الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليس له عقوبة مقدرة في الشريعة لجرائم الحرب (الجرائم التي تضر المصلحة العامة) فإن الحنفية نصُّوا على أنه لا يؤدبه الأمير لأول وهلة، ولكن ينصحه حتى لا يعود إلى مثل ذلك أملًا للعذر، فإن عصاه بعد ذلك أدَّبه إلا أن يبين في ذلك عذرًا، فحينئذ يخلِّي سبيله بعد أن يحلف اليمين على قوله (1).
وبقطع النظر عن أن الراجح في المسألتين المعروضتين للتمثيل هو مذهب الجماهير سلفًا وخلفًا، فإن المقصود بيان أثر اختلاف الديار والأماكن والبلدان في نظرة بعض الفقهاء لاستنباط وإجراء الأحكام.
الفرع الثالث: اختلاف أحوال المكلفين ومقاصدهم:
والأصل في مراعاة هذا الجانب عمل النبي صلى الله عليه وسلم وفتاويه، فمن ذلك:
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كنَّا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء شاب فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أُقَبِّلُ وأنا صائم؟ قال:"لا"، فجاء شيخ، فقال: يا رسول الله أُقَبِّلُ وأنا صائم؟ قال: "نعم"، فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"علمت نظر بعضكم إلى بعض، إن الشيخ يملك نفسه"(2).
وللحديث شاهد آخر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم، فرخَّص له وأتاه آخر فسأله، فنهاه فإذا الذي رَخَّصَ له شيخ وإذا الذي نهاه شابٌّ (3).
فهذا من باب تغير الفتوى بتغير القرائن والأحوال، فإن ما يباح للشيخ المالك
= الإسلامي، لعبد القادر عودة دار الكتاب العربي، بيروت، (1/ 280 - 287).
(1)
التعزير في الشريعة الإسلامية، لعبد العزيز عامر، مطبعة مصطفى البابي، القاهرة، 1377 هـ، 1957 م، (ص 214، 36).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه: أبو داود، كتاب الصوم، باب: كراهيته (يعني: القبلة) للشاب، (2387)، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح سنن أبي داود"، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، الكويت، ط 1423،1 هـ / 2002 م، (2065).
لإربه في مثل هذا الشأن لا يباح للشاب الذي يُخشى عليه الجرأة على محارم الله، فينبغي أن يقيد الحكم الفقهي بمخرجه، فرُبَّ غافل عن مقصد الحديث ومخرجه يذهل عن هذا المعنى ويفتي بالجواز مطلقًا بدعوى التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يقبل وهو صائم، وأن عمر رضي الله عنه فعل ذلك وقال: هششت فقبَّلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله إني صنعت اليوم أمرًا عظيمًا: قَبَّلْتُ وأنا صائم؟! قال: "أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم؟ "(1).
فقد راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأحكام القرائن والأحوال المحيطة بالسائلين فلا ينبغي أن تعمم الفتيا لسائر المكلفين مطلقًا.
وعليه فقد ذهب طائفة من السلف إلى كراهة القُبلة للصائم، فنهى عنها ابن عمر رضي الله عنهما وابن مسعود رضي الله عنه وابن المسيب رحمه الله (2) وقال ابن عباس:"يكره ذلك للشاب ويرخص فيه للشيخ"، وهو مذهب مالك.
وقال الشافعي: لا بأس بها إذا لم يحرك منه شهوة، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال الثوري (3): لا تفطره والتنزه أحبُّ إليَّ (4).
(1) أخرجه: أبو داود، كتاب الصوم، باب: القبلة للصائم، (2385)، والإمام أحمد في "مسنده"(1/ 21، 52)، وغيرهما، من حديث جابر بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنهم. . . فذكره. ثم قال عمر: قلت: لا بأس به! قال: "فمه؟! ". وصححه ابن خزيمة (1999)، وابن حبان (8/ 313 - إحسان)، والحاكم (1/ 431).
(2)
أبو محمد، سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب، القرشي المخزومي، عالم أهل المدينة، سيد التابعين في زمانه، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه، وتوفي سنة 94 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 57)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 217).
(3)
أبو عبد الله، سفيان بن سعيد بن مسروق، الثوري، الكوفي، شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، سمع عمرو بن مرة، وحبيب بن أبي حبيب، وروى عنه شعبة، وابن المبارك، ويحيى القطان. ولد سنة 97 هـ، وتوفي سنة 161 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (6/ 371)، التاريخ الكبير، للبخاري، (4/ 92).
(4)
معالم السنن، لأبي سليمان محمد بن محمد الخطابي، تصحيح: محمد راغب الطباخ، في مطبعته بحلب، ط 1، =
وعلى ذلك يتنزل حديث عائشة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ ويباشر وهو صائم، وكان أملكَكُم لإربه"(1).
ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب عن السؤال الواحد بأجوبة مختلفة؛ وذلك لاختلاف أحوال السائلين.
فهو يجيب كل واحد بما يناسب حاله، ويعالج قصوره أو تقصيره، فقد وجدنا من يسأله عن وصية جامعة، فيقول له:"لا تغضب"(2)، وآخر يقول له:"قل: آمنت بالله، ثم استقم"(3)، وآخر يقول له:"أمسك عليك لسانك. . . "(4).
وعن سفيان بن عينية (5) قال: كان أهل العلم إذا سئلوا (أي: عن القاتل) قالوا: لا توبة له، فإذا ابتُلِيَ رجل (أي: قتل بالفعل) قالوا له: تُبْ (6).
وبناءً على ما سبق فإذا تبين للمفتي أن للشخص حالًا تُباين أحوال غيره من جهة
= 1351 هـ - 1932 م، (2/ 113 - 114)، فتح الباري، لابن حجر، (4/ 150).
(1)
أخرجه: البخاري، كتاب الصوم، باب: المباشرة للصائم، (1927)، ومسلم، كتاب الصيام، باب: بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على مَن لم تحرك شهوته، (1106).
(2)
أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب: الحذر من الغضب، (6116)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، فذكره، فردَّد مرارًا؛ قال:"لا تغضب".
(3)
أخرجه: مسلم، كتاب الإيمان، باب: جامع أوصاف الإسلام، (38)، من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنهما، قال: قلت: يا رسول الله؛ قل لي في الإسلام قولًا لا أسال عنه أحدًا بعدك (وفي رواية: غيرك)؛ فذكره.
(4)
أخرجه: الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء في حفظ اللسان، (2406)، والإمام أحمد في "مسنده"(4/ 148، 5/ 259)، وغيرهما، من حديث أبي أمامة عن عقبة بن عامر رضي الله عنهما، قال: قلت: يا رسول الله؛ ما النجاة؟ فذكره. قال الترمذي: "حديث حسن".
(5)
أبو محمد، سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون مولى محمد بن مزاحم، أخي الضحاك بن مزاحم، الإمام الكبير حافظ العصر، شيخ الاسلام، الهلالي الكوفي، ثم المكي. ولد سنة 107 هـ، وتوفي سنة 198 هـ. الجرح والتعديل، لعبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس أبو محمد الرازي التميمي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1371 هـ - 1952 م، (1/ 32)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (8/ 454).
(6)
أخرجه: سعيد بن منصور في "سننه"، تحقيق: د. سعد بن عبد الله بن عبد العزيز آل حميد، دار الصميعي، الرياض، ط 1، 1414 هـ 1993 م، (675)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى"، (8/ 16).
معينة أو مورد معين من موارد التكليف فإنه ينظر فيما يصلحه فيصفه له.
وقد قال الشاطبي إنه ينبغي على المجتهد: "النظر فيما يصلح لكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص؛ إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد"(1).
وهكذا يُعْطِي كلَّ إنسان من الدواء ما يرى أنه أشفى لمرضه، وأصلح لأمره، فهذا -وما سبق- أصل في تغير الجواب؛ وأن الفتيا تتغير بتغير أحوال السائلين.
ولهذا يجب أن يلاحظ المفتي في فتواه الظروف الشخصية للمستفتي -نفسية واجتماعية- والظروف العامة للعصر والبيئة.
ومما يلتحق باختلاف الفُتيا لاختلاف حال المكلَّفين، الاختلاف في النيات، فقد جاءت النصوص متكاثرة تفيد أن الثواب والعقاب بحسب النيات، وأن الأمور بحسب مقاصدها، وهذا الأمر معتبر في عامة الأحوال والأفعال.
لذلك لا يجوز هدم قاعدة الشريعة التي تفيد أن "المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات، كما هي معتبرة في التقرُّبات والعبادات"(2). والقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالًا أو حرامًا وصحيحًا أو فاسدًا، وطاعة أو معصية، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة أو مستحبة أو محرمة أو صحيحة أو فاسدة، فإن الرجل إذا اشترى أو استأجر أو اقترض أو نكح ونوى أن ذلك لموكِّله أو لمولِّيه كان له، وإن لم يتكلم به في العقد ولم ينوِهِ له وقع الملك للعاقد، وكذلك لو تملك المباحات في الصيد والحشيش وغيرها ونواه لموكِّله وقع الملك له عند جمهور الفقهاء.
(1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 98).
(2)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 95 - 96).