الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بل وقع الإجماع على الإنكار على من يتشدد أو يضيق في العبادات أو الأحكام والتشريعات، والأخبار المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الطيبين وسلف الأمة الصالحين تؤكد هذا المعنى بحمد الله.
الأدلة العقلية:
كل ما ثبت دليلاً عقليًّا على نفي الحرج، فهو دليل على قاعدة المشقة تجلب التيسير، وقد سبقت تلك الأدلة قريبًا.
ضوابط التيسير:
موقف العلماء من دعوى التيسير طرفان ووسط، ففريق منهم سلك بالناس مسلك التشديد، فألزمهم ما لا يطيقون، ورجَّح الأخذ بالأحوط دائمًا، ورفض مبدأ التيسير في الفُتيا، مع أن الدين يسر، وأسلوبهم هذا يؤدي في كثير من الأحيان إلى التنفير من الالتزام بتعاليم الإسلام.
وعلى الجانب الآخر يقف الفريق الذي أفرط في التيسير فتساهل حتى جعل الدين مسرحًا للتلاعب، وراح يتتبع رخص المذاهب، وُيلفِّق بينها ويلتمس الحيل والشُّبه، ويهرب من الأدلة الواضحة.
وربما تذرعوا بالمصلحة تارة، وبالعرف تارة أخرى، وكثيرًا ما يتخذون اختلاف العلماء مدخلاً للترخص، واختيار الأسهل، وإن كان مرجوحًا!
وبين ذينك الفريقين فريق وسط -وخير الأمور أوسطها- لم يشددوا مثلما شدد المتنطعون، ولم يتساهلوا مثلما تساهل المتميعون، وإنما توسطوا فسلكوا مسلك التيسير المنضبط بضوابطه، المحكوم بشروطه وقواعده، التيسير الجاري على أصول الشريعة، المضبوط بالدليل الذي لا يصادم نصًّا صريحًا، ولا إجماعًا صحيحًا، ولا قاعدة كلية، ولا أصلًا عامًّا، ولا مقصدًا من مقاصد الشرع الحنيف، فهؤلاء أهدى سبيلاً، وأقوم قيلًا.
وعليه: فلا بد من توافر جملة من الضوابط والشروط التي تضبط الفُتيا في النوازل من الانحراف عن تطبيق مبدأ التيسير، وبيانها كالتالي:
الضابط الأول (1): وجود ما يدعو إلى التيسير:
فلا بد أن يوجد ما يدعو إلى التيسير من ضرورة، أو حاجة تتنزل منزلة الضرورة، أو مشقة تستوجب التيسير، والتحقق من حصول المشقة التي يستدعي نوعها التيسير؛ فإن التيسير ينبغي ألا يكون مُتَّخَذًا للعبث في الدين، أو مجاراة للأهواء، أو للتشهي وموافقة أغراض الناس، قال تعالى:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]، وليس كل مشقة تعرض للإنسان تستدعي التيسير، فإنَّ المشقة لا ينفك عنها عمل من الأعمال غالبًا حتى طلب الرزق، وقد بيَّن العز ابن عبد السلام في قواعد الأحكام أنواع المشقات وما يستدعي منها التيسير، وما لا يستحقه، فقال: "المشاق ضربان:
أحدهما: مشقة لا تنفك عنها العبادة كمشقة الوضوء والغسل في شدة السبرات، وكمشقة إقامة الصلاة في الحر والبرد، ولا سيما صلاة الفجر، وكمشقة الصيام في شدة الحر وطول النهار، وكمشقة الحج. . . فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات ولا في تخفيفها. . .
الضرب الثاني: مشقة تنفك عنها العبادات غالبًا، وهي أنواع:
النوع الأول: مشقة عظيمة فادحة كمشقة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأطراف، فهذه مشقة موجبة للتخفيف والترخيص. . .
النوع الثاني: مشقة خفيفة كأدنى وجع في إصبع أو أدنى صداع، أو سوء مزاج خفيف، فهذا لا لفتة إليه ولا تعريج عليه. . .
النوع الثالث: مشاق واقعة بين هاتين المشقتين مختلفة في الخفة والشدة، فما دنا منها من
(1) الرخص الشرعية أحكامها وضوابطها، د. وهبة الزحيلي، دار الخير، دمشق، ط 1، 1413 هـ - 1993 م، (ص 95)، ضوابط تيسير الفتوى، والرد على المتساهلين فيها، د. محمد سعد بن أحمد اليوبي، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1426 هـ، (ص 31).
المشقة العليا أوجب التخفيف، وما دنا منها من المشقة الدنيا لم يوجب التخفيف" (1).
فإذا وُجدت مشقة حقيقية غير معتادة، أو ضرورة يترتب على مخالفتها خطر، أو حاجة تنزل منزلة الضرورة -عامة أو خاصة- ويترتب على مخالفتها عسر وصعوبة وعنت، فعندئذٍ يتوجه الأخذ بالأيسر، ويصح للمفتي أن يعمل بمبدأ التيسير؛ لأن القاعدة أن:"الضرورات تبيح المحظورات" وأن "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة أو خاصة" وأنه: "لا واجب مع العجز، ولا حرام مع الضرورة"، قال تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وقال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .
أما إذا لم يوجد ما يدعو إلى التيسير؛ فإن التيسير عندئذٍ يكون اتباعًا للهوى، وتحكيمًا للشهوة، وهو حرام إجماعًا، قال الإمام ابن القيم رحمه الله:"لا يجوز للمفتي تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإنْ تَتَبَّعَ ذلك فسقَ، وحَرُمَ استفتاؤه"(2).
وقد نبه الشاطبي رحمه الله إلى أمر مهم، وهو أن الحرج إذا كان عامًّا اعتُبِر، وإذا كان خاصًّا لم يعتبر، ونقل عن ابن العربي (3) أنه قال:"إذا كان الحرج في نازلةٍ عامة في الناس فإنه يسقط، وإذا كان خاصًّا لم يعتبر عندنا، وفي بعض أصول الشافعي اعتباره"(4)
الضابط الثاني (5): أن يغلب على الظن حصول المقصود من التيسير:
فإذا كان الإفتاء بالأيسر لن يرفع الحرج، ولن يزيل المشقة، ولن يحقق المقصود منه
(1) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام (2/ 7، 8).
(2)
إعلام الموقعين، لابن القيم (4/ 222).
(3)
أبو بكر، محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله، ابن العربي، الأندلسي، الإشبيلي، المالكي، المعافري الحافظ المشهور صاحب التصانيف، من تصانيفه: عارضة الأحوذي، وأحكام القرآن، وغير ذلك، ولد سنة 498 هـ، وتوفي سنة 543 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (20/ 198)، ووفيات الأعيان، لابن خلكان، (4/ 296).
(4)
الموافقات، للشاطبي، (2/ 159).
(5)
ضوابط تيسير الفتوى، لليوبي، (ص 38).