الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم يكن متأهلًا لذلك، قادرًا على تحصيل آلة الاجتهاد، متمكنًا من ملكة الفقه، لم يعتبر اجتهاده ولم يُسَمَّ عملُهُ اجتهادًا أصلًا.
القيد الثالث: أن يكون في الشرعيات؛ فالاجتهاد -اصطلاحًا- خاص باستنباط الأحكام الشرعية دون الأحكام اللغوية والعقلية (1).
ومما يدخل في الاجتهاد -دخولَ الجزء في الكل- القياسُ، فهو جزء ونوع منه، وقد سئل الشافعي رحمه الله عن الاجتهاد والقياس، فقال: إنهما اسمان لمعنى واحد (2).
أي: أن القياس جزء من الاجتهاد؛ لكونهما يفضيان إلى استنباط حكم شرعي بعد بذل الجهد، والاجتهاد أعم من القياس، ومثل هذا يقال أيضًا في العلاقة بين الاجتهاد والاستحسان أو الاستصلاح (3)، وإن كان الشافعي رحمه الله يرفض الاستحسان والاستصلاح والرأي الذي لا يسوغ شرعًا، وهو ما كان فيه حمل النظير على نظيره والرد إلى أصل من الأصول دون تتبع للآثار والأحاديث أو النصوص (4).
الفرع الثاني: حكم الاجتهاد ومجالاته:
الاجتهاد مشروع إجمالًا بشروطه المعتبرة، والأصل فيه أنه واجب كفائي عند جمهور الأصوليين (5).
فإذا قام به البعض سقط التكليف عن الباقين، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ
(1) روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 352)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 458).
(2)
الرسالة، للشافعي، (ص 477).
(3)
مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، لعبد الوهاب خلاف، دار القلم، الكويت، ط 6، 1414 هـ - 1993 م، (ص 8).
(4)
الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف، لولي الله الدهلوي، دار النفائس، بيروت، 1403 هـ - 1983 م، (ص 44 - 45).
(5)
البحر المحيط، للزركشي، (6/ 198)، الفصول في الأصول، للجصاص، (4/ 24 - 80)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 460 - 468).
لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
فجعل الله تعالى المؤمنين في هذه الآية على فرقتين: أما الأولى فتحفظ أهل الإسلام بالجهاد، وأما الثانية فتحفظ شريعة الإسلام بالاجتهاد.
وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"(1).
وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قوله له: "بم تحكم؟ " قال: بكتاب الله، قال:"فإن لم تجد؟ " قال: بسنة رسول الله، قال:"فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره، وقال:"الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لما يُرضي رسولَ الله"(2).
ووقائع اجتهادات الصحابة كثيرة مشتهرة، في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده (3).
وحكم الاجتهاد قد يدور مع الأحكام الخمسة بحسب اختلاف الأحوال، فمن ذلك (4):
الوجوب العيني: وذلك في حق الفقيه المتأهل لرتبة الاجتهاد إذا نزل به ما يستوجب الاجتهاد، كما يتعين على المتأهل إذا لم يوجد غيره، أو خِيف فواتُ الوقت.
الاستحباب: وذلك إذا كانت الحاجة قائمة مع وجود غيره من المجتهدين وكان الوقت متسعًا.
الكراهة: وذلك إذا كانت المسألة مستبعدة الوقوع؛ لكونه لا نفع فيه، وكذا ما لا تتعلق به مصلحة خاصة ولا عامة، ولأن الصحابة فمن بعدهم تحرَّجوا من هذا النوع
(1) سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 200 - 217)، الفقيه والمتفقه، لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، تحقيق: عادل بن يوسف العزازي، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1417 هـ - 1996 م، (1/ 490 - 503).
(4)
المسودة، لآل تيمية، (ص 371)، البحر المحيط، للزركشي، (6/ 206 - 207).
حتى تنزل بالناس حاجة فعليَّة، بل ونَهَوا عن تلك الأغلوطات والاستغراق في الافتراضات البعيدة.
الحرمة: وذلك إذا كان في مقابلة نص قاطع أو إجماع صحيح، أو هما معًا، أو صدر من غير أهله، فيحرم الاجتهاد عندئذٍ ويحرم سؤال من لم يكن من أهله؛ لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
الإباحة: إذا كانت الحاجة لم تقم، لكنها متوقعة، وكان الوقت متسعًا، وحيث خلا الاجتهاد عن حكم من الأربعة السابقة فهو مباح.
والاجتهاد الشرعي يعمل في مجالات ويمتنع في أخرى، فيمتنع الاجتهاد عند وجود ما دلالاته قطعية من نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، وكذا ما أُجمع على حكمه من المسائل، وهذا كما يشمل أصول الدين والعقيدة يتناول مسائل الفقه أيضًا، كإيجاب الفرائض وتحريم الكبائر.
ويعمل الاجتهاد عمله عند عدم وجود النقل من الكتاب أو السنة الصحيحة، أو لدى وجود ما دلالاته ظنية وليست بقطعية، أما مع ورود النص القاطع فلا.
ذلك أن مرتبة الاجتهاد متأخرة عن الكتاب والسنة والإجماع باتفاق أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم (1).
فلا يحل لمجتهد أن يجتهد ليعارض نصًّا قطعيًا محكمًا غيرَ منسوخ، فلا اجتهاد مع النص أو لا مساغ للاجتهاد في مورد النص (2).
(1) وقد نقل ذلك أبو عمر يوسف بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1414 هـ - 1994 م، (2/ 848)، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه، (1/ 504 - 510)، وابن القيم في إعلام الموقعين، (1/ 67 - 68).
(2)
شرح القواعد الفقهية، لأحمد الزرقا، دار القلم، دمشق، ط 2، 1409 هـ - 1989 م، (ص 147).
وقد عبَّر الشاطبي رحمه الله عن مجال الاجتهاد ومَحالِّه المعتبرة لجريان الاجتهاد المقبول فيها بقوله: "مجال الاجتهاد المعتبر ما تردد بين طرفي النفي والإثبات"(1).
فهو يسلط الضوء على مسرح الاجتهاد المعتبر من المجتهد المتأهل لذلك بأنه ما لم يظهر فيه مقصود الشارع ظهورًا بينًا في الإثبات أو النفي؛ بل ما تردد بينهما.
فأفعال المكلف -سواء أكانت قلبية أم بالجوارح، فعلًا أم كفًّا- لا تخلو من أن يَرِدَ فيها خطاب للشارع أو لا.
فإن لم يَرِدْ فيها خطاب للشارع فهي إما فرض غير موجود، وإما أن تحمل على البراءة الأصلية، وهذا يرجع إلى خطاب الشارع بالعفو أو غيره، وفي الحديث:". . . وترك أشياء من غير نسيان من ربكم ولكن رحمة منه لكم"(2).
فإن كانت مما ورد فيه خطاب شرعي، وظهر فيه قصد الشارع في النفي أو الإثبات، فهذا قطعي في دلالته، وليس من مَحالِّ الاجتهاد أو مجالاته.
فإن لم يظهر فيه قصد مؤكد للشارع في النفي أو الإثبات وكان مترددًا بينهما فهو ظني اجتهادي، ومراتب الظني في النفي أو الإثبات تختلف وتتفاوت شدةً وضعفًا، حتى تنتهي إما إلى العلم في طَرَفٍ، وإما إلى الشك في الطرف الآخر، فما كان من
(1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 155).
(2)
أخرجه: أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في "سننه"، تحقيق: مجموعة من المحققين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1424 هـ / 2004 م، كتاب الرضاع، (5/ 325)، والحاكم في "مستدركه"، كتاب الأطعمة، (4/ 115)، وأبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني في "المعجم الكبير"، (22/ 221)، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، ط 2، 1404 هـ - 1983 م، وغيرهم، من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه مرفوعًا، قال:"إن الله حدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء. . . " فذكره؛ "فاقبلوها ولا تبحثوا فيها". ورُوي موقوفًا عليه، ورُوي نحوه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وصححه الحاكم، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 171)، "رواه الطبراني في "الكبير". . . ورجاله رجال الصحيح" اهـ.
النصوص قطعيًّا في ثبوته ودلالته فلا مجال للاجتهاد فيه، وعليه تتنزل القاعدة الأصولية:"اجتهاد مع النص".
أما الأحكام التي تتعلق بنصوص ظنية الثبوت أو الدلالة فيجري فيها الاجتهاد، وكذا ما لم تَرِدْ بشأنه نصوص معلومةٌ للمجتهد.
وكما أنه لا محل للاجتهاد في المسائل المنصوصة بنصٍّ قطعيِّ الثبوت والدلالة فلا يجوز أيضًا أن تتحول الظنيات إلى قطعيات! ولا يصلح بحال أن تتحول الاختيارات الفقهية إلى ثوابت منهجية!
ومع أهمية التأني والتثبت عند مخالفة المذاهب الأربعة إلا أنه لا حرج على المتأهل أن يجتهد فيخالف؛ فإن أحدًا من علماء المذاهب الأربعة لم يقل: إن اتفاقها حجة شرعية، ولو قالوه لم يعتبر قولهم، لأنهم خالفوا فيه أئمتهم من ناحية، ولأنهم مقلِّدون من ناحية أخرى، والمقلِّد لا يقلَّد (1)، أما أئمة المذاهب أنفسهم فقد حذروا من تقليدهم، ولم يدَّعوا لأنفسهم العصمة (2).
وبناء على ما سبق فإن هذا الأصل تحته صور يسوغ للمجتهد أن ينظر فيها، وهي كما يلي:
1 -
أن تكون هذه المسألة مما ليس فيها نص قاطع ولا إجماع.
2 -
أن يكون ما ورد فيها من أدلة محتملًا قابلًا للتأويل، أو النصوص فيه متعارضة في الظاهر، وتحتاج إلى جمع أو ترجيح.
3 -
أن تكون المسألة مترددة بين طرفين وضح في كل واحد منهما مقصد الشارع في
(1) يجوز تقليد فتيا المقلد إذا كان قادرًا على نقل الفُتْيَا مضبوطة، ولم يكن سواه في موضع الاستفتاء. البرهان في أصول الفقه، لأبي المعالي عبد اللك بن عبد الله الجويني، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، دار الأنصار، القاهرة، (2/ 1353)، المسودة، لآل تيمية، (ص 549 - 550).
(2)
الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، دار القلم، الكويت، ط 3، 1420 هـ - 1999 م، (ص 236).
الإثبات، والنفي في الآخر.
4 -
ألا تكون المسألة المجتهَد فيها من مسائل أصول الاعتقاد؛ فإن الخلاف في هذه المسائل لا يسوغ، وينكر فيها على المخالف لعقيدة الصحابة والسلف.
وبالجملة فإن من شروط المجتهد والاجتهاد المعتبر أن يتعلق بمَحالِّه، وهذا لا يتأتى إلا بأن يعرف المجتهد مواطن الإجماع والاختلاف.
وقد قال قتادة رحمه الله (1): "من لم يعرف الاختلاف لم يشمَّ أنفه الفقه"(2). وعن هشام بن عبيد الله الرازي رحمه الله (3): "من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه"(4).
وعن عطاء رحمه الله (5) قال: "لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالمًا باختلاف الناس؛ فإنه إن لم يكن كذلك ردَّ من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه"(6).
والأصل أن المجتهد لا ينشئ الأحكام من تلقاء نفسه، وإنما يكشف عنها، ومهمته حراسة الأحكام الشرعية من أن تضيع أو تُبدَّل أو تُحرَّف، وليس له حقُّ التشريع؛ إذ هو
(1) أبو الخطاب، قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز، السدوسي، البصري، قدوة المفسرين والمحدثين، روى عن أنس ابن مالك، وابن المسيب، وروى عنه الأوزاعي، وأيوب السختياني، ولد سنة سنة 60 هـ، وتوفي سنة 117 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (7/ 133)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 269).
(2)
جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (2/ 815).
(3)
هشام بن عبيد الله الرازي، تفقه على أبي يوسف، ومحمد، روى عن مالك، وابن أبي ذئب، وروى عنه أبو حاتم، وأحمد بن الفرات، توفي سنة 221 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (9/ 67)، الجواهر المضية، لمحيي الدين القرشي.
(4)
المرجع السابق، (2/ 816).
(5)
عطاء بن عبد الله بن أبي مسلم، البلخي الخراساني، المحدث، الواعظ، نزيل دمشق والقدس، ولد سنة 50 هـ، وتوفي سنة 135 هـ. التاريخ الكبير، لمحمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق: السيد هاشم الندوي، دار الفكر، (6/ 474)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (6/ 140).
(6)
المرجع السابق، (2/ 816).