الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غيرهم ممن لا يدين بالإسلام من الناس، وقام ذلك كله على أساس أن سلطان الشريعة هو السلطان القيِّم الذي تنفذه ضمائر الأفراد فيما هو من خصائص الضمائر، والهيئة الجماعية متمثلة في الدولة فيما هو من خصائصها.
والأقليات المسلمة قد تتمكن من إقامة الإسلام فيما بينها إلا أنها في علاقاتها مع المجتمع بعد ذلك تكون خاضعة لغير سلطان الشريعة من أنظمة اجتماعية أو قانونية أو ثقافية ينخرطون فيها -اضطرارًا- ويكون السلطان فيها لدين غير دينها، ويلي أمورها ويحكمها من لا يؤمنون بالإسلام ولا يطبِّقون شريعته بين الناس.
وقد كان حظ هذه الحال من أحوال الوجود الإسلامي من التفصيل في نصوص الوحي أقل من حظ تلك الحال التي يكون فيها ذلك الوجود جاريًا على سلطان الشريعة في شئون الجماعة كلها؛ إذ كان ما يتعلق به راجعًا إلى تصرف الفرد المسلم أو الجماعة المسلمة في ذلك الوضع -مع المجتمع الذي انخرطوا فيه والسلطان الذي انضووا تحته- على قدر من الكلية والإجمال والهدي العام، ولعل من حكمة الله تعالى في ذلك أن الوضع الذي يكون فيه للدين سلطان على الجماعة هو وضع منضبط ثابت مستقر، فناسبه البيان التفصيلي، وأما الوضع الذي يكون فيه الوجود الإسلامي خاضعًا لسلطان غير سلطان الدين فإنه وضعٌ استثنائي، متنوعةٌ أحواله، مستجدةٌ فصوله على غير انضباط، فناسبه إذن الهدي العام دون تفصيل؛ ليكون للاجتهاد المنضبط مجاله في الوصول إلى مراد الله تعالى على ضوء ذلك الهدي العام وقواعد استنباط الأحكام، وهو الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى تأصيلٍ مفصَّلٍ لأحكام تلك الأحوال الطارئة، وفيما يلي تركيز لنقاط تمثل أهمية هذا التأصيل، وتؤكد مسيس الحاجة إليه:
أولًا: حفظ كيان الأقليات المسلمة:
لا شك أن الأقليات المسلمة في عدد من البلدان اليوم تسعى إلى الحفاظ على هويتها
وعقيدتها، وتستفيد من معطيات زمانها ومكانها لترسيخ أقدامها وتقوية شوكتها، الأمر الذي يحتم -في ظل وجود تعقيدات كثيرة- أن يتشكل ما يمكن أن يسمى "بفقه الأقليات".
"وفقه الأقليات" فقه يتعامل مع حالةٍ تتفاوت تفاوتًا بينًا من استضعاف مطلق يفتح بابًا للترخص والتعامل مع الحالات الاستثنائية، إلى تأسيس لوضع مستقرٍّ وفاعل في الحياة بشكل عام، وهو فقه لا يمكن أن يغفل طبيعة الأرض التي تعيش عليها الأقلية المسلمة، ولا التحديات التي تواجهها، فهو فقه صحيح الاستمداد من الشريعة، وثيق الارتباط بأصولها ونصوصها، ومشدود العُرى بروحها، يراعي الظروف الطارئة والأحوال الاستثنائية، ويعتبر تلك الخصوصية للأقلية، بما يحقق المصالح ويكثِّرها، ويدفع المفاسد ويقللها، دون أن يكون من مقصوده تتبع الزلات، أو العمل بالهفوات.
"لقد كان دأب النظار من الفقهاء المجتهدين في كل زمان أن يعالجوا الأحوال الطارئة في حياة المسلمين بالحلول الشرعية، وأن يوسعوا الاستنباط الفقهي بالنسبة لتلك الأحوال التي لا يكون فيها من نصوص الوحي تفصيل، مثل حال الأقليات المسلمة التي أشرنا إليها، بل كان من دأبهم أن ينتقلوا بالنظر الفقهي من تشريع الأحكام التفصيلية في معالجة تلك الأحوال إلى تأسيس القواعد والأصول المنهجية التي توجِّه ذلك النظر وتكوِّن له ميزانًا هاديًا يتحرى به ما يريده الله تعالى من أحكام في ترشيد الحياة، وتلك مهمة أدَّى فيها الاجتهاد الفقهي في شأن أوضاع الأقليات المسلمة التي أفرزتها التطورات الماضية للتاريخ ما تيسر له أن يؤدِّي، وهي اليوم في شأن الأقليات المسلمة ملقاة على عاتق النظار من الفقهاء والمجتهدين المعاصرين بأشد وأثقل مما كانت ملقاة على عاتق السابقين؛ وذلك لما حصل في هذا الشأن من تطور لم يكن له في السابق مثيل"(1).
(1) نحو منهج أصولي لفقه الأقليات، د. عبد المجيد النجار، المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، العدد الثالث، ربيع ثاني 1424 هـ، فبراير 2003 م، (ص 45).
وإذا كان الفقهاء القدامى كمحمد بن الحسن الشيباني رحمه الله في كتابيه "السير الصغير" و"الكبير" قد عرض لأحوال المسلمين وأحكامهم في دار الحرب أو الهدنة والصلح بما يكفي ويشفي، وبما يحقق حيوية الفقه في زمنه، ويؤكد على مواكبة الاجتهاد لحياة الناس، وملاحقة التطور الاجتماعي والتحولات في أنماط الحياة البشرية، ويحقق مصالحها من خلال نصوص وقواعد هذه الشريعة المطهرة، فإن فقهاء أهل هذا الزمان يُدْعون لمواصلة البناء الفقهي الاجتهادي لما يمكن تسميته بفقه الأقليات، وتوجيه العناية بعدئذٍ إلى نوازل تلك الأقليات وأقضيتهم.
ومن هذه النقطة يبدأ تقرير أهمية التأصيل لهذا الفقه؛ حيث إن الحاجة تمس إلى امتلاك أهل الإسلام لمدونة فقهية معاصرة لنوازل الأقليات المسلمة على اختلاف أحوالهم وتنوع مشكلاتهم، ودقة ظروفهم؛ لتشمل ما به حفظ عقائدهم وهوياتهم الفكرية، وضبط علاقاتهم الاجتماعية، وتصرفاتهم الاقتصادية، وسائر شئونهم فيما له صلة بالمجتمع غير المسلم الذي يعيشون فيه، ويتعاملون معه، ويخضعون لسلطانه.
وهذا التأصيل الذي مست الحاجة إليه في هذا الزمان لا يعني ابتداعًا لقواعد أصولية تفضي إلى تحريمِ ما أحلَّ الله أو إباحةِ ما حرَّم الله؛ إذ الأمر كما يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "الحلال في دار الإسلام حلال في بلاد الكفر، والحرام في بلاد الإسلام حرام في بلاد الكفر"(1).
وإن كان قد وقع اختلاف في الأحكام نتيجةً لعوارض وقعت، ومستجدات ظهرت، فليس لمنازعة في الأصل الذي قرره الشافعي رحمه الله بدلالة آيات الكتاب العزيز وأحاديث السنة المطهرة.
(1) الأم، للشافعي، (9/ 237).
وعلى سبيل المثال: فحين اختلف الفقهاء في إقامة الحدود في بلاد الكفر، كان سببه عند المانعين -وهم الحنفية- أن إقامة الحدود مرهونة بوجود سلطان المسلمين، فَبِه تُستوفى الحدود وبعدمه لا يمكن استيفاء الحدود (1).
وحيث خلت بلاد الكفر عن المنعة والسلطان سقطت فيها الحدود، وهذا الحكم ليس مختصًّا ببلاد الكفار الأصليين، فحتى بلاد الإسلام إذا انحسرت عنها سيادة الشريعة وحلَّت محلَّها الشرائع الغربية تسقط فيها الحدود؛ لخلوها من المنعة والسلطان، إلا أن يقوم بها أهل الحل والعقد حال تمكنهم بعد اجتماعهم.
وحين ذهب الفقهاء من الحنفية (2) والمالكية (3) والشافعية (4) والحنابلة (5) إلى كراهية تزوج المسلم من كتابيةٍ في دار الكفر؛ بل حتى من مسلمة (6) -عند بعضهم-؛ لم يكن ذلك لمنازعتهم في الأصل الذي ذكرناه؛ وإنما لعوارض أخرى، وهي ما يسببه هذا الزواج من محذورات شرعية، كأن يدفعه الزواج إلى استيطان بلاد الكفر، والرغبة عن بلاد الإسلام، وتكثير سواد المشركين، أو مخافة أن يبقى له نسل في بلاد الكفر فيفتن عن دينه.
(1) بدائع الصنائع، للكاساني، (7/ 131)، شرح فتح القدير، لكمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام، دار الفكر، بيروت، لبنان، (5/ 266).
(2)
شرح فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 228)، البحر الرائق، لابن نجيم، (3/ 111).
(3)
مواهب الجليل، لشرح مختصر خليل، لأبي عبد الله محمد بن محمد المغربي المعروف بالحطاب الرعيني، تحقيق: الشيخ زكريا عميرات، دار عالم الكتب، 1423 هـ - 2003 م، (5/ 135)، حاشية الدسوقي، (2/ 267).
(4)
مغني المحتاج، للشربيني (3/ 187)، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، لشمس الدين محمد بن أحمد بن شهاب الدين الرملي، دار الفكر، ببيروت، 1404 هـ - 1984 م، (6/ 290).
(5)
كشاف القناع، للبهوتي، (5/ 84)، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، (8/ 135).
(6)
قاله الشافعي في الأم (5/ 655).