الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات:
تعتبر هذه القاعدة من أهم القواعد الأصولية لفقه نوازل الأقليات المسلمة، فإن هذا الفقه لا يتأتى له أن يؤدي مهمته، ويحقق غايته، ويؤتي ثمرته إلا باجتماع فقه النصوص الشرعية، وفقه الواقع المعيش.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم: "لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم؛ أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا.
فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان صلى الله عليه وسلم بقوله: ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما إلى معرفة عين الأم" (1).
والفقيه الحق -كما قال ابن القيم في مقام آخر- هو الذي يزاوج بين الواجب والواقع، فلا يعيش فيما يجب أن يكون فقط، بل فيما هو كائن؛ ولهذا يعرف ما يفرضه الواقع من أحكام، فكثير ما ينزل من المثل الأعلى إلى الواقع الأدنى.
وهذا ما جعل ابن القيم يقرر وجوب تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والعرف والحال.
"إن واجب الفقيه أن يدرس الواقع دراسة علمية موضوعية، بكل أبعاده وعناصره ومؤثراته، بإيجابياته وسلبياته، ما له وما عليه.
ونريد بدارسة الواقع: أن يدرس على الطبيعة لا على الورق، بلا تهويل، ولا
(1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 87 - 88).
تهوين، فأعظم ما يؤثر في سلامة النظرة العلمية هو اللجوء إلى أسلوب المبالغة والتضخيم، الذي يجعل من الحبة قبة، أو من القط جملًا، كما يقول المثل، أو إلى الأسلوب المقابل، وهو التصغير والتهوين، ومحاولة التقليل من أهمية الأمر رغم خطورته، كما نشاهده في موقفنا من دولة العدو الصهيوني -إسرائيل- وكما نشاهده في موقفنا من الحضارة الغربية.
إننا أحيانًا نبني حكمنا الفقهي على معرفتنا بالواقع؛ فإذا أراد الفقيه أن يفتي في مسألة كالتدخين، فإنه يبني فتواه على رأي الطبيب، وتقرير المحلل، فإذا قال الطبيب: إن التدخين ضار بالصحة، خطرٌ عليها، فلا يسع الفقيه إلا أن يقول: هو حرام؛ لأنه لا يجوز للمسلم أن يضر نفسه باختياره، فلا ضرر ولا ضرار، ومناط الضرر قد تحقق برأي الطبيب، فوجب الإفتاء بالتحريم" (1).
ومن واجب هذا الفقه الواقعي، أو هذا الاجتهاد المعاصر: أن يعرف حقيقة الأقلية المسلمة التي يفتي لها، فلا شك أن الأقليات تتفاوت فيما بينها تفاوتًا بعيدًا.
فالأقلية التي يكون معظمها من الوافدين المهاجرين، غير الأقلية التي يكون معظمها من المواطنين الأصليين.
والأقلية المستضعفة غير الأقلية المتمكنة ذات المال والجاه والنفوذ.
والأقلية المحدودة العدد، غير الأقلية الكبيرة.
والأقلية الحديثة الوجود غير الأقلية العريقة التي لها مئات السنين.
والأقلية في البلاد الليبرالية التي تنعم بالحريات وحقوق الإنسان، غير الأقلية في البلاد الدكتاتورية التي لا تعترف للإنسان بحق ولا حرية، ولا ترقب في مؤمن إلًّا ولا ذمة.
(1) في فقه الأقليات، د. يوسف القرضاوي، (ص 45).
والأقلية المبعثرة المنقسمة على نفسها، المختلفة فيما بينها، باختلاف عروقها واتجاهاتها الدينية والفكرية، غير الأقلية المتماسكة المنظمة، التي أمست لها قياداتها ومؤسساتها الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية.
ويلزم الفقيه الذي يعالج الواقع في ضوء الشريعة أن يراعي هذا الواقع المتغير، فإن لكل واقع حكمه (1).
فلا بد في فقه الأقليات ولدى دراسة نوازلها من عملية تأهيل بفقه النص وتدريب على فقه الواقع لتحصل المزاوجة المنتجة، ولتخرج الفتاوي التي تعالج آلام الواقع الحقيقية، ولا تنقل همومًا بعيدة زمانًا أو مكانًا إلى مواقع مثقلة بإشكالات أخرى.
"وبحق يجب أن نأخذ بنصيحة د. المقري الإدريسي المغربي: لا يجوز نقل الفتوى في الفروع إلا بعد إعادة الاجتهاد فيها إذا عليها خمسون عامًا، أو تغير المكان ألف ميل، وهي إشارة جلية إلى أن كل عرف له أحكامه في الفروع، لا الثوابت والأصول، والقضية قطعية لا تحتاج إلى مزيد أدلة لكنها تحتاج إلى جهد جهيد لتحقيق مناطها في واقع المجالس الفقهية وتدريب الأئمة والقيادات الإسلامية حتى تصدر الفتوى من امتزاج فقه النصوص ومقاصدها الشرعية مع واقع المشكلات الحقيقية"(2).
وبالجملة فإن اختلاف الدار من دار الإسلام إلى غيرها أعمق أثرًا وأبعد مدى من التغير من صحراء إلى مدينة، ومن بدو إلى حاضرة، فإذا كان الفقهاء قد درجوا على رعاية التغير في الأحكام في مثل هذا، فلا شك أن رعاية هذا أولى في غير دار الإسلام.
وما أصَّله فقهاؤنا من تغير واختلاف في الأحكام لتغير معطيات الواقع، وما عبروا
(1) المرجع السابق، (ص 46).
(2)
الضوابط المنهجية لفقه الأقليات المسلمة، د. صلاح سلطان، (ص 29).
به من قولهم في هذا الاختلاف: إنه اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان -كل ذلك ليؤكد على أهمية هذه القاعدة الأصولية المعتبرة لدى التأصيل والتنظير لفقه نوازل الأقليات المسلمة.
وعليه فإذا كانت العادة والعرف لهما اعتبار في الشرع مع كثرة ما يطرأ عليهما من تغيير وتبديل بحسب الأزمنة والأمكنة وتطور أحوال الناس، فإن على العلماء مراعاة ذلك التغير، وخصوصًا حال الفُتْيَا في النوازل والوقائع المستجدة.
ولنختم بنقول مضيئة للعلامة القرافي المالكي رحمه الله حيث قال: "إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة"(1).
وقال أيضًا: "ينبغي للمفتي إذا ورد عليه مستفتٍ لا يعلم أنه من أهل البلد الذي منه المفتي وموضع الفُتيا ألا يفتيه بما عادته يفتي به حتى يسأله عن بلده، وهل حدث لهم عرف في ذلك البلد في هذا اللفظ اللغوي أم لا؟
وإن كان اللفظ عرفيًّا، فهل عُرْف ذلك البلد موافق لهذا البلد في عرفه أم لا؟
وهذا أمر متعين واجب لا يختلف فيه العلماء، وأن العادتين متى كانتا في بلدين ليستا سواء أن حكمهما ليس سواء" (2).
وقد قرر رحمه الله هذا المعنى في "الفروق" أيضًا، فقال: "وعلى هذا القانون تراعى الفتاوي على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك. . . والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل
(1) الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: عبد الفتاح أبي غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 2، 1416 هـ - 1995 م، (ص 218).
(2)
المرجع السابق، (ص 232).