعَ منه، وإن كان جائزًا في الأصل، واتَّفَقَ على شرعية هذا التصرفِ سائرُ المحققين من العلماء. (2)
3 -
أن يكون المآل المتوقع منضبطًا في علته وحكمه:
فلا بدَّ أن تكون مفسدة المآل أو مصلحته مسلَّمةَ الحكمِ، بحيث لا يخالف من يعتدُّ بقوله في مقتضاه، وإلَاّ فإن الاجتهاد على هذا النحو مقدوحٌ فيه بمنع حكم الأصل، وكذا ينبغي أن تكون العلة محققةَ الظهورِ في هذا المآل ومعتبرةً في مقدارها، بحيث يتفق على أن هذا القدر منها يعدُّ فاحشًا كثيرًا، يخرج عن مألوف العرف، وتبقى بقاءً مؤثرًا، أو تتمادى في الكبر.
وقد ذكر ابن عبد البر أن المفسدة التي يُحْكَمُ بوجوب دفعها هي ما بان ضررها، وبقي أثرها، وخِيفَ تماديها (3).
تعلق قاعدة المآلات بالقواعد الأصولية والمقاصدية:
تعتبر قاعدة مراعاة المآلات والنظر في عواقب التصرفات بمثابة الأصل العامِّ والمستند الأول لعدد من القواعد التشريعية العامة، وهذا ما أشار إليه الشاطبي بقوله: "هذا الأصل
(1) المدونة، من رواية سحنون بن سعيد، (4/ 474).
(2)
اعتبار المآلات، للسنوسي، (ص 355).
(3)
التمهيد، لابن عبد البر، (20/ 161).
ينبني عليه قواعدُ، منها: قاعدة الذرائع (1). . .، ومنها: قاعدة الحيل. . . (2)، ومما ينبني على هذا الأصل قاعدة الاستحسان (3)، ومنها: قاعدة مراعاة الخلاف" (4)، وقاعدة: التقييد في استعمال الحق.
فجميع هذه القواعد متفرعة عن أصل النظر إلى المآل، وبيان ذلك: أن سدَّ الذرائع هو: حسم الوسائل التي ظاهرها المشروعية، وتؤدي إلى الوقوع في ممنوع منهيٍّ عنه غالبًا أو كثيرًا (5)، وتظهر صلة هذا المنهج الأصولي بمبدأ النظر إلى المآل من خلال معرفة أركانه الثلاثة، وهي:
1 -
الوسيلة المشروعة.
2 -
والمتوسل إليه الممنوع.
3 -
والواسطة بين هذين الطرفين، وهو الإفضاء (6).
فلما صارت الوسيلة المشروعة مفضيةً في الكثير أو الغالب إلى مآل ومقصد محرم مُنعت تلك الوسيلة التفاتًا إلى مفسدة المآل؛ كونها أغلب وأرجح، وشواهدها جميعُ ما تقدَّم، من مثل: النهي عن سب آلهة المشركين، والامتناع عن قتل المنافقين.
والملاحظ في سدِّ الذريعة أن الفعل المشروع المؤدي -كثيرًا أو غالبًا- إلى مآل محظور يمنع بقطع النظر عن قصد الممارس لذاك الفعل، أي: أنه يمنع سواء أقصد المكلف ذاك
(1) المواففات، للشاطبي، (2/ 198).
(2)
المرجع السابق، (4/ 201).
(3)
المرجع السابق، (4/ 205).
(4)
المرجع السابق، (4/ 202).
(5)
المقدمات الممهدات، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد (الجد)، تحقيق: د. محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1408 هـ - 1998 م، (2/ 39)، وتفسير القرطبي، (2/ 57 - 58)، والبحر المحيط، للزركشي، (6/ 82)، والموافقات، للشاطبي، (4/ 198)، مع اختلاف في العبارات واتفاق في المعنى والمضمون.
(6)
سد الذرائع في الشريعة الإسلامية، لمحمد هشام البرهاني، دار الفكر، دمشق، 1995 م، (ص 102).
المآل، أم لم يقصده، إمعانًا في سدِّ أبواب الممنوعات.
أما بالنسبة لقاعدة منع الحيل: فيظهر وجه صلتها بمبدأ النظر إلى المآل بالنظر إلى حقيقتها؛ إذ هي تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر (1)، كالواهبِ مالَهُ عند رأس الحولِ فرارًا من الزكاة، فإن الهبة في أصلها مشروعة، ولكنها آلت في هذا الظرف إلى مآلٍ ممنوع، وهو التهرب من الزكاة، فاعتبرت في حكم العدم، وعُومل الواهبُ بنقيض مقصوده (2).
وأما قاعدة الاستحسان: فقد سبقت الإشارة إليها، وإظهار ما بينها وبين مبدأ رفع الحرج من علاقة وصلة، أما صلتها بمبدأ النظر إلى المآل فيبدو باستحضار وجه الصلة بينها وبين مبدأ رفع الحرج؛ ذلك أن القول باطراد الحكم الأصلي المقتضي الحظرَ قد يؤول إلى الإيقاع في الحرج والمشقة، وتفويتِ حاجةٍ أساسيةٍ للعامةِ، فالالتفات إلى ذلك المآلِ اقتضى العدولَ بالمسألة من حكمِ نظائرِهَا إلى ما هو مخالفٌ، وهذا ما أشار إليه الشاطبي بقوله:"فيكون إجراء القياس مطلقًا في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده، فَيُستثنَى موضعُ الحرج". (3)
وقد قرر الشاطبي أن قاعدة الاستحسان عند مالك ترجع إلى نظرية اعتبار المآل، (4) فجعل الاستحسانَ مبنيًّا على قاعدة المآل، لا على مجرد التشهي والتشريع بحسب الهوى.
وأما قاعدة مراعاة الخلاف: فتتجلى صلتها بالوقوف على المقصود بهذه القاعدة؛ إذ
(1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 201)، وخرج بذلك الحيل المشروعة التي تكلم عنها العلماء، كأن يقصد بها دفع الباطل، أو أخْذ الحق، أو منْع إصابته بمكروه، ينظر: الفتاوي الكبرى، لابن تيمية، (6/ 109).
(2)
الشرح الصغير على أقرب المسالك وبهامشه حاشية الشيخ أحمد الصاوي، لأبي البركات أحمد بن محمد الدردير، تحقيق: د. مصطفى كمال وصفي، دار المعارف، القاهرة، 1986 م، (1/ 601)، والمغني، لابن قدامة، (4/ 136 - 137).
(3)
الموافقات، للشاطبي، (4/ 206 - 207).
(4)
الموافقات، للشاطبي، (4/ 206).
مفاد هذه القاعدة: اعتبار رأي المخالف في الحكم رغم مرجوحية دليله؛ نظرًا لما يلزم عن التقيد في بعض الوقائع من مآلٍ ممنوع (1).
وأمثلة ذلك كثيرة، منها:
1 -
ما قاله العز ابن عبد السلام رحمه الله من جواز صلاة الشافعي خلف المالكي وبالعكس، وإن اختلفا في كثير من الفروع التي تمسُّ شروطَ الصلاة مراعاةً منه لرأي المخالفين؛ ذلك أن القول ببطلان صلاة غير الشافعي سيؤدي إلى مفسدة كبيرة، وهو ما وضحه بقوله:"الجماعة للصلاة مطلوبة للشارع، فلو قلنا بالامتناع من الائتمام خلف من يخالف في المذهب؛ لأدى إلى تعطيل الجماعات". (2)
فالإمام العز يستند في بيانه لوجه القول بجواز صلاة المالكي خلف الشافعي وبالعكس إلى مآل القول ببطلان تلك الصلاة من نقضها لوحدة الأمة، وإثارتها لنوازع الاختلاف والفتن.
فاطِّراد القول ببطلان صلاة من لم يقرَّ أركان الصلاة المعتبرة عند الشافعية (3) سيؤول إلى بطلان صلاة كلِّ شافعيٍّ يَقتدي بمالكيٍّ، ناهيك عن بطلان صلاة الإمام المالكيِّ.
ومن هنا حكى المازري (4) الإجماعَ على جواز صلاة أتباع المذاهب خلف بعضهم، وإن اختلفوا في الفروع الظنية مراعاةً للخلاف. (5)
(1) القواعد، للمقري، (1/ 236)، والموافقات، للشاطبي، (4/ 202)، وإيضاح المسالك، للونشريسي، (ص 63 - 67)، والأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 136).
(2)
إيضاح المسالك، للونشريسي، (ص 63).
(3)
ومن ذلك -مثلًا-: أن الشافعية لا يرون وجوب مسح جميع الرأس في الوضوء، بينما يرى المالكية أن أركان الوضوء لا تكتمل إلا بمسح جميع الرأس.
(4)
أبو عبد الله، محمد بن علي بن عمر، التميمي، المازري، الشيخ الإمام العلامة البحر المتفنن، المالكي، من مصنفاته: إيضاح المحصول في برهان الأصول، والمعلم بفوائد كتاب مسلم شرح صحيح مسلم، وغير ذلك، توفي سنة 536 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (20/ 104)، والديباج المذهب، لابن فرحون، (2/ 250).
(5)
إيضاح المسالك، للونشريسي، (63).
2 -
ما قاله الشافعية من استحباب الدَّلك في الوضوء، واستيعاب الرأس بالمسح، وترك صلاة الأداء خلف القضاء وعكسه، وقطع المتيممِ الصلاةَ إذا رأى الماءَ خروجًا من خلاف مَنْ أوجب الجميع. (1)
3 -
ومنها -أيضًا- ما قاله الحنفية في السفيه المحجور عليه إذا أراد عمرة واحدة، فالقياس أن يُمْنَعَ؛ لأنها تطوع فصارت كالحج تطوعًا، غير أن قاعدةَ مراعاةِ الاختلاف تقتضي ألَّا تمُنع استحسانًا؛ لأن بعض العلماء قال بوجوبها، فَيُمَكَّنُ منها احتياطًا، ومراعاةً للخلاف. (2)
4 -
ما قاله المالكية في أن كلَّ عقدٍ اخْتُلِفَ في فساده، كنكاحِ الشغار، ونكاحِ وليٍّ فقدَ شرطًا، أو نكاحٍ بغير وليٍّ فهو كالصحيح من حيث: التحريم، والإرث، والصداق، وفسخه بطلاق اعتبارًا لرأي المخالف القائل بصحة ذلك العقد. (3)
فهذه الصور وغيرها راعت مآلَ اطَّرادِ الحكم على وفق الرأي الراجح من إبطال كثير من تصرفات المكلفين، أو تعريض أعمالهم للخدش والخلل، فتفاديًا لذاك المآلِ الممنوعِ أُخِذَتْ بالاعتبار الآراءُ الأخرى المحتملة للصحة والصواب:"وهو أمر يعكس واقعية الشريعة الإسلامية في معالجتها للقضايا وفقَ حقائقها وآثارِها المترتبةِ عليها". (4)
كما أن لهذه القاعدة تعلُّقًا -أيضًا- بقاعدة تقييد الشخص في استعمال حقِّه:
"وخلاصة هذه القاعدة أن المجتهد ينظر إلى مآلِ استعمالِ الشخص لحقِّه الذي قرَّره الشارع له، فإذا تبين للمجتهد أن الشخص لم يستعمل حقَّه إلَّا للإضرار بغيره، فإنه
(1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 136 - 137)، والأشباه والنظائر، لابن السبكي، (1/ 114).
(2)
رد المحتار، لابن عابدين، (9/ 217)، تعليل الأحكام، د. محمد الشلبي، (ص 356).
(3)
الشرح الصغير، للدردير بحاشية الصاوي، (2/ 388).
(4)
مآلات الأفعال، لحسين الذهبي، (109)، رسالة ماجستير.
يحكم بالمنع من هذا الفعل؛ عملًا بقاعدة اعتبار المآلِ، أما إذا لم ينحصر استعمالُ الحقِّ في قصد الإضرار بالغير، بل كان الشخص قاصدًا لمصلحة نفسه من الفعل، وصحب هذا القصدَ قصدُ الإضرار بالغير، فإن على الفقيه أن يجري موازنة بين الحقَّين، وذلك على أساس قوة المصالح التي تُستعمل هذه الحقوق لحمايتها، فيقدِّم مصلحة الجماعة في دفع الأضرار العامة على مصلحة الشخص في استعمال حقِّه، ويقدِّم الحقَّ الذي يُستعمل محافظةً على النفس على الحقِّ الذي يُستعمل محافظة على المال، والمصلحةَ الحاجيةَ على التحسينيةِ. . . وهكذا". (1)
وإذا ما نُظِرَ إلى تلك القواعد والأصول جميعًا بنظرة أعمق فإنه يتلمس ما بينها من التقاء واجتماع.
فقاعدة سدِّ الذرائع، والاستحسان، ومراعاة الخلاف، وتقييد الشخص في استعمال حقِّه تتركز حولَ مضمونِ الاستثناءِ، فالاستحسانُ استثناءٌ من الأصول العامة والقواعد الكلية، حين يكون طرد تلك القواعد سببًا في الحرج والمشقة البالغة، ومخالفة مقصود الشارع.
بينما سدُّ الذرائع استثناءٌ من حكم المشروعية بالمنع من الجائز إذا كان يؤدي إلى ممنوع في حالة من الحالات.
أما مراعاةُ الخلافِ فهو استثناءٌ في الأخذ بالراجح للعمل بالمرجوح؛ احتياطًا للمصالح المشروعة.
وكذلك تقييدُ الشخص في استعمال حقِّه فإنما هو استثناءٌ من الأصلِ المتقرِّرِ إذا ترتب على استعمال الحقِّ ضررٌ متعدٍّ مقصودٌ إليه دون غيره.
وبالنظر إلى غاية هذه الأصول والقواعد جميعًا فإنها غاية واحدة تنتهي إلى حفظ المصالح
(1) المرجع السابق، (109).