الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: تعريف تغير الفُتيا والاجتهاد والفرق بينه وبين النسخ:
التغير لغة: التبدل والتحول والانتقال، نقول: تغير الشيء، أي: تحوَّل، وغَيَّره: جعله غيرَ ما كان، حوَّله وبدَّله، وغيرت الشيء: بدلته، وغيرت دابتي وثيابي، أي: جعلتها على غير ما كان، وغيرت داري: بنيتها بناء غير الذي كان (1).
ومعنى (تغير الفُتيا) في الاصطلاح الشرعي لا يبعد عن المعنى اللغوي السابق، فهو: التحول والانتقال -عند الإفتاء في مسألة- من حكم سابق كان مناسبًا لها في وقت أو حال إلى حكم آخر لتبدل الوقت أو الحال.
والأفضل ألا يعبر عنه بلفظ (تغيير)؛ لأن كلمة (تغيير) تستعمل كثيرًا بمعنى الإزالة والرفع، وتغير الفتيا ليس فيه إزالة ولا رفع، بل هو مجرد انتقال وتحول من حكم إلى حكم، مع بقاء الحكم ذاته.
فالتعبير عن تغيُّر الفُتيا بلفظ (تغيير الفُتيا) لون من التساهل؛ لأنه قد يفيد -أو يفهم منه على الأقل- زوال الحكم، بينما الحكم لا يزول، بل يبقى ما بقيت شريعة الله تعالى.
وكذلك التعبير عنه بمصطلح "تغير الأحكام" أو بقاعدة: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان" فيه -أيضًا- قدر من المسامحة؛ لأن الذي يتغير هو الفُتيا، أما الأحكام فلا تتغير ولا تتبدل، فالحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييرًا أو وضعًا، والقول بإمكانية تغير الحكم الشرعي مكافئ للقول بإمكانية
(1) لسان العرب، لابن منظور، (10/ 155)، تاج العروس، لمحمد بن محمد عبد الرزاق الزبيدي، تحقيق: مجموعة من المحققين، وزارة الإرشاد والأنباء، الكويت، ط 2 مصورة، 1415 هـ - 1994 م، (13/ 286).
تغير خطاب الله تعالى، وقد تُوعد المبدلون لأحكام الله المغيِّرون لشرعه بالإبعاد والهلاك يوم القيامة، ففي الحديث الصحيح:"ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا"(1).
وتغير الفتيا شيء مخالف تمام المخالفة للنسخ؛ لأن النسخ رفع للحكم وإلغاء ومحوٌ له، وهذا لا يملكه أحد سوى الله عز وجل، ومن ثم لا يمكن أن يحدث إلا في زمن النبوة قبل اكتمال التشريع، أما بعد اكتماله وبعد أن لَحِقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى فلا يتحقق أبدًا.
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخًا، ولا تخصيصًا لعمومها، ولا تقييدًا لإطلاقها، ولا رفعًا لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال، بل ما أثبت سببًا فهو سبب أبدًا لا يرتفع، وما كان شرطًا فهو أبدًا شرط، وما كان واجبًا فهو واجب أبدًا، أو مندوبًا فمندوب، وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك"(2).
وقد عرف الأصوليون النسخ بأنه: "رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر"(3).
ومن خلال النظر في هذا التعريف وفي تعريف (تغير الفتيا)، ومن خلال الدراسة لأحكامهما
(1) أخرجه: البخاري، كتاب المساقاة، باب: من رأى أن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه، (2367)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، (249) -واللفظ له-، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه قصة.
(2)
الموافقات، للشاطبي، (1/ 78 - 79).
(3)
مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل، لأبي عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر المعروف بابن الحاجب، تحقيق: د. نذير حماد، دار ابن حزم، ط 1، 1427 هـ - 2006 م، (2/ 971).
وشروطهما وضوابطهما وأمثلتهما يتبين لنا أن النسخ وتغير الفتيا يلتقيان في وصفين (1):
الأول: أن كلًّا منهما يراعى فيه المصلحة ومقاصد التشريع.
الثاني: أن كلًّا منهما يتحقق فيه الانتقال من حكم إلى حكم، وترك الحكم الأول إلى الثاني.
ولكنْ بينهما فروق جوهرية، أهمها:
1 -
أن النسخ رفع للحكم ومحوٌ له، بحيث لا يمكن أن يعود مرة ثانية للتعلق بالحادثة أو الواقعة أو الشيء المحكوم عليه، أما تغير الفتيا فليس فيه رفعُ الحكم ولا محوٌ له، وإنما هو عبارة عن ترك الحكم -في مسألة أو نازلة- إلى حكم آخر انتقالًا فقط، وليس لإزالة الحكم الأول؛ بل يبقى الحكم الأول، حتى إذا ما تغير الحال وعاد واقع المسألة لما يناسب الحكم الأول عاد الحكم فتعلق بها.
يقول الشاطبي رحمه الله: "وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها"(2).
2 -
أن النسخ لا يملكه إلا الله تبارك وتعالى الذي قال: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، فما أثبته الله في الكتاب والسنة لم يجز لأحد أن يمحوه، وما نسخه الله تعالى في كتابه أو سنة رسوله لم يملك أحد أن يثبته، أما تغير الفُتيا فيملكه كل مجتهد؛ لأنه ينظر إلى الأحكام التي دورانها على المصلحة أو على العوائد، فإذا ما تغيرت المصلحة أو تبدلت العوائد نظر إلى ما يناسبها من الأحكام
(1) تغير الفتوى بتغير الحال في الشريعة الإسلامية، لسيد إبراهيم درويش، رسالة دكتوراه مخطوطة بكلية الشريعة والقانون، جامعة الأزهر، القاهرة، 1406 هـ - 1986 م، (ص 37).
(2)
الموافقات، للشاطبي، (2/ 286).
فانتقل إليه.
3 -
أن النسخ لا يكون إلا في زمن الوحي، ولا يمكن أن يقع بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا بإجماع العلماء (1)، أما تغير الفُتيا فيكون في زمن الوحي كما يكون بعده في جميع الأزمان؛ لأن موضوعه هو الأحكام التي تدور مع العوائد أو المصالح، وسببه هو تغير العوائد أو تبدل المصالح، وهذا مستمر أبدًا.
هذه أهم الفروق وهناك فروق أخرى وقد اكتفي بما هو أهم تجنبًا للإسهاب والإطالة.
(1) مراتب الإجماع، لابن حزم، (ص 174، 175).