الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامسًا: شواهد العقل والحس:
إن برهان صلاحية الشريعة قائم في الواقع فإن بقاءَها صالحةً لكل زمان ومكان وإنسان، وتطبيقها في كافة الأمصار أمرٌ يدل على انطوائها على مصالح العباد واستجابتها لحاجاتهم، وموافقتها لفطرهم السليمة، وعقولهم المستقيمة.
صيغ مشابهة للقاعدة:
عبَّر الشاطبي عن هذه القاعدة بتعبيرات عدة تتفق في جوهرها مع قاعدة ابتناء الشريعة على المصالح، فمن ذلك:
"التكليف كله إمَّا لدرء المفاسد، وإما لجلب المصالح، أو لهما معًا، فالداخل تحته مقتضٍ لما وضعت له"(1).
"الأعمال الشرعية غير مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخرى هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها"(2).
"الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح، كما أن الأسباب المشروعة أسباب للمصالح لا للمفاسد"(3).
فكل فعل طاعة أَمَرَ به الشارع فهو سبب لتحقيق مصلحة؛ ولذلك أمر به، وكل فعل معصية نهى عنها فهو سبب لتحقيق مفسدة؛ ولذلك نهى عنه.
"المفهوم من وضع الشارع أن الطاعة والمعصية تعظم بحسب عظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها"(4).
(1) الموفقات، للشاطبي، (1/ 199).
(2)
المرجع السابق، (2/ 385).
(3)
المرجع السابق، (2/ 237).
(4)
المرجع السابق، (2/ 298 - 299).
وهذه القاعدة الأخيرة تشير إلى أن الشارع الحكيم لم يكتفِ بأن يعلم المكلف بأن في فعله للمأمور مصلحة له وفي اقترافه للمنهيات مفسدة تلحقه، وإنما ربط المصلحة بالطاعة؛ لتكون الطاعة حافزة على القيام بالفعل الصالح، وربط المفسدة بالمعصية؛ لتكون رادعة للمكلف عن اقتراف ذلك الفعل (1).
وقد قال العز ابن عبد السلام رحمه الله: "على رتب المصالح تترتب الفضائل في الدنيا والأجور في العقبى، وعلى رتب المفاسد تترتب الصغائر والكبائر وعقوبات الدنيا والآخرة"(2).
كما تشير هذه القاعدة إلى أن المصلحة والمفسدة يرجع تقديرها والحكم عليها إلى الشارع الحكيم سبحانه، وليس إلى محض العقول أو مجرد الأهواء.
فالمراد بالمصلحة ما يعتد بها شرعًا ويرتب عليها مقتضياتها (3) وعليه فقد ساق الشاطبي قاعدة بمثابة القيد للقاعدة التي معنا، وهي:"وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد، فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع، وعلى الحد الذي حدَّه، لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم"(4).
وليس في تقرير المصالح بالمنقول إزراء بالمعقول، فالعقل يدرك المصلحة والمفسدة، ولكنه ليس بشارع ولا حاكم، فهو مدرك للأحكام، وليس منشئًا لها، و"إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعًا، ويتأخر العقل فيكون تابعًا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل "(5).
وعليه فإن إدراك العقل للمصالح معتبر على أنه تابع لا متَّبَع، وانفلات العقل من
(1) قواعد المقاصد عند الشاطبي، د. عبد الرحمن الكيلاني، (ص 137).
(2)
قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 41 - 42).
(3)
المرجع السابق، (2/ 37).
(4)
المرجع السابق، (2/ 172).
(5)
المرجع السابق، (1/ 87).
ضوابط الشرع يصيره هوى محضًا، وباطلًا صرفًا.
"والمصالح المجتلبة شرعًا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية"(1).
إن قاعدة وضع الشريعة لحفظ مقاصدها في الخلق بإقامة مصالح العباد في العاجل والآجل تدل بجلاء على أن الشريعة ما وضعت إلا لسعادة المكلف في الدنيا والآخرة.
والتكاليف الشرعية وإن وجد فيها ما لا ينفك عنها غالبًا من المشقات إلا أنها مشقات محمودة العاقبة في الأولى والآخرة.
والله تبارك وتعالى خلق العبد ليعبده، وبالألوهية يُفرده، دلَّ على ذلك قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فكانت العبادة غاية وعلة لوجود الخلق.
ثم إنه -تعالى شأنه- جعل العبادة لحكمة جليلة ومقصد سامٍ، ألا وهو تحصيل التقوى، وإنما تراد الأعمال لما يقوم بالقلب من أحوال، دل على ذلك قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، وقال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وقال جل وعلا:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37].
ثم إن التقوى تعود عائدتها، وترجع فائدتها إلى المكلف وحده، فيسعد في الدنيا ولا يشقى، ويهنأ في الآخرة ويرضى.
فحصول البركة، وتيسير المعاش، وتتابع الخيرات، وتفريج الكربات، وانتظام
(1) المرجع السابق، (2/ 37 - 38).