الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حق خالص لله تعالى، "فالحاكم هو من صدر عنه الخطاب، وهو الله تعالى، فهو الذي يشرع الحكم وينشئه، وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم هو تبليغ هذا الحكم إلى الناس، وعمل المجتهدين من بعده هو اقتباس هذا الحكم من الأدلة التي نصبها الشارع لمعرفته"(1).
الفرع الثالث: حكم الاجتهاد في نوازل الأقليات:
الأصل أنه لا تخلو نازلة عن حكم شرعي لله تعالى بالكلية على ما هو مذهب جمهور الأصوليين (2).
فإن قيل: إن النصوص الشرعية متناهية محصورة، والوقائع والنوازل ليست كذلك؛ فالجواب: أن النصوص تشتمل على أحكام الوقائع والنوازل إمَّا نصًّا أو استنباطًا، ثم إن الأحكام الشرعية تتردد بين طرفين: أحدهما: محصور، والآخر: غير محصور، فإذا كانت المسألة واقعة في القسم المنحصر فبها ونعمت، وإلا رُدَّتْ إلى ما لا ينحصر.
ومن أمثلة ذلك: أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما ورد بتحريمه دليل، كما أن الأصل في الأشياء الطهارة إلا ما ورد بنجاسته دليل، فإذا وجدت عين لم يَرِدْ ما يدل على حرمة الانتفاع بها (وهي أشياء محصورة) فالأصل أنها مباحة، فإن وجد دليل يدل على نجاستها (وهي أعيان محصورة) وإلا فهي طاهرة.
كما أن النوازل والمستجدات لم تزل منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى يوم الناس هذا، ودأبُ أهل العلم فيها: بيانُ أحكامها الشرعية اجتهادًا واستنباطًا من النصوص الشرعية، وفي هذا البيان أعظم برهان على اكتمال الدين وصلاحية التشريع لكل زمان ومكان.
(1) أصول الفقه، د. حسين حامد حسان، (ص 134).
(2)
البرهان، للجويني، (2/ 1348 - 1350)، الموافقات، للشاطبي (4/ 155 - 156)، البحر المحيط، للزركشي، (1/ 164 - 165).
ومع تقرير أن الاجتهاد مشروع بشروطه، وقد يكون فرضًا كفائيًّا أو عينيًّا، إلا أن خلافًا قد جرى بين الأئمة حول حكم الاجتهاد في النوازل المستجدة من كل وجه، والتي لم يسبق فيها قول لإمام، أو يعرف فيها قول لعالم أو حاكم.
وجمهور الفقهاء والأصوليين على مشروعية الاجتهاد في هذه النوازل، وتسويد الفتاوي فيها بعد تحريرها وضبطها، وذلك استنادًا للشرع والعقل والواقع، فإن النصوص التي تفتح باب الاجتهاد وتُعَيِّنُ عليه الأجور الكثيرة لا تقيده بسبق اجتهاد فيها، كما أن العقل يقضي بأنه عند نزول النوازل المستجدة من كل وجه لا بد أن يتصدى أرباب العلم والحلم لها، وإلا انساق الناس وراء الهوى، وتعطلت منافع الشريعة الغراء وفُتِحَ باب للطعن في وفائها بحاجات البشر.
قال الشاطبي: "الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة؛ ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلا بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصًا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، وعند ذلك فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهو أيضًا اتباع للهوى، وذلك كله فساد"(1).
والواقع يقرر وجود مسائل كثيرة غير منصوص على حكمها، ولم يسبق لأهل العلم فيها اجتهاد، ولا يُؤْثَر عنهم فيها شيء، مثل: أطفال الأنابيب، واستئجار الأرحام، والاستنساخ، وأحكام التجنس، والعمل السياسي في غير بلاد الإسلام، وكثير من صور المعاملات المالية المستحدثة ونحوها، ولكل زمان نوازله وأقضيته.
فإن قيل: إن الإممام أحمد وغيره من أئمة الحديث نهوا عن القول في النوازل التي ليس للقائل
(1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 104).
فيها سلف وإمام، كقول أحمد لبعض أصحابه:"إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام"(1).
فالجواب: أن هذا القول محمول على طلب استفراغ الوسع في معرفة كلام الأئمة والفحص عن أقوالهم قبل الاجتهاد، مع لزوم الورع وخشية الله والتحري قبل الحكم على النازلة، ولا ينبغي أن يحمل هذا على التوقف في البحث عن حكم الله من قبل الفقهاء والمجتهدين؛ إذ الفرض على غير المجتهدين سؤال المجتهدين، والفرض على المجتهدين بذل الوسع والجهد لتحصيل ظن بحكم شرعي، وإذا ضاق الوقت واحتيج إلى العمل فلا بد من النظر والترجيح بشرط التأهل واكتمال الآلة، والإحاطة بجوانب النازلة.
ومعلوم أن مجتهدي الحنابلة -فضلًا عن غيرهم- بحثوا مسائل ليس لهم فيها سلف، كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رَحِمَهُمَا اللهُ، ولا مانع إذا بذل المجتهد وسعه في النازلة فلم يظهر له الحق، أو تكافأت لديه الأدلة، وعجز عن الترجيح أن يتوقف وأن يُحيل المسائل إلى من هو أعلم، ولا شك أن هذا يتأكد في النوازل؛ لعدم وجود اجتهاد من المجتهدين، وهو امتثال للنهي عن القول على الله بغير علم، قال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169].
وقد بوَّب البخاري في الصحيح باب: "ما كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسْئَل مما لم ينزل عليه الوحي فيقول: لا أدري، أو لم يُجب حتى يتنزل عليه الوحي"(2).
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فسكت حتى نزلت الآية (3)، ولما استأذن مرثد
(1) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لعبد القادر بن بدران الدمشقي، تحقيق: د. عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1401 هـ - 1981 م، (ص 119).
(2)
صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب، (4/ 366).
(3)
أخرجه: البخاري، كتاب العلم، باب: قول الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ، (125)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب: سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح وقوله تعالى: =
بن أبي مرثد النبي صلى الله عليه وسلم لينكح امرأة بغيًّا يقال لها: "عناق". أمسك فلم يَرُدَّ عليه شيئًا، حتى نزلت آية النور (1).
وكان هذا شأن المجتهدين من الصحابة فمن بعدهم إذا سئلوا فلم يعلموا، سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن مسألة، فقال: لا علم لي بها (2)، والأدلة التي توجب على المجتهد سؤال غيره كثيرة معلومة، قال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ولما سأل شريح بن هانئ (3) عائشة رضي الله عنها عن المسح على الخفين قالت: ائتِ عليًّا فإنه كان أعلم بذلك مني -زاد في رواية: فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: فسألناه (4).
وقد ذكر ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم أنهم كانوا يكرهون استعمال الرأي في الوقائع قبل أن تنزل، وتفريع الكلام عليها قبل أن تقع، وعدُّوا ذلك اشتغالًا بما لا ينفع (5).
ويستدل على هذا بالحديث الذي يرويه وهب بن عمرو أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها فإنكم إن لا تعجلوها قبل نزولها لا ينفك المسلمون وفيهم
= {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية، (2794)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(1)
أخرجه: أبو داود، كتاب النكاح، باب: في قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} ، (2051) -مختصرًا-، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ومن سورة النور، (3177)، والنسائي، كتاب النكاح، باب: تزويج الزانية، (3228)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ثم قال له صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية:"لا تنكحها". قال الترمذي: "حديث حسن غريب".
(2)
أخرجه: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"، تحقيق: عادل بن يوسف العزازي، دار ابن الجوزي، الدمام، 1417 هـ، (1107)، من حديث نافع.
(3)
أبو المقدام، الحارثي، المذحجي، الكوفي، الفقيه، الرجل الصالح، صاحب علي رضي الله عنه، حدث عن أبيه، وعلي، وعمر، وعائشة رضي الله عنهم، توفي سنة 78 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (4/ 228)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 107).
(4)
أخرجه: مسلم، كتاب الطهارة، باب: التوقيت في المسح على الخفين، (276)، من حديث القاسم بن مخيمرة عن شريح به.
(5)
جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (2/ 1061 - 1067)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 69)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 584 - 588).
إذا هي نزلت من إذا قال وُفِّقَ وسُدِّدَ، وإنكم إن تعجلوها تختلف بكم الأهواء فتأخذوا هكذا وهكذا"، وأشار بين يديه وعلى يمينه وعن شماله (1).
وهذا الحديث يدل بسياقه على شرطية نزول النازلة ووقوعها، وشرطية أهلية المجتهد لاستنباط حكمها، وهذا ما رجحه عدد من أهل العلم المعتبرين قديمًا وحديثًا (2).
وبناءً على ما سبق؛ فإن الأقليات المسلمة التي تعيش حالة اغتراب كاملة عن أوطان المسلمين، وفي أزمنة الغربة الثانية للدين، ويفشو في ديارهم الجهل ويقِلُّ العلم، وتُحْكَم بلادهم بقوانين وضعية لا ترقب فيهم إلًّا ولا ذمة، كل هذا في بحر لجيٍّ من الفتن، وتشتد عليهم المسائل النازلة، وتكثر فيهم الحوادث الواقعة، فيحيلونها إلى أهل العلم للاجتهاد، ومن ثم الإفتاء؛ فلا ينبغي التوقف عن بحث مسائلهم والاجتهاد في نوازلهم لخصوصية تلك النوازل من جهة، وخصوصية حال أصحابها من جهة أخرى، ولا يَقِلُّ حكم الاجتهاد في هذه الحالة عن فرض الكفاية، وقد يتعين هذا الفرض على المجتهدين المقيمين في تلك البلاد قبل البعيدين عنها.
(1) أخرجه: الدارمي، باب: التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، (118). وضعفه الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة"(882).
ورُوي نحوه من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، ومن مُرسَل أبي سلمة بن عبد الرحمن رحمه الله، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري"، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، دار المعرفة، بيروت (مصورة عن ط: المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة - مصر)، (13/ 266):"أخرج أبو داود في "المراسيل"، من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة مرفوعًا، ومن طريق طاوس عن معاذ رفعه. . . " فذكره بنحوه، ثم قال:"وهما مرسلان يقوي بعض (كذا؛ ولعلها: بعضهما) بعضًا".
(2)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 266)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار (4/ 526 - 527)، المدخل إلى فقه النوازل، د. عبد الناصر أبو البصل، (ص 125 - 126)، منهج استنباط النوازل، د. مسفر القحطاني، (ص 134 - 135).