الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا قُدِّر لهذه العوارض أن تزول رجع الحكم إلى أصله الأول وزالت الكراهية، وكذا إذا قُوبلت هذه العوارض بأسباب أقوى منها زالت الكراهية، كأن يتحقق المسلم في بلاد الكفر من وقوعه في الزنا إن لم يتزوج، فيصبح الزواج في حقِّه أوجب؛ لأن درء مفسدة كبيرة محققة مقدم على درء مفسدة متوهمة، أو تحصيل مصلحة هينة.
إن مثل هذه الأمثلة في حياة الأقليات قديمًا تحمل فقهاءَنا المعاصرين على مواصلة العمل والبناء على ما سلف، وصرف العناية الأصولية والفقهية لاستخراج ضوابط فقهية، وقواعد منهجية لفقه الأقليات، ثم العمل على إحكامها من خلال المحاولات التطبيقية في آحاد المسائل التفصيلية التي تندرج تحت هذا النطاق، وبهذا يتحقق تأسيسٌ يستثمر ما سلف تدوينه من قواعد فقهية وقواعد أصولية، لإنشاء ضوابط فقهية في أبواب متعددة، بحيث يتكون من مجموع ذلك منهج فقهي أصولي متكامل يؤصل لفقه الأقليات، ويوجهه ليثمر ثماره في حياة تلك الأقليات بما يحقق مصالحها ومقاصدها الشرعية.
كل هذا مع التأكيد على أن فكرة التأصيل لهذه النوازل لا يمكن أن يتصدى لها إلا الفقهاء المتمهرون، والمجتهدون المتأهلون، فلا مجال لأن يتجاسر الجهال من العوام وأشباههم فيمتطون صهوة هذه الفكرة بما يُفضي إلى تكثير المفاسد والتحلل من رِيْقة التكاليف الشرعية، وتوهين عرى الدين، والانهزام أمام المادية الغربية أو الإلحادية العاتية.
ثانيًا: إقامة الدين بين الأقليات المسلمة:
إن الحفاظ على عقيدة مسلمي الأقليات وتطبيق شريعة الإسلام فيهم هو من أعظم أسباب إقامة الدين وحفظه بينهم؛ ومن هنا تبرز أهمية أن يجد هؤلاء المسلمون حلولًا لمشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية والفقهية داخل مجتمع المسلمين وفي دائرة دينهم، حتى يتمكنوا من صبغ حياتهم الخاصة بصبغة إسلامية في ظروف من التحدي والقهر المادي والمعنوي لتذويب الشخصية المسلمة بثوابتها العقدية والاجتماعية
والثقافية، بل وإن من حفظ أديان هؤلاء الأقليات: التأصيل والتنظير لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وإبراز محاسنه، فهذه الأصول والقواعد الحاكمة لفقه الأقليات يمكن استثمارها لهداية مجتمعات الأكثرية، بما يقوي شوكة أهل الإسلام ويحمي ظهور أبنائه.
وتجدر الإشادة بما حصل في مجتمع كمجتمع ماليزيا اليوم حيث ظهر المسلمون على أهل الملل الأخرى واكتسبت الدعوة إلى الإسلام أنصارًا في كل ميدان، فاندفعت غُربة الإسلام وعَزَّ أهله فسادوا وقادوا.
وبناء على ما سبق: فإن التأصيل لنوازل وفقه الأقليات لا يعني بناءً أصوليًّا علميًّا مجرَّدًا لاستنباط الأحكام الفقهية؛ وإنما يجمع إلى ذلك أصولًا وأبعادًا دعوية تقوم على أساس من تبليغ دعوة الإسلام ورسالته، وتحتل فيه مقاصد الدين الكلية ومراميه العامة الموقع المرموق.
ومرة أخرى فإن هذا التأصيل يخدم التطبيق العملي الذي يترجم عن صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان.
ولا ينبغي أن يصرف عن هذه المحاولة المهمة علاقة هذا الموضوع بالقانون الدولي في الإسلام، واتصاله بجانب من جوانب الفقه السياسي، والذي تعترضه عقبات عملية كثيرة بسبب غياب سلطان الإسلام السياسي أو تغييبه بتعبير أدق؛ لأن للفقه السياسي في الإسلام متطلباته الخاصة، وبيئته المناسبة، وضوابطه المحددة، وكل فقه ينشأ في غير بيئته المناسبة، أو لا تتوفر له متطلباته الخاصة، أو يصدر عن غير أهله -يبدو غريبًا ومضطربًا أحيانًا، أو مائلًا منحرفًا أحيانًا أخرى.
ومع التسليم بذلك كله وغيره من العقبات والصعوبات كغلبة التقليد وكثرة الجمود، وضعف الاجتهاد، وندرة المتأهلين لمرتبته؛ فإن نصوص الشريعة قائمة بين أيدينا وصلاحيتها للتطبيق تحت كل الظروف عقيدة قائمة في قلوبنا، فلم يبقَ إلا