الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقةٍ ولا عسرٍ، كما أمكن للإسلام تغيير بعض أحوال الأمم التي اعتنقته.
وفيما يأتي بيان لأهم أسباب تغير الفتيا والأحكام الاجتهادية في الشريعة الإسلامية:
المطلب الأول: الأسباب الذاتية لتغير الفتيا والأحكام الفقهية الاجتهادية:
أولًا: خصائص وقواعد الشريعة الإسلامية:
لقد تميزت الشريعة الربانية بمميزات كثيرة، وانفردت بخصائص فريدة تؤهلها للبقاء والصلاحية، والديمومة والثبات من جهة، والسعة والمرونة من جهةٍ أخرى.
فالقواعد ثابتة في كل زمان ومكان لا تقبل تبديلًا ولا تغييرًا، وما كان من الفتاوي والأحكام الاجتهادية مرتبطًا بالبيئات والظروف والأعراف والعادات أو المصالح ونحو ذلك فإنها تقبل التغير والاجتهاد، وهذا في ذاته من مظاهر المرونة، ومن دلائل الخصوبة.
كما أن الأحكام الاجتهادية لم تسرد سردًا ولم تستوعب ذكرًا في كتاب ولا سنة، وإنما عرضت أصول الأحكام ومعاقد الحلال والحرام، ثم فُتح باب الاجتهاد لتخريج الفروع على الأصول، ورد الجزئيات إلى الكليات، وقياس غير المنصوص على المنصوص، وهذا من شأنه أن يفتح باب السعة، ومراعاة الخلاف؛ ذلك أن الخلاف الذي ينشأ لأسباب تتعلق بالنصوص وفهمها، أو منهج الاستنباط منها، أو لتعارض أدلتها، أو لغياب النصوص فيها -دليل حيوية الفقه الإسلامي وصلاحيته.
ثم إن من أعظم ما يدل ويؤكد على قابلية تغير الفتيا والأحكام الاجتهادية ما تمهد من قطعيات الدين وبدهيَّاته أن هذه الرسالة هي الخاتمة، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو النبي الخاتم، وأن هذا الكتاب الكريم والشريعة المطهرة هما الناسخان لما سبقهما من الكتب والشراح، فالعالمية إذن من خصائص هذه الشريعة، قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ
جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وقال سبحانه وتعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]؛ وعليه فإن رسالة الإسلام تتجاوز حدود المكان والأزمان وبني الإنسان، وهذه الدعوة العالمية وهذه الشريعة الإلهية الخاتمة ترعى الثوابت والمحكمات في كل ميدان، وتتعامل مع قضايا ووسائل الاجتهاد بحسب معطياتها ومقدماتها؛ فلا تقف على رأي لا يتغير في هذا الباب أو ذاك، ولا تجمد على أسلوب أو وسيلة لا ترى غيرها، كما لا تتبنى مذهبًا فقهيًّا ناسب مكانَ نشأةٍ أو ظروفَ بيئةٍ ثم ترفع اجتهاداته إلى منزلة محكمات الشريعة وقطعيات الدين، فتخلط بين الموروث الفقهي والأصول الاعتقادية، أو بين الثابت والمتغير في الشريعة الإسلامية (1).
وقد حققت الشريعة هذه العالمية باستنادها إلى الفطرة والعقل، فأحكامها في العقل متسقة، ومع الفطرة ملتئمة، وهي تعتبر في الأحكام الكثير الغالب دون القليل النادر، تضع الأصول وترعى الأعراف، وتقيم المصالح (2).
ومن روافد مرونة هذه الشريعة المطهرة ما يتعلق بقواعدها الشرعية سواء منها الأصولية أو الفقهية، وفيها ما هو ثابت محكم لا يعتريه تغير أو تبديل، وفيها ما هو موضع نقاش بين العلماء، كقواعد دلالات الألفاظ وطرق دلالتها على الأحكام، والقواعد الأصولية المتعلقة بالخاص والعام والمطلق والمقيد، وقواعد الأمر والنهي عند الأصوليين.
وأما القواعد الفقهية الكلية فهي من جهة أغلبية، ومن جهة أخرى تؤصِّل بعضها للتغير في الفتاوي والاجتهاديات كقولهم في القواعد الكلية الكبرى:"العادة محكمة"(3).
(1) معالم في أصول الدعوة، محمد يسري، دار اليسر، القاهرة، ط 3، 1429 هـ - 2008 م، (ص 119) وما بعدها.
(2)
مرونة الشريعة الإسلامية وتطبيقها، الحبيب بالخوجة، مجلة الأمة، رييع الأول (1406 هـ)، (ص 66 - 69).
(3)
الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1403 هـ - 1983 م، (ص 7)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر، تحقيق وتعريب: المحامي فهمي الحسيني، دار الكتب العلمية، بيروت، مادة (36)، (1/ 40).
فهي تفيد مشروعية تغير الأحكام الاجتهادية والفتاوي في المسائل المتعلقة بالأعراف والعادات، وتلتحق بها في ذات السياق من القواعد قاعدة:"المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا"(1)، و"استعمال الناس حجة يجب العمل بها"(2).
ومن القواعد في هذا السياق: قول الفقهاء: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان"(3)، وهي تدل على أن الأحكام المرتبطة بعوامل متغيرة تقبل التغير ولا تمتنع عنه.
ومن القواعد أيضًا: ما يؤصل للتغير ولكن من جهات أخرى، وذلك مثل: ما يدل على تغير الأحكام بناء على ظهور العلل أو غيابها؛ فمن ذلك: "الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا"(4)، ونحو ذلك:"الحكم إذا أثبت بعلَّة زال بزوالها"(5).
وقد يتغير الحكم بتغير النيَّات والمقاصد؛ ولذا قعَّد الفقهاء قاعدة: "الأمور بمقاصدها"(6).
وقد يحصل تغير طارئ في الأحكام نتيجة الظروف القاهرة الطارئة؛ ولذا قعَّد الفقهاء من ضمن القواعد الكلية الكبرى: "المشقة تجلب التيسير" و"الضرورات تبيح المحظورات"(7).
وأخيرًا: فإنه وعلى الرغم من كونها قواعد كلية فقد قال بعض الفقهاء من الحنفية كابن نجيم إنه "لا يحل الإفتاء من القواعد والضوابط"(8)؛ لأنها ليست كلية؛ بل أغلبية، فلا يتأتى القول بإطلاقها؛ لوجود المستثنيات فيها من جهة، ولأن فيها ما هو مستنبط
(1) درر الحكام، لعلي حيدر، مادة (43)، (1/ 46).
(2)
المرجع السابق، مادة (37)، (1/ 41).
(3)
درر الحكام، لعلي حيدر، مادة (39)، (1/ 43)، الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، د. محمد صدقي بن أحمد البورنو، مكتبة المعارف، الرياض، ط 2، 11410 هـ - 1990 م، (ص 253).
(4)
القواعد الفقهية، لعلي أحمد الندوي، دار القلم، دمشق، ط 1، 1406 هـ - 1986 م، (ص 227).
(5)
قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (2/ 8)، القواعد الفقهية، للندوي، (ص 117، 388).
(6)
الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 8) القواعد الفقهية، للندوي، (ص 100).
(7)
القواعد الفقهية، للندوي، (ص 270).
(8)
غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر، لأحمد بن محمد الحموي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1405 هـ - 1985 م، (8/ 301).
من أحكام فرعية وليس من نصوص شرعية، إلا أنه ينبغي للمفتي أن يكون ملمًّا بها مطلعًا عليها، حتى يتأتى له ضبط المسائل وتتبع جزئيات الأحكام وجمعها في نسق واحد.
ثانيًا: مقاصد الشريعة:
للشريعة المطهرة غايات عُليا تأتي بعد مرتبة النصوص، وهي أنواع خمسة ثبتت بالاستقراء للنصوص والأحكام والأدلة والتصرفات الشرعية؛ بحيث صارت معلومة من الدين بالضرورة؛ إذ الشريعة موضوعة لحفظ أديان الناس في عقائدهم وشرائعهم، وإقامة أبدانهم وصيانتها والإبقاء على مهجهم، وحفظ عقولهم، ونماء أموالهم، وصون أعراضهم ونسلهم.
وهذه المقاصد على ثلاث مراتب: ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات، وقد جاءت الشريعة الغراء بحفظ كل من هذه المقاصد في مراتبها الثلاث، وتقديم الضروري منها على غيره، وتقديم الحاجيِّ منها على التحسيني.
وقد جاءت الشريعة بتشريع ما يقيم الدين ويحفظ على الناس أصوله وفروعه، فعنيت بأحكام العقائد وبيان أحكام أركان الإسلام والإيمان، وشرعت الطهارة وبينت أحكامها، ورغبت في النوافل والاستكثار منها، كما شرعت الحدود لحفظ المحارم وصيانة الأديان، كما جاءت الشريعة بحفظ الأنفس بإقرار حرمتها وتكريمها وتحريم إلحاق الأذى بها، وشرع القصاص لاستدامة الحياة، وأُبيحت الطيبات وسُنَّت آداب الأكل والشرب، والترفه بالمباحات في غير إسراف (1).
كما شرعت الأحكام التي من شأنها حفظ العقل، ورعاية مصالحه الضرورية والحاجية والتحسينية، وذلك بالدعوة للتفكير والتدبر في آيات الله المتلوة وآياته تعالى المجلوَّة، والنظر والتدبر في صفحة الكتاب المسطور، والكون المنظور، وبالدعوة للتعلم والتعقل، كما حُفظ العقل بتحريم تغييبه بمسكر أو مخدر، وتشريع العقوبات اللازمة لحمايته.
(1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 16 - 17)، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، د. محمد سعيد رمضان البوطي، المكتبة الأموية، دمشق، ط 1، 1386 هـ - 1996 م، (ص 121) وما بعدها.
وحفظت العرض والنسل بتشريع الزواج وتحريم الزنا، وتيسير مقدمات الزواج ومؤنته، وتحريم مقدمات الزنا ووسائله، وضبط ما يتعلق بالعلاقة بين الزوجين والحقوق المستحقة بناءً على هذه العلاقة، وما يتعلق بحقوق الأبناء على الآباء ونحو ذلك.
وسنت الشريعة الأحكام التي تحفظ المال وتُنمِّيه وتُثمره، ووضعت الحدود التي تردع عن سرقته أو خيانته، ورغَّبت في العمل والاكتساب، وحذَّرت من التواكل والإعراض عن الأسباب، وجُلِّيت أحكام المعاملات باختلاف أنواعها، وعُدَّت آدابها وحُدَّت ضوابطها، وحَذَّرت من إضاعة المال ومَنَعَتْ من احتكاره.
كما كفلت الشريعة عدم الإكراه على الدين، وحق التفكير والتعبير والمناصحة والتذكير والدعوة إلى الخير (1).
واعتبار المقاصد له أهميته في تغير الأحكام، كما تجدر الإشارة إلى أهمية التوازن بين النظر إلى الألفاظ ورعاية المقاصد؛ ولهذا ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه لا عبرة بصورة الأسباب الشرعية الخالية من المعاني التي تضمنتها، كما أنه إذا تغير مدلول اللفظ وأصبح خلوًا من معناه الذي شرع الحكم لأجله؛ فإن الحكم يتغير بتغيره، كما أنه لا اختلاف بين الفقهاء على أن تغيير الأسماء والألفاظ الدالة على معانٍ أو أعمالٍ أو ذواتٍ معينةٍ لا يغير أحكام تلك الأشياء.
يدل على ذلك حديث: "ليشربنَّ ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها"(2)، وقد قعَّد الفقهاء
(1) مقاصد الشريعة ومكارمها، لعلال الفاسي، دار الغرب الإسلامي، ط 5، 1993 م، (ص 248)، وما بعدها، مقاصد الشريعة الإسلامية، لمحمد الطاهر ابن عاشور، الشركة التونسية للتوزيع، قرطاج، ط 3، 1988 م، (ص 133 - 135).
(2)
أخرجه: أبو داود، كتاب الأشربة، باب: في الداذي، (3688)، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب: العقوبات، (4020)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه. قال الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية في "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان"، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1395 هـ / 1975 م، (1/ 261، 347): "إسناده صحيح".
قاعدة: "الأمور بمقاصدها" وقاعدة: "العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني"(1).
ولقد تألَّف النبي صلى الله عليه وسلم قومًا على الإسلام يوم كان المسلمون بحاجة إلى دعم الوجهاء والكبراء في القبائل والعشائر؛ فأعطى كلًّا من أبي سفيان بن حرب، والأقرع بن حابس، والعباس بن مرداس، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، مائةً من الإبل تأليفًا لقلوبهم على الإسلام (2)، حتى قال صفوان:"والله لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ"(3).
وكذلك أعطى أبو بكر رضي الله عنه عدي بن حاتم رضي الله عنه، والزبرقان بن بدر رضي الله عنه لمكانتهما في قومهما، وكانا مسلمين.
فلما كان عهد عمر وظهر الإسلام وقوي، وصار للمسلمين شوكة ومنعة، رأى عمر ألَّا يعطي المؤلفة قلوبهم شيئًا على الإسلام (4)؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تألفهم على الدخول في الإسلام والثبات عليه، فلا يكون ذلك سنة دائمة، فأوقف عمر رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة، لما رأى من تبدل الأحوال واستغناء الإسلام عنهم.
وليس ذلك نسخًا لهذا الحكم، وإنما هو تصرف من عمر رضي الله عنه في تنزيل الحكم
(1) المدخل الفقهي -القواعد الكلية، لأحمد الحجي الكردي، دار المعارف للطباعة، 1399 هـ، (ص 18).
(2)
أخرجه: مسلم، كتاب الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر مَن قوي إيمانه، (1060)، من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.
(3)
أخرجه: مسلم، كتاب الفضائل، باب: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال لا، وكثرة عطائه، (2313)، من حديث صفوان بن أمية رضي الله عنه.
(4)
أخرجه: الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في "التاريخ الصغير"، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1406 هـ، (1/ 81) -مختصرًا-، وأبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي في "المعرفة والتاريخ"، تحقيق: د. أكرم ضياء العمري، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط 1، 1410 هـ، (3/ 372). وأبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"، تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، (2/ 305)، من حديث عبيدة قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر. . . فذكر القصة. قال ابن حجر "الإصابة"، (1/ 102):"إسناده صحيح".