الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثانية: الرخصُ فيما لا يُصْبَرُ عليه من المشاق مطلوبة، وفي المقدور عليه عزيمة أو مباح
(1).
المعنى العام للقاعدة:
تطلق الرخصة في اللغة على معنى التيسير والتسهيل، وخلاف الشدة (2).
قال في معجم مقاييس اللغة: "الراء والخاء والصاد: أصلٌ يدلُّ على لينٍ وخلاف شدة"(3).
والرخصة في الاصطلاح الشرعي لها معانٍ، منها: تخفيفُ الأحكامِ المغلظة التي كانت على الأمم السابقة؛ كاشتراط قتل النفس في صحة التوبة، وعدم جواز الصلاة إلا في مكان العبادة، وعدم حل الغنائم، ونحو ذلك (4).
كما تطلق الرخصة -أيضًا- على ما استُثني من أصل كليٍّ يقتضي المنع مطلقًا من غير اعتبار بكونه لعذر شاق، فيدخل فيها القرض والمساقاة والسَّلَم (5).
كما تطلق باصطلاحٍ ثالث على ما كان من المشروعات توسعة للعباد مطلقًا مما هو راجعٌ إلى نيلِ حظِّهم وقضاء أوطارهم، وذلك بناءً على أن العزيمة أو الأصل أن ينصرف الخلق إلى عبادة الله، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
فإذا وهب الله لهم حظًّا ينالونه فذلك كالرخصة لهم؛ لأنه توجُّهٌ إلى غير المعبود، واعتناءٌ بغير ما اقتضته العبودية؛ فالعزائم حق الله على العباد، والرخص حظُّ العباد من لطف الله.
وبناءً على هذا الإطلاق تدخل المباحات في الرخص، ومن حيث هي توسعة على
(1) الموافقات، للشاطبي، (1/ 320).
(2)
القاموس المحيط، للفيروز آبادي، (2/ 302).
(3)
معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (2/ 500).
(4)
المستصفى، للغزالي، (ص 78)، روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 60)، فواتح الرحموت، للكنوي، (1/ 95)، أصول السرخسي، (1/ 120).
(5)
الموافقات، للشاطبي، (1/ 303).
العبد، ورفع حرج عنه، وإثبات لحظه (1).
والمعاني الثلاثة السابقة تعتبر من الإطلاقات المجازية على الرخصة (2)، في مقابل المعنى الحقيقي لها في اصطلاح علماء الأصول.
أما الرخصة بالمعنى الحقيقي عند الأصوليين فهي: "الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر"(3).
أو: ما تغير إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي (4).
والرخصة بناءً على هذا: عبارة عن حكم جديد رُوعي فيه التيسير والتسهيل؛ وذلك لعذر طارئ بعد قيام سبب الحكم الأصلي.
والرخصة قد تطلق في مقابل العزيمة:
والعزيمة لغة هي: القصد المؤكد، قال ابن فارس: إن العين والزاي والميم: أصل واحد صحيح يدل على الصريمة والقطع (5).
وقد سُمِّي بعض الرسل بأولي العزم؛ لتأكيد قصدهم في طلب الحق، ولأنهم قطعوا العلائق مع من لم يؤمنوا بما أُرسلوا به (6).
واصطلاحًا: الحكم الثابت بدليل شرعي خالٍ عن معارض راجح (7).
أو: هي ما شرع من الأحكام الكلية ابتداءً (8).
(1) قاعدة المشقة تجلب التيسير، د. يعقوب الباحسين، (ص 456 - 457).
(2)
المستصفى، للغزالي، (ص 78)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (1/ 481).
(3)
الإبهاج، لابن السبكي، (1/ 81)، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، لأبي محمد عبد الرحيم بن الحسن الإسنوي، تحقيق: د. محمد حسن هيتو، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1400 هـ، (ص 70)، البحر المحيط، للزركشي، (1/ 327).
(4)
جمع الجوامع، لابن السبكي، (1/ 119 - 120)، مطبوع مع حاشية البناني على شرح المحلي.
(5)
معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (4/ 308).
(6)
معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (4/ 309)، المستصفى، للغزالي، (ص 78).
(7)
المختصر في أصول الفقه، لعلاء الدين علي بن محمد المعروف بابن اللحام، تحقيق: د. محمد مظهر بقا، جامعة الملك عبد العزيز، مكة المكرمة، الكتاب التاسع، 1400 هـ - 1980 م، (ص 67).
(8)
الموافقات، للشاطبي، (1/ 300).
أو: هي الحكم الثابت لا على خلاف الدليل، أو على خلف الدليل، لكن لا لعذر (1).
وبالجملة فإن حاصل هذه العبارات يرجع إلى أمرين:
أحدهما: أن العزيمة هي الحكم المتغير عنه، فلا تكون عزيمة حتى يكون في مقابلها رخصة.
الثاني: ما لم يتغير من العسر إلى اليسر، بل شُرِعَ ابتداءً، من غير نظر إلى الأعذار.
وهذه القاعدة تُقسم الترخص المشروع من حيث الصبر على المشاق إلى قسمين:
ما يكون في مقابل مشقة لا صبر عليها؛ كمرض يُعجِزُ عن استيفاء الصلاة، أو الصيام، أو جوع شديد، أو عطش شديد قد يُفضي إلى إتلاف النفوس، أو الأعضاء؛ مما يؤدي إلى تفويت العبادة، أو تفويت المهج.
فحكم هذا النوع من الرخص التي توجب تخفيفًا في شأن أداء الصلاة، أو تأخير الصيام، أو إباحة الميتة، أو الخمر حال المهلكة -أنها تجري مجرى العزائم، ولا يخرجها ذلك عن كونها رخصة، وإن كانت مطلوبة طلب العزيمة.
ولذا قال من قال من الفقهاء بوجوبها استدلالًا بقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195](2)، وهذا الترخيص راجع لحق الله تعالى.
وأما ما يكون في مقابل مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها فإن الترخيص فيه راجع إلى حظوظ العباد؛ لينالوا الرفق والسعة من الله.
وهذا القسم على ضربين:
الأول: أن يكون الطلب فيه من لدن الشارع الحكيم حتى لا يبقى فيه اعتبار لحال المشقة وعدمها؛ كالجمع بعرفة ومزدلفة، فحكمه أنه لاحق بالعزيمة فطلبه على
(1) نهاية السول، للإسنوي، (1/ 120).
(2)
نهاية السول، للإسنوي، (1/ 121)، الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 82)، جمع الجوامع، لابن السبكي، (1/ 121)، مطبوع مع حاشية البناني على شرح المحلي.
الإطلاق صار سنة لا رخصة مباحة.
الثاني: رخص لم تختص بالطلب من لدن الشارع الحكيم، فتبقى على أصلها من الإباحة، فللمكلف أن يأخذ بالعزيمة وإن تحمل المشقة، وله أن يأخذ بالرخصة (1).
والأصل أن الرخصة حكمها الإباحة، من حيث هي رخصة، وقد ينظر إلى الرخصة من جهة أنها إحياء للنفس فتكون عزيمة واجبة.
وبناءً على ما سبق فإن الترخص في مقابل مشقة لا صبر عليها مطلوب، وهو من حقوق الله تعالى، كالإبقاء على النفس، وحفظها من الهلكة.
والترخص في مقابل مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها هو من حقوق العباد وحظوظهم، فما طلبه الشارع بقطع النظر عن المشقة أو الحاجة فهو ملحق بالعزيمة، وما لم يطلبه الشارع فحكمه على الأصل، وهو الإباحة.
على أنه تجدر العناية بملاحظة أسباب الرخصة؛ فإن كان سبب الرخصة معصية فإن "الرخص لا تناط بالمعاصي"(2).
وذلك لأن فعل الرخصة متى توقف على وجود شيء، نظر في ذلك الشيء، فإن كان تعاطيه في نفسه حرامًا، امتنع معه فعل الرخصة وإلا فلا (3).
ومثال ما توقفت عليه الرخصة وكان في نفسه حرامًا: سفر العبد الآبق والمرأة الناشز، فالسفر في نفسه معصية، والرخصة منوطة به مع دوامه، ومعلقة ومرتبة عليه ترتب المسبب على السبب فلا تباح الرخصة معه، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، والمالكية (4).
(1) القواعد الأصولية عند الإمام الشاطبي، د. الجيلالي المريني، (ص 227 - 228).
(2)
الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 138).
(3)
المرجع السابق، (ص 140).
(4)
المرجع السابق، (ص 140)، الذخيرة، لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: د. محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، =