الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثانية: يقوم أهل الحل والعقد عند الاقتضاء مقام الإمام ونائبه:
المعنى العام للقاعدة:
هذه القاعدة قاعدة فقهية مستنبطة من كلام علماء السياسة الشرعية والولايات العامة أولًا، ثم مما قرره فقهاء المالكية ثانيًا.
ومصطلح أهل الحل والعقد أطلقه أبو الحسن الأشعري (1) المتوفى سنة 324 هـ (2)، ثم ذكره أبو بكر الباقلاني المتوفى سنة 403 هـ (3) ثم أبو الحسن الماوردي المتوفى سنة 450 هـ (4)، ثم شاع بعد ذلك وذاع في كتب السياسة الشرعية، والفقه والأصول وعلم العقيدة، وغيرها من العلوم.
وقد ارتبط هذا المصطلح بمصطلحات أخرى تقاربه في معناه، مثل:"أولو الأمر"، "أهل الاختيار"، "أهل الشورى"، "أهل الشوكة"، "أهل الاجتهاد"، "أهل الرأي والتدبير" وغيرها من مصطلحات في باب السياسة الشرعية.
والمقصود بأهل الحل والعقد -اصطلاحًا- ما قاله النووي رحمه الله: "وتنعقد الإمامة بالبيعة، والأصح بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم". (5)
(1) أبو الحسن، علي بن إسماعيل بن أبي بشر، الأشعري المتكلم صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملحدة وغيرهم من المعتزلة، والرافضة، والجهمية، والخوارج، وسائر أصناف المبتدعة، من مصنفاته: تبيين كذب المفتري، ومقالات المسلمين، والإبانة عن أصول الديانة، ولد سنة 260 هـ، وتوفي سنة 324 هـ. تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، (13/ 260)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (15/ 85).
(2)
الإبانة، لأبي الحسن الأشعري، (ص 251).
(3)
في كتابه تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، لمحمد بن الطيب الباقلاني، تحقيق: عماد الدين أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1407 هـ - 1978 م، (ص 467).
(4)
الأحكام السلطانية والولايات الدينية، لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، تحقيق: د. أحمد مبارك البغدادي، دار ابن قتيبة، الكويت، ط 1، 1409 هـ - 1989 م، (ص 6).
(5)
نهاية المحتاج، للرملي، (7/ 410).
وهذا ما تابعه عليه أكثر المتأخرين أيضًا، يقول الشيخ محمد عبده:"وهم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند، وسائر الرؤساء والزعماء، الذين يَرجع إليهمُ الناسُ في الحاجات والمصالح العامة"(1).
وإلى قريب منه ذهب الشيخ محمود شلتوت (2)، فقال:"أهل الحل والعقد هم أولو الأمر الذين يمثلون الأمة ويختارون باسمها الخليفة، وهم أهل العلم والرأي والخبرة في كل ناحية من نواحي النشاط الحيوي بالأمة"(3).
وقد وقع بعض الخلاف اليسير في المقصود بذلك، وكان ينبغي ألا يقع خلاف فيه، يقول الشيخ محمد رشيد رضا:"كان ينبغي أن تكون تسميتهم بأهل الحل والعقد مانعة من الخلاف فيهم؛ إذ المتبادر أنهم زعماء الأمة وأولو المكانة، وموضع الثقة من سوادها الأعظم، بحيث تتبعهم في طاعة من يُوَلَّونَ عليها فينتظم به أمرها، ويكون بمأمن من عصيانها وخروجها عليه". (4)
والحاصل أن هذا الاصطلاح متعارف عليه بين علماء الشريعة دلت عليه الآيات الكريمات الآمرة بمشورة العلماء والحكماء، وأصحاب الكفاية والدراية، كما دلت عليه الآيات الواردة في شأن مسئولية أهل العلم وبيان مرجعيتهم، والأمر باتباعهم وسؤالهم، كما نبهت عليه الآيات الآمرة بالانتصاب للدعوة والاجتماع على الأمر والنهي، مع النصح لأئمة المسلمين وعامتهم.
(1) تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا، (5/ 181).
(2)
الشيخ محمود شلتوت: فقيه مفسر مصري تخرج بالأزهر سنة 1918 م، وتنقل في التدريس إلى أن نقل للقسم العالي بالقاهرة سنة 1927 هـ، وكان داعية إصلاح نير الفكرة، ترقى في المناصب الشرعية حتى عُيِّنَ شيخًا للأزهر سنة 1958 م، له مصنفات كثيرة، منها: توجيهات الإسلام، والإسلام عقيدة وشريعة، والإسلام والتكافل الاجتماعي، ولد سنة 1310 هـ، وتوفي سنة 1383 هـ الأعلام، للزركلي، (7/ 173).
(3)
من توجيهات الإسلام، للشيخ محمود شلتوت، (ص 568).
(4)
الخلافة، لمحمد رشيد رضا، (ص 18).
كما تقضي به قواعد الاجتماع والعمران البشري، والسياسة الشرعية، من كونهم ممثلين عن الأمة في النظر لها والقيام بمصالحها من تولية أئمتها ومحاسبتهم وعزلهم، وقد ذكر الماوردي (1) وأبو يعلى (2) ثلاثة شروط لأهل الحل والعقد بصفتهم أهل الاختيار والبيع، وهي:
1 -
العدالة الجامعة لشروطها.
2 -
العلم الذي يُتَوَصَّلُ به إلى معرفة من يستحق الإمامة.
3 -
الرأي والحكمة المؤديان إلى معرفة الأصح للإمامة.
وذلك بعد الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والذكورة (3).
واشترط بعضهم سكنى دار الإسلام؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72](4).
فمن اجتمعت فيه هذه الصفات الأساسية فقد صار منهم، ثم هم يتفاوتون بحسب صفاتهم التكميلية، ومنها: الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، والخبرة والتجربة والورع. (5)
وأهل الحل والعقد هم وكلاء الأمة ونوابها في عقد الأمور الكبيرة العظيمة وحلها، وهذا العمل الجليل يعقد لهم ولاية ونفوذًا للكلمة في عموم الأمة.
ومما يُستأنس به للدلالة على معنى قيام النقباء والوكلاء عن الأمة ما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال -حين أذن له المسلمون في عتق سبي هوزان-: "إني لا أدري من أَذِنَ منكم
(1) الأحكام السلطانية، للماوردي، (ص 4).
(2)
الأحكام السلطانية، للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن الفراء، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1421 هـ - 2000 م، (ص 19).
(3)
غياث الأمم، للجويني، (ص 48 - 50).
(4)
نظرية الإسلام وهديه، لأبي الأعلى المودودي، (ص 298).
(5)
غياث الأمم، للجويني، (ص 66)، نظرية الإسلام وهديه، (ص 300) وما بعدها.
ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم" (1).
فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أن الناس قد طيبوا وأذنوا. وهو يدل على مشروعية إنابة البعض عن الكل.
فالعلاقة إذن وكالة صريحة أو ضمنية بينهم وبين الأمة. (2)
فيقومون نيابة عن الأمة في اختيار الأصلح للإمامة العظمى، قال الماوردي:"فإذا اجتمع أهل الحل والعقد للاختيار تصفَّحوا أحوال الإمام الموجودة فيهم شروطها، فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلًا، وأكملهم شروطًا، ومن يُسرع الناس إلى طاعته، ولا يتوقفون عن بيعته"(3) وعلى الإمام أن يشاورهم ويرجع إليهم في أمور المسلمين العامة ولا يستبد برأيه دونهم، قال ابن خويز رحمه الله (4): "واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكُتَّاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها (5).
كما أن عليهم أن يعلنوا بعزل الإمام إذا وقع منه كفر صراح، قال ابن حجر:"ينعزل (يعني الإمام) بالكفر إجماعًا، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض"(6).
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الأحكام، باب: العرفاء للناس، (7176، 7177).
(2)
النظريات السياسية، د. محمد ضياء الدين الريس، (ص 222)، رئاسة الدولة في الفقه الإسلامي، د. محمد رأفت عثمان، (ص 257).
(3)
الأحكام السلطانية، للماوردي، (ص 7).
(4)
أبو عبد الله، محمد أبو بكر بن أحمد بن عبد الله بن خويز منداد، المالكي، من مصنفاته: كتاب كبير في الخلاف، وكتاب في أصول الفقه، وكتاب في أحكام القرآن، توفي سنة 390 هـ. ترتيب المدارك، للقاضي عياض، (7/ 77)، والديباج المذهب، لابن فرحون، (2/ 229).
(5)
تفسير القرطبي، (4/ 250).
(6)
فتح الباري، لابن حجر، (13/ 123).
وقال إمام الحرمين رحمه الله: "الإسلام هو الأصل والعصام، فلو فرض انسلال الإمام عن الدين لم يَخْفَ انخلاعُهُ، وارتفاعُ منصبه وانقطاعه، فلو جدَّدَ إسلامًا لم يَعُدْ إمامًا إلا أن يُجَدَّدَ اختيارُهُ"(1).
فإن خلا الزمان عن إمام أو نائبه لموت أو فقد حسي بالأسر أو نحوه، أو فقدٍ شرعيٍّ بالكفر، أو بترك تحكيم الشريعة واستبدالها، آل الأمر إلى أهل الحل والعقد، وعادت الولاية العامة إليهم. قال الجويني:"فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطانٍ ذي نجدة واستقلال وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحقٌّ على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يَرجعوا إلى علمائهم، ويَصْدُروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك فقد هُدُوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاةَ العباد، فإنْ عسر جمعهم على واحد استبدَّ أهل كل صقع وناحية باتباع عالمهم"(2).
وعليه فإن شغور الزمان عن إمام يُعيدُ السلطان إلى الأمة ممثلةً في أهل الحل والعقد فيها، فتصدر عنهم وتأخذ بقولهم؛ حيث صاروا نوابها في إقامة دينها وحفظ أمرها، حتى يجتمعوا على واحد يبايعونه إمامًا.
وعلى ما تقدَّم فإن معنى هذه القاعدة: أن واجبات الإمام لا تسقط بغيابه أو بفقده، إنما تصير إلى نواب الأمة من أهل الحل والعقد، فيقومون بالواجبات العلمية والاجتماعية والسياسية والدينية حتى ينصب الإمام.
(1) غياث الأمم، للجويني، (ص 75).
(2)
المصدر السابق، (ص 282).