الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إظهار النسك، لا من الجهر بالنية (1).
ووقت النية أول العبادات ولو حكمًا، فإذا تأخرت عنه لم يصحَّ في الجملة، ويجوز ويجزئ تقدمها عليه في الصيام المفروض، ويستصحب حكمها ما لم يشتغل بعمل آخر يقطعها، فمن نوى الصلاة عند الوضوء، ثم حضر المسجد فافتتح صلاته بتلك النية أجزأته؛ لأن النية المتقدمة باقية إلى وقت الشروع حكمًا (2)، وللفقهاء تفاصيل كثيرة في أمر نية العبادات، وفروق بين المفروض والمندوب منها.
أدلة القاعدة:
أولًا: السنة المطهرة:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. . ." الحديث، وفي رواية:"إنما الأعمال بالنية"(3).
وجه الدلالة: أفادت عبارة الحديث أن الأعمال تقبل أو ترد، ويثاب عليها أو يعاقب بحسب النية الباعثة عليها، والداعية إليها، فلا يحصل للعامل من عمله إلا ما نواه به (4).
2 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلَّا أُجرت عليها حتى ما تجعل في
(1) مجموع الفتاوى، لابن تيمية، (26/ 21 - 23).
(2)
الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 24)، المقاصد الشرعية، د. عبد العزيز عزام (69)، القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، ط 1، 1417 هـ - 1997 م، (ص 34).
(3)
أخرجه: البخاري، كتاب بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب: قوله: صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنية" وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، (1907) -وعنده وعند البخاري في مواضع أخرى، مثل: كتاب الإيمان، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، (54):"إنما الأعمال بالنية"-، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(4)
الجامع في شرح الأربعين، محمد يسري، دار اليسر، القاهرة، ط 3، (1/ 56 - 57).
فم امرأتك" (1).
3 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ قتيلٍ بين الصفين الله أعلم بنيته"(2).
4 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عمل لمن لا نية له"(3).
5 -
قول صلى الله عليه وسلم: "إنما يبعث -وفي رواية: يحشر- الناس على نياتهم"(4).
وجه الدلالة:
والأحاديث بجملتها دالة على اعتبار تأثير النية في أعمال الخلق صحةً وفسادًا،
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الإيمان، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، (56)، ومسلم، كتاب الوصية، باب: الوصية بالثلث (1628)، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، في قصة عيادة النبي صلى الله عليه وسلم له وهو على فراش الموت.
(2)
أخرجه: الإمام أحمد في "مسنده"(1/ 397)، وأبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة في "مسنده"، تحقيق: عادل ابن يوسف العزازي وأحمد فريد المزيدي، دار الوطن، الرياض، ط 1، 1418 هـ / 1997 م، (403)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش، ورُبَّ. . ." فذكره. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(10/ 194): "رجال سنده موثقون"، وقال في "بذل الماعون في فضل الطاعون"، تحقيق: أحمد عصام عبد القادر الكاتب، دار العاصمة، الرياض، (ص 188):"سنده جيد".
(3)
أخرجه: البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الطهارة، باب: الاستياك بالأصابع، (1/ 41)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رجلًا من الأنصار من بني عمرو بن عوف قال: يا رسول الله إنك رغَّبتنا في السواك، فهل دون ذلك من شيء؟ قال:"أصبعاك سواك عند وضوئك تمرهما على أسنانك، إنه لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حسبة له". وضعَّفه الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني في "التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير"، اعتنى به: أبو عاصم حسن بن عباس بن قطب، مؤسسة قرطبة، مصر، ط 1، 1416 هـ / 1995 م، (1/ 264) بقوله:"في سنده جهالة".
(4)
أخرجه: ابن ماجه، كتاب الزهد، باب: النية، (4229)، والإمام أحمد في "مسنده"(2/ 392) -والرواية الثانية له-، وغيرهما، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وحسَّن إسنادَه المنذريُّ في "الترغيب والترهيب"(1/ 25)، وأخرج البخاري، كتاب البيوع، باب: ما ذُكر في الأسواق، (2118)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: الخسف بالجيش الذي يؤم البيت، (2884) -والسياق واللفظ له-، عن عائشة رضي الله عنها قالت: عبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه، فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم صنعتَ شيئًا في منامك لم تكن تفعله، فقال: العجب إن ناسًا من أمتي يؤمُّون بالبيت برجل من قريش، قد لجا بالبيت، حتى إذا كانوا بالبداء خسف بهم؛ فقلنا: يا رسول الله إن الطريق قد يجمع الناس، قال:"نعم فيهم المستبصر للكلام، والمجبور، وابن السبيل يهلكون مهلكاً واحدًا، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم".
وقولًا وردًّا، ومجازاةً عليها، فميزان الأعمال إنما هو النية والقصد (1).
وإذا كانت الأمور بمقاصدها فإنه ينبغي على كل مكلَّف أن يكون قصده في أفعاله وأقواله الظاهرة والباطنة موافقًا لقصد الشارع الحكيم؛ وذلك حتى تؤتي ثمارها وتعود بصالح نتائجها، وإلا فإنه لا يكفي أن يكون ظاهر الفعل مشروعًا ليوصف بالمشروعية وإنما لا بد أن يكون قصد المكلف المباشر للفعل مشروعًا أيضًا.
ومخالفة قصد الشارع ومنافاته هدمٌ للمصالح التي شرعت من أجلها الأحكام، وعلى سبيل المثال فإذا كان المكلف مأمورًا بالنكاح استحبابًا لتحصيل مصالح العفاف واستمرار النسل ونحو ذلك؛ فإن قصده التحليل للزوج الأول يهدم هذه المصالح ويقضي عليها ويناقض مقصود الشارع.
والطلاق أبيح لتحقيق مصلحة مشروعة ودرء مفسدة ممنوعة، فإذا استعمل الزوج هذا الطلاق ليحرم المرأة من حقها في الإرث لدى مرضه مرض الموت فقد ناقض مقصود الشارع من تشريع الطلاق.
وهكذا لو خالف المكلف مقصود الشارع في البيع والهبة والشركات ونحوها.
وبالجملة فإن المكلف عليه أن يجرى على موافقة قصد الشارع لتتحقق له المصالح الدينية والدنيوية، وينال أجر العبودية في أعماله العادية والعبادية، وبهذا يعمر الأرض وتحقق خلافته فيها وتثمر الثمرات المرجوة، وبهذا يكون قد حقق العبودية التي تعني ألا يتصرف العبد إلا بما يرضي ربه ومولاه، ولو خالف في ذلك هواه ومشتهاه، فيقتضي هذا موافقة لقصد الشارع، أو على الأقل ترك المناقضة لمقصوده.
وهذا الأمر يتحقق بامتثال الأمر والقصد معًا سواء اطلع المكلف على المصالح أو
(1) القواعد الفقهية الكبرى وما يتفرع عنها، د. صالح السدلان، (ص 45).